الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حول أحكام الصول والحرابة

يحتاج المسلم لمعرفة حدود الله -تعالى-، والالتزام بها حتى وإن كان مظلومًا معتدى عليه، والعقوبة التي يستحقها الظالم يحددها رب العباد وخالقهم ومالكهم -عز وجل-، وليس للعبد مع الله رأي أو حكم

حول أحكام الصول والحرابة
أحمد الفيشاوي
السبت ١٧ مارس ٢٠١٢ - ٢٠:٥٩ م
4827

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيحتاج المسلم لمعرفة حدود الله -تعالى-، والالتزام بها حتى وإن كان مظلومًا معتدى عليه، والعقوبة التي يستحقها الظالم يحددها رب العباد وخالقهم ومالكهم -عز وجل-، وليس للعبد مع الله رأي أو حكم.

وفي وقت الفتن تكثر السرقات والسطو، وانتهاك الحرمات، ويتساهل السُّراق والمجرمين في شهر السلاح وإراقة الدماء، ونحتاج لمعرفة أحكام الشرع في التعامل مع هؤلاء دون إفراط أو تفريط.

وهذه جملة مختصرة في أحكام المعتدين المجرمين، نسأل الله -تعالى- أن يحفظ دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

1- ما الفرق بين الصائل قاطع الطريق وبين غيره من السراق واللصوص والمنتهبين؟

قال في المعجم: "صال عليه صولاً وصولانًا: سطا عليه ليقهره".

وقال في منار السبيل في قطاع الطريق: "هم المكلفون الملتزمون الذين يخرجون على الناس فيأخذون أموالهم مجاهرة، فإن أخذوا مختفين فسراق، وإن اختطفوا وهربوا فمنتهبون لا قطع عليهم؛ لأن عادة قطاع الطريق القهر، فاعتبر ذلك فيهم".

2- هل يشترط في المحارب أن يصول بسلاح أم يدخل في ذلك عدوانه بأي مثقل كان: كحديدة وعصا وحجر، ونحو ذلك؟

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر قول مَن يشترط السلاح في الحرابة: "وسواء حاربوا بالسيف ونحوه مِن المحددات أو بغير ذلك مِن العصي والحجارة، ونحوها من المثقلات، فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن مَن قاتل على أخذ المال بأي نوع كان مِن أنواع القتال؛ فهو محارب قاطع، كما أن مَن قاتل المسلمين مِن الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال؛ فهو محارب" (اهـ السياسة الشرعية).

3- هل الصائل داخل العمران في حكم المحارب أم بمنزلة المختلس والمنتهب؟

قال ابن رشد -رحمه الله-: "أما الحرابة فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر "المدن والقرى"، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر" (اهـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد).

وجماهير أهل العلم على أنه لا فرق بيْن الصحارى والبنيان، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا يكون محاربًا إلا إن شهره خارج البنيان".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولو شهروا السلاح في البنيان -لا في الصحراء- لأخذ المال، فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب... وقال أكثرهم: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد، وهذا قول مالك -في المشهور عنه- والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء... وهذا هو الصواب؛ لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر: "المنسر"، وكانوا يسمون ببغداد: "العيارين" (اهـ السياسة الشرعية).

4 - جواز دفع الصائل بما يندفع به غالبًا ولو أدى ذلك لقتله:

قال في "مسائل الجمهور": "لا خلاف يُعلم بين الفقهاء في أن الرجل إذا عرض له مَن يريد نفسه أو ماله أو عرضه أن له دفعه، وأن له قتاله إن لم يندفع إلا بالقتال، وأن له قتله إن لم يندفع إلا بالقتل." انتهى.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني)، وفي رواية: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) (مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني).

5- هل يتعين البدء بالأخف أم يجوز بدء المحارب بالقتل؟

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "فإذا أريد مالُ المرء أو دمُه دافع عنه بالأسهل؛ هذا مذهب الشافعي، وأحمد... وذهب طائفة إلى أن مَن أراد ماله أو دمه، أبيح له قتله ابتداءً، ودخل على ابن عمر -رضي الله عنهما- لص، فقام إليه بالسيف صلتًا، فلولا أنهم حالوا بينه وبينه، لقتله.

وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة، قال: اقتله بأي قتلة قدرت عليها. وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى هاربًا مِن غير جناية، منهم: أيوب السختياني. وخرَّج الإمام أحمد مِن حديث عبادة بن الصامت، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الدار حرمك، فمن دخل عليك حرمك فاقتله، ولكن في إسناده ضعف" (اهـ من جامع العلوم والحكم).

وقال -رحمه الله-: "شهر السلاح لطلب القتل: هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا؟ فابن الزبير وعائشة -رضي الله عنهم- رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك. وكذلك قطع الطريق بمجرده: هل يبيح القتل أم لا؛ لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة؟ وقول الله -عز وجل-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32)، يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين: أحدهما: بالنفس، والثاني: بالفساد في الأرض، ويدخل في الفساد في الأرض: الحرابة" (اهـ من جامع العلوم والحكم).

قال في منتقى الأخبار: "باب دفع الصائل وإن أدى إلى قتله، وأن المصول عليه يقتل شهيدًا: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي، قَالَ: (فَلا تُعْطِهِ مَالَك). قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ). قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ). قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلْته؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي لَفْظِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَدَا عَلَى مَالِي؟ قَالَ: ( أَنْشِدْ اللَّهَ)، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: (أَنْشِدْ اللَّهَ)، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: (قَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ). فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ يُدْفَعُ بِالأَسْهَلِ فَالأَسْهَلِ".

قال الشوكاني -رحمه الله- في فوائد الباب: "ينبغي تقديم الأخف فالأخف، فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع بدونه، ويدل على ذلك أمره -صلى الله عليه وسلم- بإنشاد الله قبل المقاتلة".

واختار الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم جواز البدء بالقتل إن خاف أن يبادره الصائل.

وقال الإمام القرافي -رحمه الله-: "النظر في دفع الصائل: في المدفوع، والمدفوع عنه، والدفع. أما المدفوع: فكل صائل، إنسانا كان أو غيره، فمن خشي من ذلك فدفعه عن نفسه فهو هدر... والمدفوع عنه: كل معصوم من نفس، أو بضع، أو مال. وأما الدفع: فقال القاضي أبو بكر: لا يقصد القتل، بل الدفع، فإن أدى للقتل فذلك، إلا أن يعلم أنه لا يندفع إلا بالقتل فيقصد ابتداءً، ولو قدر المصولُ عليه على الهرب مِن غير مضرة تلحقه، لم يدفع... " (انتهى من الذخيرة).

6- هل يرخص في قتل الصائل على القليل والكثير أم على الكثير فقط؟

قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم: "باب الدليل على أن مَن قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم... "، وذكر حديث: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ). قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ). ثم قال في الشرح: "وأما أحكام الباب ففيه: جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيرًا؛ لعموم الحديث، وهذا قول جماهير العلماء، وقال بعض المالكية: لا يجوز إذا طلب الشيء الخفيف، وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير" اهـ.

7- هل يشرع ترك مدافعة الصائل؟

إن كان الصائل يطلب العِرض أو النساء؛ فيجب دفعه اتفاقًا، ولا يسقط الوجوب إلا إن علم عجزه عن الدفع, قال النووي: "وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف" (مسلم بشرح النووي).

وقال في منار السبيل: "ويجب أن يدفع عن حريمه وحريم غيره؛ لأنه بذلك يؤدي حق الله من الكف عن الفاحشة والعدوان، وحق نفسه بالمنع عن أهله؛ فلا يسعه إضاعة الحقين، ويسقط وجوب الدفع بإياسه من فائدته" اهـ.

أما إن كان يطلب المال، فالمال حق الآدمي؛ ولذلك يجوز تركه، ولا تجب المدافعة، وهذا قول جماهير أهل العلم. وقال بعضهم: بل يجب مدافعته، قال النووي -رحمه الله-: "وشذ مَن قال بالوجوب". وقال: "وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلا تُعْطِهِ): فمعناه لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء" (مسلم بشرح النووي).

بل استحب بعضهم ترك المال وعدم المدافعة إن كان يؤدي لسفك الدماء إيثارًا لحقنها؛ لا سيما إن كان الصائل مسلمًا، أو إن خاف المصول عليه على نفسه، وكان في بقائه مصلحة دينية، وربما لم يمكنه إثبات كون المقتول صائلاً، فيجلب لنفسه التهمة والعقاب.

قال في منار السبيل: "لا يجب عليه أن يدفع عن ماله، وله بذله لمن أراده منه ظلمًا، وذكر القاضي أنه أفضل من الدفع عنه, قال أحمد في رواية حنبل: أرى دفعه إليه، ولا يأتي على نفسه؛ لأنها لا عوض لها" اهـ.

وروي عن الزبير -رضي الله عنه- أنه تخلف يومًا عن الجيش ومعه جارية، فأتاه رجلان فقالا: "أعطنا شيئًا". فألقى إليهما طعامًا كان معه. فقالا: "خل عن الجارية". فضربهما بالسيف.

أما إن كان يطلب النفس؛ فأظهر الأقوال أنه يجب الدفع إلا إذا كان قتال فتنة، وهو قول الحنابلة -كما في منار السبيل-.

8- ما هو حد قطاع الطرق المحاربين؟

قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:33-34).

قال في مسائل الجمهور: "جمهور أهل العلم على أن قوله -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا.. )، نزل بشأن المسلمين إذا أفسدوا في الأرض، وهو قول مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: نزلت الآية في أهل الشرك، وهو قول الحسن البصري، وعطاء" اهـ.

قال ابن رشد -رحمه الله-: "كتاب الحرابة: الأصل في حكمهم قول الله -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... )، وذلك أن هذه الآية عند الجمهور في المحاربين، وقال بعض الناس: إنها نزلت في النفر الذين ارتدوا زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- واستاقوا الإبل... والصحيح أنها في المحاربين؛ لقوله -تعالى-: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وليس عدم القدرة عليهم بشرط في توبة الكفار، فبقي أنها في المحاربين" اهـ.

وقال ابن قدامة -رحمه الله- مرجحًا مذهب الجمهور: "ولنا قول الله -تعالى-: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ... )، والكفار تُقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها، ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال" (المغني).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: "المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يُطلق على أنواع من الشر". ثم قال بعد أن ذكر قول مَن قال إنها نزلت في أهل الشرك: "والصحيح أن الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات" اهـ.

9- هل العقاب المذكور في الآية على الترتيب على قدر جناية المحارب أم على التخيير للقاضي حسب ما يراه مِن المصلحة وزجر الناس؟

قال ابن رشد: "وأما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين، واتفقوا على أن حق الله هو القتل والصلب، وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف، والنفي على ما نص الله -تعالى- في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات: هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب" (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).

وقال أيضًا: "ذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها عليه، فلا يقتل من المحاربين إلا مَن قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفى إلا من لم يأخذ المال ولا قتل, وقال قوم: بل الإمام مخير فيهم على الإطلاق، سواء قتل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه؟".

أما حقوق الآدميين فمستحقة بصرف النظر عن عقوبة المحارب التي أوقعها عليه القاضي, ولا يسقط حق الله حقوق الآدميين حتى لو تاب المحارب قبل القدرة عليه.

قال في منار السبيل: "ومَن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله -تعالى- من نفي وقطع يد ورجل، وتحتم قتل وصلب؛ لقوله -تعالى-: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وأخذ بحقوق الآدميين من نفس وطرف ومال، ولا أن يعفى مستحقها؛ لأنه حق آدمي فلا يسقط بالتوبة كالضمان".

10- هل للمنتهب والغاصب حد؟

ليس للمنتهب والغاصب ونحوهما حد منصوص عليه، ما لم يشهروا سلاحًا أو آلة فيكونوا بذلك محاربًين -كما تقدم-، لكن يعزرون بما يحصل به الزجر والردع لهم ولأمثالهم، وفي جميع الأحوال على المنتهب والغاصب الضمان.

وإن غصب الغاصب عرضًا؛ فقيل: عليه القتل سواءً كان محصنًا أم لا؟ وهو الراجح، وهو قول السدى -رحمه الله-. قال: "لو أن رجلاً أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم, أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم" ذكر ذلك تفسيرًا لقوله -تعالى-: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب:61)، وإنما قال ذلك؛ لأن مِن المنافقين مَن كان يتبع النساء إذا خرجن، ويتعرض لهن يبغي الفاحشة، ولو أمكنه غصبهن لفعل؛ فنزلت الآيات: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب:59-61).

قال السدى: "كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة، كفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أمة. فوثبوا إليها" اهـ. ولذلك قال عطاء وعكرمة في تفسير: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): هم أصحاب الفواحش, وتفاسير السلف لمرض القلب المقصود هنا قريب من هذا.

11- بم يصدق قول المصول عليه أن المقتول كان صائلاً معتديًا؟

ينبغي أن يعلم المصول عليه أن عليه البينة على قوله، ولا يُصدق بمجرد دعواه؛ وإلا كان ذلك بابًا لكل مَن أراد أن يعتدي على غيره أن يدعي أنه صال عليه، أو نازعه ماله ونحو ذلك. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّنَةَ على المدَّعي واليمينَ على مَنْ أنكر) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

قال في المغني: "فصل: وإذا قتل رجلاً، وادعى أنه وجده مع امرأته، أو أنه قتله دفعًا عن نفسه، أو أنه دخل منزله يكابره على ماله، فلم يقدر على دفعه إلا بقتله؛ لم يقبل قوله إلا ببينة، ولزمه القصاص" اهـ.

والبينة: إما شهود أو إقرار أولياء المقتول أو اعتراف المقتول قبل أن تزهق روحه.

12- هل للمعتدى عليه العفو عن الصائل أو المحارب؟

أما المحارب: فتقدم قول ابن رشد: "أما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين... "، فليس لصاحب الحق أن يعفو إلا عن حقوقه، أما عقاب المحارب على حرابته وقطعه الطريق فهو حق لله؛ فلا يسقط بالعفو إلا أن يتوب عن حرابته قبل القدرة عليه، ويجتهد القاضي في ترجيح العقوبة الشرعية المناسبة حسب اجتهاده في فهم آية سورة المائدة -كما سلف-.

أما المنتهب والغاصب للأموال ونحو ذلك من حقوق الادمين؛ فلصاحب الحق ألا يرفعه للقاضي، وله أن يعفو عن كل أو بعض حقوقه.

13- هل للمحارب وقاطع الطريق توبة؟

أما بينه وبين الله -تعالى- فلا يمنعه منها إلا الموت، وتنفعه في الآخرة -بإذن الله-، أما في أحكام الدنيا؛ فلا تسقط عقوبته على الحرابة إلا بالتوبة قبل أن يقدر عليه، فإن تاب بعد القبض عليه نفعته توبته إن كان صادقًا عند الله، ولا تسقط عنه العقوبة الشرعية، قال الله -تعالى-: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)، فمن لم تثبت له توبة قبل القدرة عليه فهو داخل فيمن يستحقون عقوبة الحرابة.

نسأل الله -تعالى- أن يتوب على المسلمين جميعًا، وأن يؤمننا في ديارنا وأهلينا, إنه ولي ذلك والقادر عليه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com