الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

بدعة تكفير المسلمين (2)

علماء أهل السنة وضعوا لهذا الأمر ضوابطا وقيودًا وأصولا, حتي لا تزل الأقدام وتضل الأفهام , ويقع أهل الأهواء وحدثاء الأسنان في تكفير الأنام

بدعة تكفير المسلمين (2)
إيهاب شاهين
الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠١٤ - ١٠:٤٠ ص
3212

بدعة تكفير المسلمين (2)

كتبه / إيهاب شاهين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد ؛

فقد تقدم في المقال السابق بعض الأدلة التي تبين حرمة وخطورة الإقدام على تكفير المسلمين بلا برهان , أو من ثبت له عقد الإسلام دون بينة واضحة ظاهرة كالشمس في رابعة النهار, وقد ذكرت أن  علماء أهل السنة وضعوا لهذا الأمر ضوابطا وقيودًا وأصولا, حتي لا تزل الأقدام وتضل الأفهام , ويقع أهل الأهواء وحدثاء الأسنان في تكفير الأنام . من هذه بعض الضوابط والأصول:

الأول: أن الأحكام على الناس لا تُقْبل إلا من أهل العلم الشرعي, كالعلماء الكبار, أما المبتدئون في الطلب, والخطباء المتحمسون بلا زمام ولا خطام، والكُتَّاب الذين اختلطت مشاربهم، والطلاب الذين لم يتأهلوا لذلك؛ فليس لهم الحق في الخوض في الأحكام على الأفراد, وإلا أفسدوا أكثر مما يصلحون, والواقع يشهد بذلك، فقد كفَّر بعضهم بعضًا بعد تكفيرهم المجتمعات، وكثير من الأفراد، فلما اختلفوا في بعض المخالفين لهم؛ رَجع بعضهم على بعض بالتكفير، وهذا من شؤم الغلو والإفراط!!

ولو فُتح هذا الباب لمن دبَّ ودرج لأفسد أمة بأسْرها!!

قال الشيخ عبد الطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على من خاض في قضايا التكفير بدون أهلية: "...لا يتكلم فيها –أي في مسائل التكفير- إلا العلماء من ذوي الألباب, ومن رُزق الفهم عن الله, وأُوتي الحكمة وفَصْل الخطاب, والكلام في هذا يتوقف على ما قدمناه, ومعرفة أصول كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها, وأعرض عنها, وعن تفاصيلها" اهـ

الثاني : الحكم المُطْلَق أو العام لا يستلزم الحكم على المعين بذلك وهذه القاعدة المعروفة بالفرق بين كفر النوع وكفر العين:

فالعلماء يُقَرِّرون أن هناك فَرْقًا بين الحكم العام, والحكم على الشخص, فَفَرق بين الحكم على القول أو الفعل أو الاعتقاد، وبين الحكم على القائل أو الفاعل أو المعتقِد، وليس كل من وقع في الكفر أو البدعة، وقع عليه الكفر أو البدعة.

ومن أمثلة كلام أهل العلم في ذلك:

أ- قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إني من أعظم الناس نَهْيًا عن أن يُنْسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية, إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة, وفاسقًا أخرى, وعاصيًا أخرى" اهـ.

ب- وقال أيضًا: "إن التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حق المعين, وإن تكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين, إلا إذا وُجدت الشروط, وانتفت الموانع, يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفِّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام" وقال: "حتى يقوم فيه المقتضِي - أي للتكفير- الذي لا معارض له" اهـ وقال: "لابد من إقامة الحجة, وإزالة الشبهة"

ج- وقال ابن أبي العز: "وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد, وأنه كافر؟ قلنا: لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة, فإن من أعظم البغي أن يُشْهد على معيَّن أن الله لا يغفر له, ولا يرحمه, بل يخلده في النار, فإن هذا حكم الكافر بعد الموت" اهـ.

فإنزال الحكم العام على المعيَّن لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط, وانتقاء الموانع, فإذا تخلَّف شرط من شروط التكفير أو التفسيق أو التبديع, أو بقي مانع من موانع هذا الحكم على المعيَّن؛ فلا يُحكم على المعين بشيء من ذلك, والأصل أن يبقى المرء على ما هو عليه قبل إتيانه بما أتى به, حتى يتم استيفاء جميع الشروط فيه وانتفاء جميع الموانع عنه.

فإن قيل: ما هي الشروط الواجب توافرها, والموانع الواجب انتفاؤها قبل الحُكم على المعين؟

فالجواب: أن هذه الشروط والموانع هي:

1- العقل, ومقابله الجنون, فالعقل شرط, والجنون مانع, فلا تكليف مع الجنون, لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبْلُغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يُفيق".

2- البلوغ, ومقابله الصغر للحديث السابق.

3- العلم الإجمالي , ومقابله الجهل, وهذه سنفرد لها مقالا خاصا بإذن الله.

4- القصد:  أي قَصْد الفعل أو القول أو الاعتقاد المُكَفِّر، وإن لم يَعْلم المرء أنه كُفْر، لأنه لا يُشترط في التكفير أن يقصد الكافر فعل الكفر فيما يراه هو، لأنه لو كان كذلك لما كفر اليهود والنصارى، فإن أكثرهم كفر وهو يظن أنه يحسن صنعا، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف:104) وقال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (الأعراف:30) فمن قصد الفعل المكفِّر - وإن لم يعلم أنه كُفْر- وعلم بأنه منهي عنه، فقد توافر فيه شرط القصد، ثم إذا ظهر أنه جاهل يُعَلَّم، فإن أصرَّ كَفَرَ بهذا، ويُنظر في بقية الشروط والموانع، أي أنه إذا بلغه حكم الله فيما أتى، فلا يُشترط أن يُسلِّم لمن يقيم عليه الحجة بذلك، شريطة ألا يكون المحكوم عليه عالمًا؛ لاحتمال أنه اجتهد ورأى في حُكْم المسألة خلاف ما يرى العالم الذي يقيم عليه الحجة – وهذا لا يكون في المسائل المجْمَع عليها-.

 والخلاصة: أنه لا يُشترط أن يقول: نعم أنا أفعل الكفر، وسأستمر على ذلك، إنما يُشترط أن يُبَلَّغ حكم الله ممن تقوم به الحجة، وأن يُخْبرَ أن ما هو عليه كُفْرٌ أكبر, فإن أصر وعاند كَفَرَ، بعد مراعاة بقية الشروط والموانع، والله أعلم.

والقصد منه عام وخاص, فالعام: هو تحقيق الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل على وجه الرضا والاختيار, بحيث يكون الإنسان مخيرًا بين أن يفعل الفعل أولا يفعله, وهذا هو مناط التكليف.

وأما القصد الخاص: وهو إرادة فِعْل الكفر أو الفسق أو البدعة مع العلم بحكم ذلك, فقد سبق أن هذا ليس شرطًا في التكفير, والله أعلم.

والقَصْد مقابله الخطأ, فالخطأ مانع من موانع التكفير أو الفسق أو البدعة, لقوله صلي الله عليه وسلم "إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

وحديث: الرجل الذي وجد راحلته بعد ما ضلَّتْ عليه, وأيقن بالهلكة, فقال: "اللهم أنت عبدي, وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح.

والتأويل السائغ: قال الحافظ: "يقول العلماء: كل متأول معذور بتأويله, ليس بآثم: إذا كان تأويله سائغًا في لغة العرب, وكان له وجْه في العلم" اهـ

- الاختيار- ومقابله الإكراه, والإكراه: هو حَمْلُ الغير قهرًا على ما ينافي رضاه واختياره, أو إلزام الغير بما لا يريده.

وله شروط:

أ- أن يكون المكرِه -  قادرًا على إنفاذ وعيده.

ب- أن يكون المكرَه - عاجزًا عن دفع الضرر عن نفسه, ولو بالفرار.

ج- أن يغلب على ظن المكرَه - وقوع ما هُدِّد به.

د- أن يكون الضرر المترتب على عصيان المكرِه - كبيرًا: كقتْل, أو قطْع عضو, أو ضرْب شديد, أو حبْس طويل, أو قطْع رزق يتضرر بقطعه, فإن كان المكرَه - من أصحاب المروءات والوجاهة؛ اعْتُبِر في حقه يسير الحبس، والشتم، والأذى المعنوي ضررًا كبيرًا, وإكراهًا, قاله الجمهور اهـ, ومن الأدلة على أن الإكراه عُذْرٌ:

قوله تعالى: [مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {النحل:106}

فهذه شروط التكفير التي يجب توافرها, وهذه موانع يجب انتفاؤها قبل الحكم على المعين بالتكفير أو التفسيق أو نحوهما.

ومن هنا صرح العلماء بأنه لا يلزم من إطلاق الحكم العام الحكمُ على المعين إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.

الثالث: أنه لا يُحْكم على الرجل بلازم كلامه أو مآله, إلا إذا عُرض عليه لازم قوله والتزمه، وأقرّ بأنه قوله أيضًا, وإنما يُحكم عليه بصريح كلامه, وقد يقول بعضهم: لا يلزم من الكفر في المآل الكفْرُ في الحال, أو لازم القول ليس بقول إلا إذا التزمه. 

وهذا من رحمة الإسلام وعَدْله؛ فقد يتكلم المرء بكلام لا يستحضر لوازمه وما يؤول إليه, فتحميله هذه اللوازم مباشرةً دون معرفة رضاه بها أم لا؛ ليس من الرحمة التي جاء بها هذا الدين, لكن إذا عُرض عليه كلامه, وأُخْبِر بلوازمه الفاحشة التي لا تنفك عنه, فإن قَبِلَها؛ فيُحكم عليه بما يستحق, وإلا كان متناقضًا, ولا يلزم من تناقضه أن يكون كافرا, فإن التناقض شيء, والكفر شيء آخر, وقد قال الشاطبي: -رحمه الله-: "والذي كنا نسمعه من الشيوخ: أن مذهب المحققين من أهل الأصول: أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال, كيف والكافر ينكر ذلك أشد الإنكار, ويرمي مخالفه به" اهـ.

الرابع : لا يَلْزم مِنْ نفْي الإيمان عمن قال كذا، أو فَعَلَ كذا وقوع الكفر أصلاً, فقد يكون هذا لنفْي الكمال الواجب للإيمان, لا لنفْي أصل الإيمان, ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-"والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُه بوائقَه" .

ونحو ذلك ما ورد في الأحاديث: "ليس منا..." أو "...فهو منهم" أو "لا يدخل الجنة..." أو "...فهو في النار" و "...فقد كفر" أو "...فقد أشرك" ونحو هذا، فلابد من معرفة المراد بهذه النصوص: هل المراد نَفْي أصل الإيمان، أو كماله الواجب؟ ولا يصح حَمْلها أو حَمْل بعضها على نفي المستحب، لأن تارك المستحب لا يقال في حقه: "ليس منا" أو: "لا يؤمن" ...إلخ ، ولو تأكدنا من أن المراد نفْي أصل الإيمان؛ فبقي مراعاة الشروط والموانع الأخرى.

الخامس : الكفر مضاد للإيمان, فيكون بالقول والعمل والاعتقاد, كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد, والكفر له أصول وشُعب, كما أن الإيمان له أصول وشُعب, فإذا كان القول أو الفعل أو الاعتقاد ينافي أصل الإيمان, ويوافق أصل الكفر؛ فهو كفر أكبر, وإذا كان ينافي بعض شُعب الإيمان وواجباته, ويوافق بعض شُعب الكفر - التي لم تبلغ إلى درجة أصول الكفر- فهذا نَقْصٌ – بالصاد المهملة- في الإيمان, ونَفْيٌ لكماله الواجب لا أصل الإيمان.

ومع أن التكذيب والجحود أعظم أنواع الكفر وأُسُّه؛ لكن الكفر ليس محصورًا فيهما، فالكفر يكون: بالتكذيب، والجحود، والشك، والنفاق، والإعراض، والاستهزاء، والتولِّي، وغير ذلك مما نصَّ عليه أهل العلم، وإن كان بعضها مترادفًا لمعنى واحد، أو داخلاً في نوع آخر من أنواع الكفر، أو عائدًا إليه، إلا أن الحصر للكفر في التكذيب قول مجانب للصواب.

السادس : ما كان كفرًا بذاته, أي أنه من أصول الكفر, فلا يُشترط في التكفير به استحلال فاعله, إنما يُشترط الاستحلال في المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر، فإن الاستحلال لما حرم الله نوع مستقل من أنواع الكفر، بعد مراعاة شروطه وضوابطه، ولا يُشترط في التكفير للمعين توافر نوعين فأكثر من أنواع الكفر، بل هذا من زيادة الطغيان والجرأة على الله تعالى.

(تنبيه): استحلال المحرم كتحريم ما أوجبه الله في التكفير به، فمن استحل الفواحش والكبائر، كمن حرّم أداء الزكاة، وصوم رمضان، وبرَّ الوالدين، وصلة الرحم، وغير ذلك من الواجبات الشرعية المقطوع بوجوبها دون تأويل يُعْذَر به.

السابع : الكفر كفران, أكبر وأصغر, وبعضهم يقول: كفر اعتقادي, وكفر عملي, وليس ذلك دقيقًا, فالكفر العملي منه ما هو أكبر وأصغر أيضًا, ومنه ما يدل على اعتقاد أمر مكفِّر, ومنه دون ذلك, وهناك أمور مكفرة سواء دلت على اعتقاد أمرٍ مُكَفِّرٍ أم لا, ولا يُشترط معرفة اعتقاد المرء فيها, إنما هي كفْر مجرد, كمن سجد لصنم, أو سب الرب عز وجل, أو رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-, وادعى أنه فعل ذلك إغاظة لفلان, أو تقليد لفلان، وإلا فهو لا يعتقد ذلك, فلا يُقبل منه هذا, ويُحكم بكفره وإن أصرَّ على ذلك بعد مراعاة الشروط والموانع.

وكذا الشرك شركان: أكبر وأصغر, والنفاق نفاقان: اعتقادي وعملي, أو أكبر وأصغر, والفسق فسقان, والظلم ظلمان, والذنب ذنبان, والمعصية معصيتان, والبدعة بدعتان, والجهل جهلان, والضلال ضلالان,...الخ، ولا بد من الرجوع في تفصيل ذلك إلى سياق الأدلة, والجمع بينها, وشروح العلماء, وإلا فهذا مَظِنة مزلة أقدام, وضلال أفهام, والله المستعان.

الثامن : المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الكبيرة أو الكبائر وإن أصرّ عليها, والإصرار عدم التوبة من الذنب، ولا يَكْفُر المرء به ما لم يستحل ذلك, والاستحلال منه قولي, ومنه عملي, فالقولي: هو جَعْل الحرام الصريح المجمع عليه حلالاً, وبنحوه - في المعنى- جَعْل الحلال الصريح المجمع عليه حرامًا دون تأويل فيهما, والتأويل عُذْر حتى يُزال عن صاحبه اللبس, وأما الاستحلال العملي فظاهر من حرص فاعل المعصية عليها, وفرحه بالظَّفَر بها, والصواب أنه لا يُكَفَّر إلا بالاستحلال القولي, وإلا كفَّرنا كثيرًا من ذوي المعاصي والذنوب.

ومن الأدلة على أن الإصرار على الذنب ليس كفرًا مخرجًا من الملة: قوله تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48} فقسَّمت الآية الذنوب إلى قسمين، وهما: الشرك، وما دونه، وحكمتْ بحكمين؛ الأول: أن الشرك لا يُغفر، أي إذا لم يتب صاحبه، فإنه لا يكفِّر الشرك إلا التوبة، والثاني: المغفرة لمن شاء الله له ذلك، ممن وقع فيما هو دون الشرك، أي دخول الشخص تحت المشيئة، وهذا فيمن لم يتب، وإلا لو تابوا لغُفر لهم جميعًا، لا لبعضهم الذي يشاء الله ذلك له، دون التائب الآخر، فإن الله عز وجل يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، فدلت الآية على أن من يدخل تحت المشيئة ليس تائبًا، وهذا هو تعريف المُصِرُّ على ذنبه، ولو كان مشركًا بإصراره؛ لأُلحق بالقسم الأول، فلما غايرت الآية بينهما؛ دل ذلك على تغاير أحكامهما، والله أعلم.

التاسع : المعلوم من الدين بالضرورة أَمْرٌ إضافي نسبي, يتغير من زمن إلى زمن, ومن مكان إلى مكان, ومن  شخص إلى آخر, فقد يكون أحد الواجبات معلومًا في زمن ما, أو مكان ما, أو لشخص ما, ولا يكون كذلك الأمر نفسه في زمن آخر, أو مكان آخر, أو لشخص آخر, ولذلك لا يُطبق كلُّ ما يُقرأ عن العلماء في هذا المعنى في أي زمان, أو مكان, أو على أي شخص حتى يُنظر: هل خالف المعلوم بالضرورة من الدين عنده, أو عند أهل زمانه وأمثاله, أم لا؟ وحديث حذيفة – رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "يَدْرُس الإسلام كما يَدْرُس  وشْي الثوب، حتى لا يُدرَى ما صيام، ولا صلاة، ولا نُسك، ولا صدقة، وليُسْرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها "فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يُعْرِض عليه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، قال: يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار" فهذا دليل على أن هناك طوائف قد تجهل وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج، بل وبقية الواجبات إلا كلمة التوحيد، وهل هناك معلوم من الدين بالضرورة أشهر من هذه الأمور التي جهلتها هذه الطوائف؟ فالمسألة نسبية إضافية، تختلف من شخص لآخر، ومن زمن لآخر، ومن بلد لآخر، والله أعلم      . بتصرف من رسالة(ضوابط وأصول التكفير والتفسيق)

وللحديث بقية إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي