الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (87) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (7)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (87) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (7)
الثلاثاء ١٨ أكتوبر ٢٠٢٢ - ٠٩:٤٠ ص
64

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (87) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (7)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة السابعة:

دَلَّ قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، على أن إرسالَ الرُّسُل من آثار صفة العزة وصفة الحكمة لله تعالى؛ فهو لكمال عزته لم يكتفِ في إقامة الحجة على الناس وتعذيبهم بذنوبهم وشركهم وكفرهم، بالميثاق الذي أخذه عليهم وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام، بأنه سبحانه وتعالى ربهم، وأن لا يشركوا به شيئًا، ولا بأنه قد فطرهم سبحانه وتعالى على التوحيد كما قال تعالى: (فَأَقِمْ ‌وَجْهَكَ ‌لِلدِّينِ ‌حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).

وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ ‌الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ)، وفي الحديث الصحيح أيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ‌فَاجْتَالَتْهُمْ ‌عَنْ ‌دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) (رواه مسلم).

بل هو لا يعذبهم سبحانه إلا بعد إرسال الرسل؛ لئلا لا يكون للناس حجة بعد الرسل، والرسل تذكرهم بالميثاق الأول، وتذكرهم بالفطرة التي بُدِّلت عندهم إلى اليهودية أو النصرانية، أو المجوسية، أو غيرها؛ فإذا تذكروا بدعوة الرسل وَجَدوا أن التوحيد وتصديق الرسل هو الذي يجدونه حقًّا في قلوبهم بمقتضى هذه الفطرة، وهي أثر الميثاق الأول، وليست هي الميثاق الأول، لكنها مِن آثاره، ولا يوجد بين السَّلَف مَن ينكر الميثاق الأول، وهو الثابت في الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ؛ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، ‌فَأَبَيْتَ ‌إِلَّا ‌أَنْ ‌تُشْرِكَ بِي!).

وهذه الفطرة وهذا الميثاق الأول إنما كان حجة للميثاق الآخِر؛ لميثاق الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وليس حجة مستقلة؛ كما زعم مَن يخالف ذلك -كابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن أبي العز شارح الطحاوية رحمهم الله- ممَّن قالوا: إن في المسألة قولين للسَّلَف، وجعلوا قول الحسن في ذلك مخالفًا لكلِّ الصحابة والتابعين في ذِكْره الفطرةَ في هذه الآية، مع أن للحسن رواية صحيحة واضحة أنه يُثبِت الميثاق الأول، وهو قد بَيَّن أن الفطرة أثر للميثاق الأول كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنهما.

فتنبه لهذه المسألة الخطيرة، مع كون هؤلاء الأئمة جميعًا يقولون: إن الحجة لا تتم إلا ببعثة الرسل؛ ولعل ختم الله تعالى الآية الكريمة بهذين الاسمين الكريمين: العزيز والحكيم في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، وتبيين أن بعثة الرسل من آثار العزة والحكمة؛ هو السر في ختم عيسى صلى الله عليه وسلم دعاؤه يوم القيامة: (‌إِنْ ‌تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)؛ ففي ذلك -والله أعلم- إشارة إلى أن مَن يمكن أن يُغفَر الله لهم ممَّن أشركوا مِن النصارى إنما يكون لمَن تقم عليهم الحجة لعدم وصول الكتب لهم وتقليدهم الأحبار والرهبان، ولم يبلغهم عن عيسى صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره شيء خلاف ما بلغهم؛ فإن هؤلاء يكونون مِن أهل الامتحان يوم القيامة، وقد يُغفَر لبعضهم إذا استجابوا لأمر الله عز وجل، وهذا مقتضى عزته وحكمته أن لا يعذب أحدًا لم تبلغه دعوة الرسل بالتوحيد، وبالتفصيل الذي جاءوا به، والله أعلم.

ومع ثبوت هاتين الحجتين: الميثاق الأول، والفطرة لم يعذب الله أحدًا إلا بعد إرسال الرسل؛ قال تعالى: (‌وَمَا ‌كُنَّا ‌مُعَذِّبِينَ ‌حَتَّى ‌نَبْعَثَ ‌رَسُولًا) (الإسراء: 15)، أي: وتبلغ الناس دعوة هذا الرسول، كما قال تعالى: (‌وَأُوحِيَ ‌إِلَيَّ ‌هَذَا ‌الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19).

وهذا الأصل مجمع عليه عند أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة الذين قالوا بأن الحجة العقلية -بزعمهم!- وهي: عِلْم الكلام والمنطق، وهي في الحقيقة ليست حجة عقلية، بل مجرد شبهات كلامية؛ جعلوها حجة ثابتة على العباد في أصل الدِّين وبعض فروعه، يعذَّبون عليها يوم القيامة ولو لم تبلغهم دعوة الرسل؛ إجمالًا في أصل الدِّين، وتفصيلًا في تفاصيل الإيمان وفروع الدِّين.

وللأسف قد بدَّل بعض المنتسبين إلى السنة والسلف لفظ الحجة العقلية عند المعتزلة إلى حجة الفطرة، فلم يعذروا بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وزعموا أن التوحيدَ وترك الشرك لا يلزم فيه دعوة الرُّسُل صلى الله عليهم وسلم، وفي بعض فروع الدِّين كذلك، التي زعموا أن منها: حرمة الزنا، والفواحش، والقتل، والظلم، ووجوب العدل، ونحو ذلك، وقالوا: هذه أيضًا لا يُعذر فيها بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وسيعذب الناس عليها ولو لم تبلغهم الحجة الرسالية؛ لأنهم فُطِروا على ذلك!

ولا شك أن الأمر سيختلف حسب نظر كلِّ واحدٍ في أن هذا يُعذَّب عليه أو لا يعذب عليه؛ لأنه يراه مِن الفطرة، ولا شك أن هذا هو قول المعتزلة مع تغيير الألفاظ.

وقد غَرَّ الكثيرين انتسابُ هؤلاء للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي يسير على طريقة السَّلَف، وما بينه رحمه الله من عدم تكفير المسلم الذي قد شهد الشهادتين، ولو عَبَد الصنم الذي على قبر البدوي؛ لأجل جهل مَن يصنعون ذلك وعدم مَن ينبههم، كما نص على ذلك في رسائله؛ فظن المغرورون بهؤلاء المنتسبين إلى دعوته أن في المسألة خلافًا، وجَعَلَها بعضهم من مسائل علم أصول الفقه؛ ليخرجوا من الإجماع الذي نقله غير واحدٍ من أهل العلم، في أنه لا يُكفَّر مسلمٌ قال قولًا عن جهل أو أوَّله بشبهة.

فدخل التكفير الواسع لعمومٍ مِن المسلمين؛ خصوصًا بعد ظهور قضية الحكم بغير ما أنزل الله بعد الاحتلال الغربي، وحصول كثير من مسائل موالاة الكفار؛ فاتسع باب التكفير الذي ضيَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ ‌بَاءَ ‌بِهَا ‌أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَلَعْنُ المُؤْمِنِ ‌كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ ‌كَقَتْلِهِ) (متفق عليه).

وبَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أن الله يحب العذر، بل قال: (لَيْسَ أَحَدٌ ‌أَحَبَّ ‌إِلَيْهِ ‌الْعُذْرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه)، فخالفوا ذلك كله، ونَشَروا هذا الفكر الخطير باسم: "السُّنَّة!"، وغَرَّهم تردد بعض أهل العلم المعاصرين في قضية العذر بالجهل، وليس بعيد أن تغيبَ مسألة عقدية أو عملية عن بعض أهل العلم؛ لأنهم نشأوا على قول طائفةٍ كبيرةٍ مِن أسلافهم لا يعذرون بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والعِبْرَة بالأدلة التي بيَّنها غيرُهم، ومَن سبقهم مِن العلماء.

واختلط عليهم تفريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بين فهم الحجة وبلوغ الحجة؛ فظنوا أن مجرد  تلاوة القرآن في المحاريب والمجالس والإذاعات كافٍ في إقامة الحجة، وغفلوا أن الحجة لا بد أن تكون بلسان القوم، وقد غاب عنهم أن القومَ عوام غلبت عليهم العجمة، واللغة العامية، وتلبيس شيوخ الضَّلَال عليهم حقيقة معنى الآيات؛ فهم لا يفهمونها حتى تُبيَّن لهم بلسان قومهم، وتُفَسَّر لهم بالبساطة التي يفهمونها فهنا تكون قد قامت عليهم الحجة؛ فإن أعرضوا عنها فهم الذين أعرضوا، (وَمَنْ أَظْلَمُ ‌مِمَّنْ ‌ذُكِّرَ ‌بِآيَاتِ ‌رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (السجدة: 22)، وهذا الذي ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض التوحيد: "إذا أعرض عن الحجة بعد قيامها"، وليس قبل ذلك.

وازداد الخلط عند الكثيرين بعد نشوء دعوة "سيد قطب" بقضية المجتمع الجاهلي، وقَبْله المودودي في كتابه: "المصطلحات الأربعة في القرآن" التي وَسَّعت نطاق التكفير.

ثم فَسَّر بعضُ أتباع "سيد قطب" فكره بأنه فكر: "التوقف والتَّبَيُّن"، وجعلوا عامة مجتمعات المسلمين "التي لا تنتمي إليهم" إما كفارًا؛ لأنهم خالفوا في المسائل التي جعلوها حدًّا للإسلام -النسك والولاية والحكم-، وإما طبقة متميعة لا يشغلون أنفسهم بالحكم عليها وتوقَّفوا في إسلامها، وعند الحاجة يعاملونهم كالكفار، وربما عرَّضوهم للقتل دون أتباعهم الذين حَرصوا على تجنيبهم ذلك، وزعموا أن مَن كان منهم مسلمًا في الباطن؛ فهو شهيد فترتب على ذلك جرأتهم على التسبب في قتل المسلمين؛ فضلًا عن تكفير مَن خالفهم في الأمور السياسية! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم جاء مَن هم أشدُّ غلوًّا كـ"تنظيم القاعدة"؛ الذي نَبَع منه تنظيم "داعش"؛ ساموا المسلمين قبل غيرهم أنواع القتل، والتنكيل، والتحريق بحكم الجهال مِن قضاتهم، وبدون حكم أيضًا، بل بالجرأة الفظيعة على القتل وعلى التكفير بمجرد الشبهة، ولا يزال هذا حالهم في سيناء، والشام، وغيرها.

وقد دَمَّروا بلاد العراق والشام بتشويه صورة الإسلام الحق فيها، وتشويه اسم الجهاد والخلافة والحدود والجزية حتى كَرِه كثيرٌ مِن الناس ذلك، وحصل البلاء العظيم الذي زالت به في النهاية دولتهم المزعومة، وتحولوا إلى عصابات القتل والتخريب في بلاد المسلمين، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرَّهم، وشر كلِّ ذي شر من الكفار والمنافقين والمبتدعين.

وكل ذلك بسبب إهمال هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وهي مِن قواعد السُّنَّة كذلك، وإجماع أهل السنة في وجوب إقامة الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، والتفريق بين تكفير المُعَيَّن الذي استوفيت فيه الشروط وانتفت الموانع، وبين تكفير النوع الذي يطلق كما أطقته النصوص.

وسوف ننقل جمعًا من الأدلة والنقول عن الأئمة والعلماء في هذه المسألة المهمة في المقال القادم إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة