الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (89) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (9)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (89) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (9)
الثلاثاء ٠١ نوفمبر ٢٠٢٢ - ١٠:٥١ ص
72

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (89) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (9)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة التاسعة:  

قال ابن حزم -رحمه الله-: "وقد صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، فلما حضره الموت قال لأهله: إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح، نصفه في البحر ونصفه في البر، فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذابًا لم يعذبه أحدًا من خلقه، وأن الله عز جل جمع رماده فأحياه وسأله: ما حملك على ذلك؟ قال: خوفك يا رب. وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.

قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض مَن يحرِّف الكلم عن مواضعه: أن معنى لئن قدر الله عليَّ؛ إنما هو لئن ضيَّق الله علي، كما قال تعالى: "وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه".

قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن؛ لأنه كان يكون معناه حينئذٍ: لئن ضيَّق الله علي ليضيقن علي، وأيضًا: فلو كان هذا؛ لما كان لأمرهم بأن يُحرَق ويذر رماده، معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت مِن عذاب الله تعالى.

(قلتُ: هذا الحديث الصحيح الثابت المتلقَّى بالقبول من الأمة؛ دَلَّ على أن الجهل ولو في أصول الدِّين، ولو في صفات الله عز وجل والإيمان باليوم الآخر، إذا كان ناشئًا عن عدم البلاغ ولو بتقصير في طلب العلم؛ لا يكفَّر صاحبه حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها؛ وذلك أن هذا الرجل جهل ثلاثة أصول عظيمة من أصول الدين: جهل قدرة الله عز وجل عليه، وشك في البعث بعد الموت، وشك في عِلْم الله عز وجل.

وقد دَلَّ على ذلك رواية حَسَّنها ابن حجر في فتح الباري: أن الرجل قال: لعلي أُضِلُّ الله! فهو يظن أنه بذلك يفوت من الله، وأن الله لا يدري أين هو، وكل واحدة من هذه كفر، ومع ذلك فقد نَجَى الرجلُ في نهاية الأمر، ولا يلزم من المعفرة له أن لا يعذب على تفريطه في الطاعة وعلى تقصيره في طلب العلم، فإن في رواية أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لهذه القصة: أن هذا الرجل هو آخر مَن يخرج مِن النار، فدل ذلك على أنه عُوِقَب ثم غُفِر له، وهذه المسألة من أهم الأمور؛ أعني مسألة مَن قَصَّر في طلب العلم، لكنه لم يبلغه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم خِلَاف ما اعتقده).

قال أبو محمد: وأبْيَن من شيء في هذا: قول الله تعالى: "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" إلى قوله: "ونعلم أن قد صدقتنا"؛ فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ولم يبطل بذلك إيمانهم، وهذا ما لا مخلص منه، وإنما كانوا يكفَّرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة، وتبيُّنهم لها.

قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو: أن الأمةَ مجمعة كلها بلا خلاف مِن أحدٍ منهم، وهو أن كلَّ مَن بدَّل آية من القرآن عامدًا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، وأسقط كلمة عمدًا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدًا؛ فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه جاهلًا مقدِّرًا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبيَّن له الحق، ولا يكون بذلك عند أحدٍ من الأمة كافرًا ولا فاسقًا ولا آثمًا، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك مِن القراء مَن تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه؛ فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.

وقال أيضًا رحمه الله: وقال قائلهم: فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا، فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل؛ فإنهم أيضًا مجتهدون قاصدون الخير!

فجوابنا -وبالله تعالى التوفيق-: أننا لم نعذر مِن عذرنا بآرائنا، ولا كفَّرنا مَن كفرنا بظننا وهوانا، وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحدًا دونه، ولا يدخل الجنة والنار أحدٌ، بل الله تعالى يدخلها مَن شاء، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا مَن سَمَّاه الله به؛ كل ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف اثنان مِن أهل الأرض لا نقول من المسلمين، بل مِن كل ملة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة؛ غير الإسلام الذي تبرأ أهله مِن كل ملة حاشا التي أتاهم بها عليه السلام فقط، فوقفنا عند ذلك، ولا يختلف أيضًا اثنان في أنه عليه الصلاة والسلام قطع باسم الإيمان على كلِّ مَن اتبعه وصدَّق بكلِّ ما جاء به، وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا أيضًا عند ذلك، ولا مزيد؛ فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه؛ سواء أُجمِع على خروجه منه أو لم يجمع، وكذلك مَن أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام؛ فواجب اتباع الإجماع في ذلك.

وأما مَن لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له، ولا إجماع في خروجه أيضًا عنه؛ فلا يجوز إخراجه عما قد صَحَّ يقينًا حصوله فيه، وقد نص الله تعالى على ما قلنا، فقال: "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وقال تعالى: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا أولئك هم الكافرون حقًّا"، وقال تعالى: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون.  لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"؛ فهؤلاء كلهم كفار بالنص، وصَحَّ الإجماع على أن كل مَن جحد شيئًا صح عندنا بالإجماع: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى به؛ فقد كفر، وصح بالنص: أن كل مَن استهزأ بالله تعالى أو بمَلَك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدِّين؛ فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر، ومَن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، أو جحد شيئًا صَحَّ عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كافر؛ لأنه لم يحكِّم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَر بينه وبين خصمه.

وقال أيضًا رحمه الله: وسألوا أيضًا عما قال: أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض، ولكن لا أدري: أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس؟ وأنا أدري أن الخنزير حرام، ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به؟

قال أبو محمد: وجوابنا هو: أن مَن قال هذا؛ فإن كان جاهلًا عُلِّم ولا شيء عليه؛ فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا، وإن كان عالمًا فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى؛ فهو كافر مرتد حلال الدم والمال.

 ومَن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن، وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا؛ لأنهما لم يكونا حينئذٍ مكذبين لله تعالى، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا.

وأما مَن سَبَّ أحدًا مِن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن كان جاهلًا فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمَن زنى وسرق، وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب -وحاطب مهاجر يدري-: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطبًا كافرًا، بل كان مخطئًا متأولًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية النفاق بغض الأنصار، وقال لعلي: لا يبغضك إلا منافق.

ومَن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مِن إظهار الإيمان بأيديهم، ومَن عادى عليًّا لمثل ذلك فهو أيضًا كافر، وكذلك مَن عادى مَن ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك.

وقد فَرَّق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد، بأن قال: قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا فلم يكفِّر بعضهم بعضًا، ولا فسَّق بعضهم بعضًا.

قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء، فقد حدث إنكار القدر في أيامهم، فما كفَّرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم (قلتُ: بل ظاهر كلام ابن عمر وغيره من الصحابة، تكفير غلاة القدرية الذين قالوا: لا قَدَر، وأن الأمر أنف؛ وذلك أن مقتضى قولهم: إنكار علم الله عز وجل إذ هو أول مراتب القدر. وقد قال عمرو بن عبد العزيز وغيره: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أنكروا كفروا، وإن أقروا خصموا؛ فدل ذلك على تكفير مَن أنكر علم الله عز وجل).

قال أبو محمد بن حزم: وقد اختلفوا في الفتيا على ذلك، وسُفِكَت الدماء؛ كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفًا ونصفًا وثُلُثًا (قلتُ: يعني العول الذي خالف فيه جماهير الصحابة والعلماء رضي الله عن الجميع).

قال أبو محمد: ونحن نختصر ها هنا إن شاء الله تعالى، ونوضِّح كلَّ ما أطلنا فيه، قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ"، وقال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا"؛ فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب؛ فصح أنه لا يكفر أحدٌ حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عَمِل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمٌ بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل؛ فلا شيء عليه أصلًا حتى يبلغه.

(قلتُ: أما مَن لم يبلغه خبرَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان موحِّدًا: كبعض أهل الكتاب، وبعض مَن كان على الحنيفية يعرف ربه عز وجل ويعبده وحده، دون علم بتفصيل العبادة لم يجز تكفيره كما ذَكَر، وأما إن كان مشركًا ولم يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خبر غيره مِن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فهو كافر معذور في الدنيا، فلا يقتل حتى يبلَّغ ويدعى إلى الإسلام، وفي الآخرة فلا يعذب، بل يمتحن؛ فإن أطاع الله عز وجل نجا).

قال: فإن بلغه وصح عنده؛ فإن خالفه مجتهدًا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ فله أجر"، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء، وإن خالفه بعمله معاندًا للحق معتقدًا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق، وإن خالفه معاندًا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك؛ سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا، وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره، وبه نقول. وبالله تعالى التوفيق" (الفصل في الملل والنحل، 140/ 3).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة