الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (1)

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (1)
الثلاثاء ١٨ أكتوبر ٢٠٢٢ - ٠٩:٣٣ ص
47

 

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (1)

كتبه/ أشرف شريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال تعالى في سورة الروم: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".

في هذه الآية عِبَر وعظات، وفوائد ونكات، جاءت في ثوب قشيب من نسق وأنساق سامقة، وبلاغة معجزة آسرة، قال سبحانه: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ": الْأَمْرُ هنا مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ؛ ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام وتابعيهم بإحسان على دين قويم ومنهج مستقيم، وكذلك الناس مفطورون على توحيد الله سبحانه، وهو خِطَابٌ لِمُفْرَدٍ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، فالخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به الأمة جمعاء، فصار خطابًا لكلِّ فرد مكلَّف من الأُمة المحمدية في شخص نبيها -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو إمامها، أو خطاب لكل مكلف مباشرة.

ومعناه: قَوِّمْ وجهك له وعَدّله، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى الدِّينِ، وَالتَّمَحُّضِ لِلشُّغْلِ بِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَثَبَاتِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِالشَّيْءِ، عَقَدَ عَلَيْهِ طَرْفَهُ وَقَوَّمَ لَهُ وَجْهَهُ مُقْبِلًا بِهِ عَلَيْهِ.

قال القاسمي رحمه الله: "وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ورعاية حقوقه وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له؛ لمراعاته والاهتمام بحفظه".

وللقشيري في لطائف الإشارات تأويل حسن يتناسب والمقام حيث يقول: "أخلص قصدك إلى الله، واحفظ عهدك مع الله، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله".

وقال ابن رجب الحنبلي: "إخلاصُ قصدِه وعزمِه وهمِّه للدينِ الحنيفِ".

قلت: ولا مانع مع تلك المعاني الحقة السابقة أن يكون الوجه على الحقيقة أيضًا؛ إذ استقامة الظاهر وتوحيد توجهه واستدامة الوقوف وإظهار الافتقار بعبارات الوجه وتعبيراته وما يتبعه من حركات الجسد له أثر حقيق على الباطن ومآل العبد، وهذا ظاهر في نحو قول النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يَمْسَحُ المَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ"، وقوله: "لتسوُّن صفوفَكم أو ليُخالِفَنَ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ"، وفي رواية: "بَيْنَ قُلُوبِكُمْ"، فتسوية الصف -وهذا أمر ظاهر- له أثر ما يكون في الباطن مِن: التآلف، وكذا استقامة الظاهر بعبارات الوجه وتعبيراته. والله أعلم.

وهذا من المواطن البديعة التي يكون فيها كل من المعنى الحقيقي والمجازي حسنًا في دلالته متضمنًا للمراد، وكل منهما يكون متممًا للآخر، وهذا من بديع البلاغة وأثرها الباسق في الخطاب.

وَذَكَرَ الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعُ حواس الإنسان وأشرفه، أي: أقبل بِكُلِّكَ على الدين، فعبَّر عن الذات بالوجه، وعليه فذكر الوجه مجاز مرسل علاقته الجزئية، حيث ذكر الجزء وأراد الكل، ومن هنا يبرز عنصر الجمال وبديع المقال الكامن في المبالغة التي هي إحدى أسرار هذا المجاز البياني اليانع، ويتجلَّى أثرها الرائق في المعنى حيث الوجه بما فيه من نظر يتبعه الفكر والعقل ومن ورائهما القلب الذي هو كالملك والأعضاء كالرعية، ليؤثر القلب في الحواس بما أصابه من سحر المعنى الذي أوحى به الفكر العامل في تلك المبالغة المثيرة، فيكون قصد العبد وعمله وتوجهه بكُلِّيَتَه خالصًا لله وحده.

وَالدِّينُ: دِينُ الْإِسْلَامِ. وحَنِيفًا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في أَقِمْ، أي: أقم أنت، فَيَكُونُ حَالًا لِلنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ حالًا مِنَ "الْوَجْهِ"، أَوْ حَالًا مِنَ الدِّينِ؛ فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً بِتَشْبِيهِ الدِّينِ بِرَجُلٍ حَنِيفٍ فِي خُلُوِّهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَمَعْنَاهُ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ المنسوخة ببعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته السمحاء.

"وَحَنِيفٌ": صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الِاتِّصَافِ بِالْحَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ، وَغَلَبَ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْمَيْلِ عَنِ الْبَاطِلِ والشِّرْكِ، أَيِ: الْعُدُولُ عَنْهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَقِّ.

والمعنى: كن مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَا التوحيد الخالص، من الشرك وما يؤدي إليه أو يقرب منه أو يكون ذريعة له، وأَقْبِلْ عَلَى الدِّينِ الخالص بكُلِّيَتِك وَمِلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فلَا يَكُن فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَتَعُودَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ".

وفائدة المبالغة في هذا الباب: أن الميل عن الشرك إلى التوحيد ليس المراد منه مجرد الميل، بل شدة الميل والمبالغة فيه، حتى إن المرء لا يتحمل في هذا الباب أي تأويل فاسد أو تعبير كاسد لما كان ظاهره التشريك، ولو باللفظ، فيسد المرء كل ذريعة قد تفسد عليه توحيده وإخلاصه؛ فهذا اللفظ القرآني والتعبير الرباني "حَنِيفًا" بدلالته البيانية وجماله البديعي يفضح أولئك الذين ينادون وليًّا صالحًا قد مات ويقولون: مدد يا فلان! ثم يتألون ذلك بأنهم ينادون الله، فهؤلاء لم يحققوا المعنى الحقيق لقوله: "حَنِيفًا" بسدِّ أي باب يوهم ظاهرًا الإشراك.

مع ما يحمله هذا الطلب للمدد من هذا الولي الميت من السوء البالغ الشناعة في الخطاب؛ إذ البشر يستقبحون أن تنادي على شخص باسم غيره، بل هذا موهم عندهم؛ لذا هو غير مقبول لا لغة ولا بلاغة؛ فكيف أقول: يا عمرو، ثم أقول: أنا أقصد يا زيد؟! أي لغة هذه؟!

فلا ريب أن هذه ليست عربية، وزاعم ذلك يستخف بالعقول، فليتقِ الله أرباب المنامات والتأويلات والسفسطة والقرمطة؛ فهم بذلك من أهل التأويلات الباطنية الذين وَرَدَ ذمهم والتحذير منهم على لسان أئمة الإسلام في كلِّ زمان ومكان، وحسبك كتاب أبي حامد الغزالي عن الباطنية.  

وللحديث بقية إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة