الثلاثاء، ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٣ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

النبي صلى الله عليه وسلم بين بيان منزلته وتواضعه

النبي صلى الله عليه وسلم بين بيان منزلته وتواضعه
الخميس ١٠ نوفمبر ٢٠٢٢ - ١٠:٥٦ ص
88

 

النبي صلى الله عليه وسلم بين بيان منزلته وتواضعه

كتبه/ كريم صديق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان النبيُّ صلوات الله عليه ذا منزلة عظيمة عند ربه، وإذا كان الإنسان ذا منزلة كهذه، وعرف الناس منزلته حق المعرفة سهل على نفوسهم الانقياد لأوامره، فهذه طبيعة نفوس البشر؛ الانصياع والخضوع لمن عظمت صورته في نفوسهم، "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"؛ فهذا ما دأبت عليه النفس البشرية.

ولذا كان إبراز هذه المنزلة التي حباه الله بها؛ لتجتمع قلوب الناس إليه، وتسهل على نفوسهم تقبل أوامره بصدر رحب، من غير أن يجدوا حرجًا من ذلك، ومن ذلك قوله: "فُضّلتُ على الأنبياء بسِتّ: أُعْطِيتُ جَوَامعَ الكَلِم، ونُصْرتُ بالرُّعْب، وأُحِلّت ليَ الغنائمُ، وجعلت لي الأرضُ طَهورًا ومسجدًا، وأُرسِلْتُ إلى الخلق كَافَّة، وخُتِم بيَ النَّبيُّونَ"؛ فهو صلوات الله عليه فضَّله الله عز وجل بمناقب ليست عند غيره من الأنبياء الذين اصطفاهم الله برسالته، فقد أعطي القرآن، وقذف الرعب في قلوب أعدائه، وأحلت له الغنائم في الحروب، والصلاة في أي موضع، والتيمم عند فقد الماء، وكونه صلوات الله عليه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده.

وقال صلوات الله عليه: "أنا سَيِّدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة، وأولُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرضُ، وأولُ شافع وأولُ مُشَفَّع"، وفي رواية: "أَنا أَولُ من تَنْشَقُّ عنه الأرض فأُكْسَى الحُلّةَ من حُلَل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، فليس أَحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري"؛ فهو السيد الشريف القدر، لا يضاهيه في الشرف أحد، ولا ينافسه في الخيرية مخلوق.

قال المناوي رحمه الله: "ولما كان من شرط المتولي للجماعة الكثيرة كونه مهذب النفس؛ قيل لكل مَن كان فاضلًا في نفسه: سيد، وإطلاق السيد على النبي صلوات الله عليه موافق لحديث: "أنا سيد ولد آدم"، ولكن هذا مقام الإخبار بنفسه عن مرتبته ليُعتقد أنه كذلك" (فيض القدير).

وجاء في ثنايا الحديث عن غزوة حنين من حديث البراء بن عازب: "فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: "أنا النبيُّ لا كذبَ، أنا ابن عبد المطلبِ".

قال الطيبي رحمه الله: "(أنا النبي لا كذب) ليس لأحدٍ أن يحمل هذا على المفاخرة، وقد نفى نبي الله صلوات الله عليه عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرًا، بل شكرًا لأنعمه، فقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وذم العصبية في غير موضع؛ فأنى لأحدٍ أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين؟ وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم، وإنما وجه ذلك أن نقول: تكلم بذلك على سبيل التعريف، فالنبي صلوات الله عليه ذكرهم بذلك، وعرفهم أنه ابن عبد المطلب الذي رُوي فيه ما رُوي وذكر فيه ما ذكر"؛ لذا نراه قد اشتد غضبه صلوات الله عليه على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه؛ لأنه ساوى بين الحق الذي جاء به صلوات الله عليه وبين الذي طاله التحريف؛ مما في أيدي أهل الكتاب، فيقول صلوات الله عليه لعمر لما جاءه بصحف من التوراة كان قد أخذها من رجل من اليهود: "أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي".  

فكان لا بد من هذا الإجراء الحاسم؛ حتى لا يستخف الناس بالحق الذي جاء به صلوات الله عليه، فأخبرهم أن موسى عليه السلام -وهو مَن هو- لو كان حيًّا وأدرك بعثة النبي صلوات الله عليه لما أغنته رسالته عن الإيمان بالنبي صلوات الله عليه والقرآن الذي نزل عليه، فنسخ الشرائع السابقة عليه. 

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شفاعته لأمته يوم القيامة -فهو أول شافع وأول مشفع-؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان يومُ القيامة ماجَ الناسُ بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لذرِّيَّتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم؛ فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى؛ فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بعيسى؛ فإنه رُوح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد، فأُوتي، فأقول: أنا لها، ثم أنطلِقُ فأستأذِنُ على ربي، فيؤذنَ لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يُلهمَنيها، ثم أخرُّ لربنا ساجدًا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسكَ، وقل يُسْمَع لك، وسلْ تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع".

فهو مقام رفيع، ومنزلة عالية لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته لأهل الموقف، شفاعة عامة تشمل جميع الخلق الذين يستحقونها.

وكان له صلى الله عليه وسلم موقف مع مَن استقلوا عبادته ورأوها تتناسب مع نبي قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه؛ أما هم فينبغي أن يزيدوا على النبي؛ لأنهم لم يحوزوا شرف النبوة، ومقام النهوض بالرسالة؛ فبيَّن لهم أن خيرَ الهدي هديه، فقال: "أمَا والله، إنِّي لأخْشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصُومُ وأفْطِرُ، وأصَلِّي وأرْقُدُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليس منِّي"؛ إلا أن هذا التكليف من الله بإبلاغ منزلته إلى الخلق لم يخالجه أدنى صورة من صور التكبُّر؛ فهو أبعد الناس عن الكبر وأهله؛ لذا نراه يقول: "أنا سَيِّدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ -آدم فمن سواه -إلا تحت لوائي، وأنا أوَّل مَن تَنْشَقُّ عنه الأرضُ ولا فخر".

فهذا ما خصه الله به، ونراه -صلوات الله عليه- حريصًا على استعمال هذه الجملة الاعتراضية وسط كلامه أكثر من مرة "ولا فخر"؛ دفعا لتوهم الكبر والفخر بهذا في نفوس مَن يسمعه؛ فهذه مكانته وتلك منزلته عند ربه، وهو مأمور بتبليغ هذا الوحي الذي أوحاه الله إليه من غير استعلاء على الناس.

وهو يعرف للأنبياء كلهم منزلتهم فيقول: "لا تُفضِّلوا بين أنبياء الله، فإنه يُنْفَخ في الصور، فيَصْعَقُ مَن في السماوات ومن في الأرض إِلا من شاء الله، ثم يُنفَخ فيه أخرى فأكون أولَ من يُبعَثُ، فإذا موسى آخِذ بالعرش، فلا أدري: أحُوسِبَ بِصَعْقَةِ الطُّور، أم بُعث قَبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن مَتّى"؛ فهو وإن كان أفضل الأنبياء إلا أنه يعرف لهم أقدارهم ومنزلتهم، ويحرِّج على أمته التفضيل بينهم على سبيل العصيبة أو التنقص، مع الإيمان أن الله فاوت بينهم "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، فمِن أركان دينه: الإيمانُ والتصديقُ بكل الأنبياء.

أما على جانب التعامل مع البشر؛ فسمته التواضع ولين الجانب، فنراه يقول للرجل الذي قال له: "ما شاء الله وشئت"، فقال صلوات الله عليه: "أجعلتني مع الله عدلًا (وفي لفظ: نِدًّا؟!)، بل ما شاء الله وحده"؛ فهو يعرف منزلته حق المعرفة، ولكن لا يتجاوز حدَّه، ولا يرضى أن يتشبع بما ليس عنده من الصفات؛ فبيَّن للمتكلم أن المشيئة في أمر من الأمور الكونية إنما تكون لله وحده، لا ينازعه فيها أحد ولو كان نبيًّا؛ لذا نراه -صلوات الله عليه- يقول: "لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسولُه". والإطراء: مجاوزةُ الحدِّ في المدح، والكذبُ فيه.

وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري، قال: أُتي رسول الله -صلوات الله عليه- برجل، فجعل ترعد فرائصه، فقال: "هوِّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد"، وهكذا قد بلغ بتواضعه المنتهى، فذكر أحوالها من العيش الزهيد والطعام المتواضع؛ تخفيفًا لما أصاب الجالس مِن ارتعاد الفرائص؛ لرؤيته صلوات الله عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد أيضًا: "أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"، ومِن ثَمَّ رأينا هذا التوازن بين ما خَصَّه الله به من المنزلة، وما حباه من المكانة، وبين تواضعه مع الناس؛ هذا الخلق الفطري غير المتكلف الباعث بدوره على التفاف الناس حوله وعدم نفورهم من دعوته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة