الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

النظام القضائي ونظرية العقوبة في الإسلام

قرر الإسلام أن العقوبة دنيوية وأخروية، والأصل فيها أنها في الآخرة، ولكن اقتضى تنظيم العلاقة بين الناس وضمان مصالحهم، ونشر الاستقرار في المجتمع أن يوقع الإسلام بعض العقوبات في الدنيا

النظام القضائي ونظرية العقوبة في الإسلام
إيهاب إبراهيم
الخميس ٠١ مارس ٢٠١٢ - ٢٠:٠٥ م
2477

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن من خصائص الشريعة الإسلامية الشمولية لجميع شئون الحياة, ولما كان وقوع النزاعات بين الناس أمر قد قضاه الله -عز وجل- بحكمته في جميع الأماكن والأزمان, فقد وضع نظامًا لفض هذه النزاعات، وهو ما يسمى: بالنظام القضائي أو القوانين.

ووضع لهذا النظام أرفع التشريعات لضمان الحقوق والواجبات بحفظ النفس مِن المزهقات، والمال من المغتصبين والمعتدين, والأعراض من العابثين والقاذفين, فهو تشريع من رب الأرض والسموات, مخالف لتشريع البشر العاجز, والمبني على زبالات الأفهام، واتباع الهوى.

وقد قرر الفقهاء أن تعيين القضاة فرض على الكفاية؛ إذ لا تستقيم حياة الناس إلا بقضاة يقومون بفض النزاعات بينهم، قال -تعالى-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة:49)، وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (النساء:105)، وقال: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (ص:26)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء:135).

قال القرطبي -رحمه الله-: "هؤلاء الآيات هن أصل الأقضية" انتهى.

ولذا كان من الواجب على الإمام تنصيب القضاة, وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، وقد رغب الله في القضاء، وجعل عليه الأجر العظيم, غير أن هذا الأجر لمن قام بحقه, واجتهد في إصابة الحق, قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (متفق عليه).

قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الحديث: الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه، وقوي على أعمال الحق، ووجد له أعوانا؛ لما فيه من الأمر بالمعروف، ونصرة المظلوم، وأداء الحق لمستحقه، وكف يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكل ذلك من القربات؛ فلذلك تولاه الأنبياء، ومَن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومِن ثَمَّ اتفقوا على أنه من فروض الكفاية؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، وإنما فر مَن فر منه خشية العجز عنه، وعند عدم المُعين عليه" انتهى (الفتح 13/129).

كما روى الشيخان من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ), وقال -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (رواه مسلم).

وهو أيضا مسلك وعر، ومركب خطر, قال -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:47), فيجب على القاضي تحصيل أدوات الاجتهاد لإصابة الحق, وتحري الصدق والعدل, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

لذا فقد شرط العلماء في القاضي شروطًا، منها:

1- أن يكون رجلاً, بالغًا، عاقلاً.

2- الذكاء والفطنة.

3- الحرية.

4- الإسلام.

5- العدالة.

6- صحيح السمع, والنطق, والبصر.

7- عالمًا بالأحكام الشرعية.

وعلى القاضي آداب يجب أن يراعها، وقد أمرتْ بها الشريعة تأكيدًا منها على مبدإ المساواة بين الناس في الخصومات, فيجب أن يساوي القاضي بين المتخاصمين في الدخول عليه, ولا يسمع أحدهما في غياب الآخر, وأن يسوي بينهما في حسن الإقبال عليهما، فلا يخص واحدًا منهما بإقبالٍ دون الآخر, وأن لا يبدي أي اهتمام بأحدهما دون الآخر، مثل: الإقبال عليه أو الترحيب به دون خصمه؛ فإن ذلك يكسر قلب الخصم, ويكون تهمة في حق القاضي, حتى قال العلماء: يسوي بينهما في النظر، فقد قال -تعالى- مؤكدا على معنى العدل والمساواة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء:135).

كما يجب ألا يجلس القاضي للقضاء إلا وهو في أكمل الأحوال؛ بأن لا يكون مشوش الذهن بأي شيء، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) (متفق عليه).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن قصر النهي على الغضب وحده دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشغل القلب المانع من الفهم، فقد قل فقهه وفهمه، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصودة للمعاني المتوسل بها إلى معرفة مراد المتكلم" انتهى.

لقد اعتنى الإسلام بالنظام القضائي، وبمن يتولى هذه المهمة الجليلة؛ لتحقيق أكبر مستوى من تحري الحق، والعدل بين الناس.

ومِن الأمور المهمة والتي تميز النظام القضائي في الإسلام؛ نظرية الجزاء والعقاب:

لقد قرر الإسلام أن العقوبة دنيوية وأخروية، والأصل فيها أنها في الآخرة, ولكن اقتضى تنظيم العلاقة بين الناس وضمان مصالحهم, ونشر الاستقرار في المجتمع أن يوقع الإسلام بعض العقوبات في الدنيا.

وقبل ذلك؛ فقد اعتنى الإسلام بتقرير العقيدة الإسلامية في نفوس الخلق، وقرر فيها أن الله رقيب على أفعال العباد, قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1), ففي ذلك ردع ذاتي عن ارتكاب الجرائم, كما أمر الله المجتمع المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي ذلك يوصي بالبعد عن الجرائم, وينهى عن الاقتراب منها, وبذلك يضيق الإسلام على مكامن الشر في النفوس.

بيد أن بعض الناس قد لا ينفعه الوعظ والتذكير، وتسوِّل له نفسه اقتراف المعصية أو الجريمة؛ فكان لا بد من توقيع العقاب عليه, ردعًا له, وزجرًا لكل مَن تسول له نفسه الوقوع مثله في المعصية أو ارتكاب الجريمة.

وفي نظر الإسلام: فإن تشريع العقوبة رحمة مِن الله لعباده؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) (رواه الترمذي والحاكم, وصححه الألباني), وذلك أن عقاب الدنيا أيًا كان فهو أخف من عقاب الآخرة، وهو أيضًا منقطع بالموت على العكس مِن عقاب الآخرة, وهي أيضا: زجر للعباد عن الجرائم قبل القيام بها.

وهي بمثابة كي العضو المصاب من المريض؛ كي لا يسري المرض في باقي الأعضاء, وأداة لاستقرار المجتمع، وطمأنينة للناس على مصالحهم وحقوقهم.

كما أن نظام العقوبات في الإسلام لا يفرِّق بين أفراد المجتمع, فالناس سواسية في نظر القضاء الإسلامي, ويقرر الإسلام أن التفرقة بين طبقات المجتمع في تطبيق الحدود والعقوبات كانت من أسباب هلاك هذه المجتمعات, قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (متفق عليه), وفي إقامة الحدود والعقوبات على الأقوياء ردع لهم؛ لعدم استخدام هذه القوة في التعدي على الخلق.

كما حرم الإسلام الشفاعة في الحدود؛ فهي حق لله يجب تطبيقه, وإذا رفع الحد للقاضي لا تجوز الشفاعة فيه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد لما شفع في المرأة المخزومية التي سرقت: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) (متفق عليه), فالحدود حق لله -عز وجل-.

كما أن إمام المسلمين يجب عليه تطبيق الحدود، وعدم التهاون في ذلك؛ فعدم تطبيقها سبب في نقص الرزق والخوف من العدو، قال -صلى الله عليه وسلم-: (حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ، خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا) (رواه ابن ماجه, وحسنه الألباني).

وقد قام نظام العقوبات في الإسلام على أساسين عظيمين: "العدل والردع". فأما العدل: فإن كل عقوبة على قدر الجرم من دون حيف أو تهاون، وهي من لدن حكيم خبير, على عكس ما يظن مَن قصر نظره, وضعف عقله عن إدراك الحكمة.

فقد يتخيل البعض أن عقوبة قطع يد السارق -على سبيل المثال- فيها إهدار لآدميته، ونسي أو تناسى أن ذلك بما اقترفت يداه من خرق للجدار، وترويع للآمنين والاعتداء على أموال الغير وربما أرواحهم إذا قوبل بمقاومة.

وقد أنشد أحدهم معرِّضًا بأحكام الشريعة موهمًا بوقوع التناقض فيها! وهو أبو العلاء المعري في قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل        الخـيـانـة فـافـهـم حكـمة الباري

ورد آخر، وقال: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت".

وقد يدعي البعض أن العقوبات في التشريع الإسلامي فيها حجر للحرية الشخصية, مثل: الزنا وشرب الخمر, وهذا في الحقيقة مِن أوهى الدعاوى، وبطلانها يغني عن إبطالها؛ فإن الحرية الشخصية تتوقف عند التعدي على حقوق الآخرين أو على آدمية الإنسان, فإن الزاني تعدى على حقوق الآخرين, وولج في إناء غيره, ولا شك في أضرار الزنا على المجتمع مِن شيوع الفحش والأمراض، وتضييع الأنساب.

أما الخمر؛ ففيها إهدار لآدمية الفرد وتعطيل لعقله، وهو أشرف ما فيه، ومُيز به عن الحيوانات, والمفاسد المترتبة على شرب الخمر لا يجحدها منصف، مثل: شيوع الجرائم، وفساد الأخلاق.

أما الأساس الثاني: وهو الردع, فإن العقوبة توقع بالمعاقَب ألمًا يظل دائمًا واعظًا له عن تكرار الجريمة؛ إنه تشريع اللطيف الخبير: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:15).

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً