الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أساليب نشر العالمانية... (1) صنع الظروف المولدة للعلمانية

العلمانية نبت غريب على بلاد الإسلام ما فتأ أصحابه يحاولون غرسه فى بلاد الإسلام لا يكاد يتماسك زرعه إلا...

أساليب نشر العالمانية... (1) صنع الظروف المولدة للعلمانية
عبد المنعم الشحات
الخميس ٢٥ ديسمبر ٢٠١٤ - ١١:٥١ ص
1960

أساليب نشر العالمانية (1)

صُنع الظروف المولـِّدة للعلمانية

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالعلمانية نبتٌ غريب على بلاد الإسلام ما فتئ أصحابه يحاولون غرسه في بلاد الإسلام؛ لا يكاد يتماسك زرعه إلا كما يتماسك الزرع النابت في طبقة رقيقة من التراب على صخر أملس فتنمو شيئًا ما؛ حتى إذا فرح بها أصحابها أتتها أمطار الحجة فغسلت الزرع والتربة، وتركته صلدًا، مثلهم في ذلك كالمثل الذي ضربه الله -تعالى- في قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264).

وإذا استصحبنا هذا المثل فسنجد أن جهود المستشرقين -التي أكملها مِن بعدهم تلاميذهم عن علم أو عن جهل- تدور حول عناصر هذا المثل ما بيْن محاولة وضع تلك الطبقة الترابية فوق الصخر الصلد، وما بين محاولة سقي هذا الزرع وتثبيته بما يتوافق مع عجزه وضعفه، وما بين منع الوابل الصيب المستمد من نور الوحي من أن يعمل أثره في إزاحة هذا النبت الهزيل؛ ومِن ثَمَّ يمكن تلخيص طرقهم في عدة محاور رئيسية، تحت كل منها محاور فرعية يمكن إجمالها على النحو الآتي:

1- صنع الظروف المولـِّدة للعلمانية، وذلك مِن خلال:

- افتعال الصدام بين الدين والعقل.

- افتعال الصدام بين الدين والعلم الحديث.

- افتعال الصدام بين الدين ومتطلبات الحياة الحديثة.

2- تكريس الواقع المنحرف لا سيما في المجالات الآتية:

- مجال الحكم بتكريس الديمقراطية الليبرالية ومنع محاولات أسلمة الديمقراطية.

- مجال الاجتماع "خصوصًا ما يتعلق بالأسرة والمرأة".

- مجال الاقتصاد "وخصوصًا فيما يتعلق بالربا والميسر".

- مجال الفنون والآداب.

3- ترويض الظاهرة الدينية عبر الوسائل التالية:

- الزعم أن الدين علماني بطبعه.

- المطالبة بعلمنة الدين.

- تثوير الدعوة الإسلامية.

4- ترويع المؤسسات الدينية "الرسمية والأهلية!".

وسوف نتناول هذه الأساليب في سلسلة مقالات، ونبدأ في هذا المقال بالأسلوب الأخطر والأهم، وهو: "صنع الظروف المولِّدة للعلمانية":

لقد نشأت العلمانية في ظروف معينة، وهذه الظروف هي باختصار شديد:

- المصادمة بين الدين النصراني المحرَّف وبين العلم.

- المصادمة بين الدين النصراني المحرف وبين العقل.

- الطغيان الكنسي لوجود نظام الحكم المسمى بالدولة الثيوقراطية، وهي لا تعني وجود شريعة تطبق مِن خلال حاكم عادل، ومِن خلال قضاة عادلين، ولكن الحكم الثيوقراطي عندهم يعني أن الشريعة ذاتها غير محددة بناءً على عقيدتهم مِن أن الوحي لم ينقطع، وأن رجال الدين هم الذين يقطعون في كل شيء بلا ضابط، وبدون أن يحاسبهم أحد!

وهذه الظروف لا وجود لها إطلاقًا عندما نتحدث عن الإسلام "أي أننا عندما نتحدث عن الإسلام لا يوجد أي تناقض بين الإسلام وبين العقل"؛ فلا يوجد تناقض بين نصوص الكتاب والسنة بعضها البعض، ولا يوجد كهنوت، ولا يوجد حاكم مطلق مِن البشر؛ وإنما الحاكم المطلق هو الله -تعالى- (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ) (الأنعام:57)، وحتى الرسل إنما يبلغون عن الله -عز وجل-؛ فطاعتهم مطلقة باعتبار البلاغ، وأما مَن دون الرسل؛ فالأمر في غاية الوضوح، ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى هزِّ، بل نسف ثقة الرجل الغربي المتدين في إيمانه، وفي دينه؛ ومِن ثَمَّ "خلا الجو للعلمانية".

وعندما علـَّم المستشرقون تلاميذهم هذه القضايا كانت المغالطة الكبرى أنهم "أوهموهم" أن جميع الأديان متشابهة في خصائصها؛ لا سيما في العيوب التي اضطروا إلى الاعتراف بوجودها في دينهم، ونحن معشر المسلمين نعتقد اعتقادًا راسخًا أنه كتبها الأحبار والرهبان بأيديهم، وادعوا "أنها مِن عند الله!"، ولكن العقبة التي واجهها دعاة العلمانية في بلاد الإسلام أن كل هذه المبررات لا وجود لها في الإسلام، وأن المجتمعات الإسلامية متدينة بطبعها؛ وبالطبع يوجد الكثير مِن الانحرافات في التطبيق، ولكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الكفر بالدين أو الشك في الشريعة، أو اعتبار أن السعادة في مخالفتها.

وبدلاً مِن أن يُراجِع القوم أنفسهم فليست الخيارات محصورة بيْن دين يناقض العقل أو لا دين -كما توهموا!-، بل ثمة دين لا يناقض العقل ولا يعوق العلم "بل يهيئ له المناخ"؛ إلا أن القوم أصروا على غيهم! وأصروا أن يزعموا أن كل العوامل والمبررات التي أدت إلى طغيان العلمانية في الغرب موجودة في دين الإسلام، وراحوا يفتشون أو يزعمون أمثلة من هذا القبيل.

وشمل هذا الجوانب الآتية:

- افتعال الصدام بين الدين والعقل:

لعل الصدمة الرئيسية التي تلقاها الأوروبي وهو في بداية عصر النهضة العلمية أن النهضة العلمية تحاول أن تنمي عقله، وأن تنمي عنده روح البحث؛ بينما إيمانه الكنسي يطالبه بأن يحشو عقله بما يناقض العقل والمنطق، وبأمور يناقض بعضها بعضًا! ومِن ثَمَّ كان مناقضة كتب أهل الكتاب للعقل وتناقضها فيما بينها -وهذا راجع لما فيها مِن تحريف كما أسلفنا- هو السبب الرئيسي الذي زلزل إيمان هؤلاء.

ومنذ فترة مبكرة في تاريخ الإسلام أكثرَ الزنادقة مِن الطنطنة حول هذه الأمور، ولم يكن الغرض حينئذٍ هو الدعوة إلى العلمانية، ولكن كان الغرض هو فتنة المؤمنين عن دينهم، وقد تصدى لهم جهابذة العلماء، وكانت لهم معهم صولات وجولات كردود "أبي حنيفة" -رحمه الله- على الزنادقة، وجواب "الشافعي" -رحمه الله- على شبهاتهم، وأجوبة "ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث"، و"الطحاوي في مشكل الآثار"، وغيرهم كثيرون... حتى جاء شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله- فجعل قضية "درء تعارض العقل والنقل" هي شغله الشاغل، وصنـَّف مصنفًا كبيرًا يَحمل هذا الاسم، ولم يخلُ مصنف مِن مصنفاته من التعريج على هذه القضية بصورة أو بأخرى، ولما جاء العلمانيون إلى بلادنا، ووجدوا حصون الإسلام منيعة مِن أن تُرمى بمخالفة العقل؛ لجأوا إلى أساليب... منها:

إعادة نشر شبهات الزنادقة:

فمن طرقهم المكررة الممقوتة تكرار شبهات الزنادقة والمشككين عبر التاريخ، ومِن الأشياء العجيبة أيضًا أن البعض منهم يأتي ببعض الشبهات ويعرضها ولسان حاله يقول: "إني أتيت بما لم تستطعه الأوائل!"، ثم تفاجأ أن الشبهة موجودة في كتب الأقدمين، وقد ردَّ عليها -مثلاً- "ابن قتيبة" -رحمه الله- في "تأويل مختلف الحديث" أو غيره، بل تجدها بنفس ألفاظها تقريبًا؛ وهذا يجعلنا نقطع أن هناك شخصًا ما -إن لم يكن هذا الشخص المتكلم بعينه فأستاذه أو أستاذ أستاذه- لجأ إلى هذه الكتب فقرأ الشبهة وقرأ الرد، ثم كتم الرد ونشر الشبهة، أو أعاد إنشاءها على أنه ينشؤها من البداية تلبيسًا وخداعًا.

تقديم المناهج الخرافية على أنها هي الفهم الصحيح للإسلام:

ومِن أعجب الأمور: أن تجد أن الدول الكبرى التي ما تفتأ تتحدث عن العقلانية والعصرانية هي التي تساند وجود التيارات الخرافية، مثل: "الشيعة - والصوفية!"، والأمر يتعدى مجرد الدفاع عن حقهم في اعتناق ما يشاءون إلى الدعم المادي للاحتفالات والموالد التي يحدث فيها من مخالفات العقل والفطرة ما يخجل منه رموز الصوفية أنفسهم إذا طـُلبوا للمناظرة!

ومِن أعجب العجب: أن يجمع الشخص الواحد بيْن تبني هذه الأفكار وبين اعتبارها دليلاً على أن دين الإسلام مثله مثل غيره لم يخلُ من الخرافة؛ فيدافع عن وجود هذه الانحرافات ثم يستثمر وجودها في إثبات التعارض بين الوحي والعقل بما يلزم منه الرجوع إلى العقل ورفض الدين، أو رفض اتخاذه مرجعًا أخلاقيًّا وثقافيًّا عامًّا.

إثارة الجدل في الأمور التي لها أصل صحيح، لكن لحق بها الكثير مِن الخرافات:

فمِن أساليبهم في ذلك: كثرة الكلام في الموضوعات التي لها أصل صحيح في الشرع، ولكن هذا الأصل أصبح "نقطة في بحر"؛ بالنسبة لما راج بين الناس حوله، مثل موضوعات: "الجن - والسحر - والحسد"، وكلها مذكورة في "القرآن والسنة"، لكن يتم عرض الموضوع كما هو في التراث الشعبي، ثم يُستضاف الضيوف الذين يكونون بيْن مقر ومنكر؛ والصحيح هو التفصيل "لكن غالبًا لا يُستضاف مَن يمثـِّل أو -يفصِّل- هذا التفصيل!".

وإن تصدى الدعاة والخطباء لبيان الخطأ مِن الصواب في هذه الأبواب؛ استثمر العلمانيون هذا في إثبات أن دعاة الإسلام لا يشغل بالهم إلا "الجن والعفاريت" في الوقت الذي صعدت فيه "البلاد العلمانية" إلى القمر، وصنعت كذا... وكذا... !

افتعال الصدام بيْن الدين والعلم الحديث:

وهذا الباب قريب مِن سابقه إلا أنه يختلف عنه بكونه أكثر منه اقترابًا من فكر الرجل العادي؛ فادعاء أن الدين فيه أخبار مخالفة للعقل -كما يدعون في بعض الغيبيات!- قد لا يعني شيئًا ذا بال عند الرجل العادي، ولكن عندما يتم الادعاء بعداء الدين لعلوم الطب والفلك والهندسة؛ فإن هذا يكون أكثر إثارة للعامة أكثر مِن مجرد الادعاء بوجود التعارض بين الدين والعقل.

وقد تحمَّل المواطن الأوروبي وطأة الإيمان بدين فيه ما يناقض العقل، ولكنه ثار حينما علم أن الدين يقف عائقًا أمام نظريات علمية مِن شأنها أن تحل له الكثير مِن مصاعب حياته، وبالتالي سيظل المفكرون العلمانيون يرددون "كالببغاوات" أن وجود بعض الأحاديث التي ترشد إلى نصائح في باب التداوي "كالتداوي بالحجامة - أو بحبة البركة - أو بعسل النحل" - أن هذا يلزم منه إغلاق كليات الطب! مع أنه لم يقل بذلك أحد، ولم يشر إلى ذلك أحد لا مِن قريب ولا مِن بعيد، وغاية ما هنالك أن مَن أخذ بهذه التوجيهات النبوية وعمِل بها مِن الأطباء؛ استطاع أن يحقق تقدمًا كبيرًا لأساليب العلاج في زمانه، وأنه "ومع تقدم العلم الحديث" ما زالت هذه الأساليب الطبية صالحة كوسائل أساسية أو ثانوية أو وقائية في كثير مِن الأمراض!

ومِن المفيد ها هنا: أن نأخذ على أيدي بعض العامة، بل وربما بعض الدعاة المشهورين بحب المبالغات التي تضر أكثر مما تنفع؛ بينما الواجب تنزيه الشريعة مِن أن تنسب إليها تجارب الأطباء -فضلاً عن غيرهم- في العلاج بـ"عسل النحل" على أنها بتفاصيلها وحي من الله! وإنما الثابت فقط هو أصل الإشارة إلى أن هذا مِن أبواب التداوي، وأما ما سوى ذلك فجهد بشري.

افتعال الصدام بيْن الدين والحياة الحديثة:

وهذا الخطاب هو المعتمد "لدى معظم الإعلاميين الدائرين في الفلك العلماني"؛ سواء شعروا أم لم يشعروا، ولكنهم يكرسون للعلمانية دون أن يوجَّه لهم الاتهام بالعلمانية أو غيرها، وهذا النمط من الإعلاميين يمارس دور "التلميذ المشاغِب" الذي يطرح أسئلة غرضها إعاقة المدرس عن الشرح، وإثبات استحالة الفروض الأولية التي سوف ينطلق منها، وهذه الأسئلة تمس "رغيف السامع، وحياته كلها... !".

وهذه الأسئلة مِن قبيل:

- سلمنا لكم أن البنوك ربا، ولكن الاقتصاد العالمي قائم عليه؛ فهل ننعزل عنه إذا أردنا تطبيق الشريعة؟!

- سلمنا لكم أن العري حرام، ولكن السياح لا يأتون إلا بهذه الهيئة، والسياحة تمثل كذا... وكذا... مِن الدخل القومي؛ فهل نلغيها؟!

- سلمنا لكم أن إقامة الحدود عدل، وأنها الوحيدة التي تحقق الردع الخاص والعام الذي يسعى إليه القانون الوضعي، ولكنه يفشل عندما غلت الأمم المتحدة يده عن اللجوء لمثل تلك العقوبات الرادعة، والأمم المتحدة تفرض عقوبات على البلاد التي تطبق عقوبات بدنية؛ فهل نتحمل مثل هذه العقوبات؟!

وهي قائمة من الأسئلة التي لا تنتهي، ويُلاحَظ عليها الملاحظات الآتية:

- أن السائل دائمًا ما يَفترض أن الشريعة أمر يخص الدعاة إليها ولا يخص عموم المسلمين؛ ومِن ثَمَّ فهو يملك رفاهية طرح الأسئلة، ولا يحمِّل نفسه عناء البحث عن إجابة! ونحن نعترف بأن هناك صعوبات في تغيير واقع ترسَّخ عبر عدة قرون، ولكننا نخاطب جميع المسلمين بأن الشريعة شريعتهم والقضية قضيتهم، وأن على الجميع أن يقدِّم الحلول، والشريعة تتضمن أحكامًا لأحوال الاختيار، وقواعدَ للتعامل مع أحوال الاضطرار.

- أن معظم هؤلاء يَطرحون السؤال في خمس دقائق، ثم يطلبون الإجابة عليه في دقيقة؛ مما يعني أن المقصود أن يترسخ لدى السامع أو القارئ أن الشريعة -حتى وإن استقر لديه وجوب تحكيمها- تطبيقها في هذا الزمان في غاية العسر! والبعض يَحتج بأن القصور يأتي مِن قِبَل الشريعة ذاتها، والبعض الآخر يرى أن انحرافاتنا هي التي تجذرت بصورة يستحيل التراجع عنها؛ وكلا الأمرين فاسد، وإن كان أحدهما أفسد من الآخر.

- أن الذين يطلقون هذه الدعوات يحاربون أي صور إصلاح موازية؛ مما يثير الشك في غرضهم من هذه الأسئلة، فهم يحاربون البنوك الإسلامية، ويحاربون السندات الإسلامية، ويَسخرون مِن المقاهي التي لا تقدم الشيشة رغم أن هذا يتوافق مع مطالب منظمة الصحة العالمية! وينبري البعض منهم -أو منهن- محتجًا على الممثلات اللاتي يرفضن الأدوار التي تحتوي على مشاهد تَقبيل! "ليس المراد أن ترك هذا الأمر يجعل التمثيل حلالاً! وإنما نبيِّن مدى رفضهم التام لأي إصلاح؛ ولو كان جزئيًّا ومحدودًا للغاية!".

وهذه الجزئية الأخيرة تقودنا إلى الأسلوب الثاني مِن أساليبهم، وهو: "تكريس وتعميق الانحراف الحاصل!".

وهو ما سنتناوله في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com