الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أساليب نشر العلمانية (2) تكريس مظاهر العلمانية

راجت العلمانية فترة وجيزة مِن الزمن، وظنت أنها مَلكت عقول الشباب بالسيطرة على التعليم، وعقول العامة بالسيطرة على الإعلام "وأهم مِن هذا كله: ترسيخ نظام الحكم العلماني"...

أساليب نشر العلمانية (2) تكريس مظاهر العلمانية
عبد المنعم الشحات
السبت ٠٣ يناير ٢٠١٥ - ١٠:٤٤ ص
3338

أساليب نشر العلمانية (2) تكريس مظاهر العلمانية

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالعلمانية هي "فصل الدين عن الحياة"، وقد ظهرتْ في بلاد أوروبا لعوامل راجعة إلى التحريف الذي دخل الدين النصراني، الذي جعله متناقضًا في ذاته مِن جهة ومناقضًا للعقل من جهة أخرى، كما كان لادعاء القساوسة أن الوحي مستمر عن طريق إلهام مجامعهم الكنسية ومِن ثَمَّ تبنيهم لنظريات علمية وادعائهم أنها مِن جملة الوحي الإلهامي - الأثر الأكبر في الصدام بيْن الدين والعلم هناك؛ مما نتج عنه اجتياح العلمانية للعالم الغربي.

وحينما جاءت العلمانية إلى بلاد المسلمين لم تجد ذات البيئة التي أنتجت العلمانية في أوروبا؛ فعمِلتْ على محاولة فرضها وصنعها "ولو بالتزييف!" -كما بيَّـنـَّا في المقالة السابقة-، ومع هذا فقد نجحت العلمانية في فرض نفسها على العالم الإسلامي باستعمال الكثير مِن الأساليب.

والتي يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أساليب، هي:

1- الضغوط الخارجية: وتَمثَّل هذا في أمور، مِن أبرزها: نظام الحكم والقضاء، وقضايا المرأة والحريات.

2- استغلال حالة الفراغ في بعض المجالات: كمجال التعليم الجامعي الذي كانت بداياته على أيدي العلمانيين، وإن أصبح فيما بعد مِن المنابع الرئيسية للتيار الإسلامي -بحمد الله-، وكمجال الإعلام الذي كانت بداياته على أيدي العلمانيين، بل النصارى الوافدين، وكذلك مجال الفن الذي بدأ واستمر مخاصمًا لهوية الأمة إلا في القليل النادر.

3- ويأتي في ذيل هذه الأساليب أسلوب الإقناع الذي لم يكن إقناعًا نزيهًا بقدر ما كان تزييفًا للواقع والتاريخ؛ لإيهام المتلقي بوجود مبررات لوجود العلمانية في العالم الإسلامي كما وُجدتْ في الغرب!

هذا وقد راجت العلمانية فترة وجيزة مِن الزمن، وظنت أنها مَلكت عقول الشباب بالسيطرة على التعليم، وعقول العامة بالسيطرة على الإعلام "وأهم مِن هذا كله: ترسيخ نظام الحكم العلماني"، لكنها سرعان ما اكتشفت الحقيقة التي تقول إن مكانة الدين في قلوب العامة في العالم الإسلامي أعمق من أن تهزها هذه الزخارف، وعمت العالم الإسلامي صحوة وممانعة جارفة للتيار العلماني أجبرتها على التراجع، وبدأ هذا التراجع وهي في عز زهوها؛ فاضطرت لجنة دستور 1923م في مصر إلى الموافقة بالإجماع على وضع مادة "الإسلام دين الدولة" رغم وجود عددٍ مِن النصارى في اللجنة، وكون عامة اللجنة تقريبًا مِن العلمانيين باستثناء الشيخ "محمد بخيت المطيعي" -رحمه الله- الذي اقترح هذه المادة؛ فتمت الموافقة عليها بالإجماع.

ثم صدر الدستور الكويتي عام 1962م ليأخذ خطوة أخرى للأمام، ويضع مادة تتحدث عن الشريعة الإسلامية "وثمة اعتقاد بوجود دور للدكتور عبد الرزاق السنهوري في اقتراح هذه المادة على لجنة الدستور في الكويت؛ حيث كان يعمل وقتها مستشارًا قانونيًّا لأمير الكويت"، ثم جاء الدستور المصري ليضيف هذه المادة في دستور 71، وكذلك الدستور الباكستاني واليمني؛ بينما اكتفى الدستور الأردني والتونسي بمادة "الإسلام دين الدولة"؛ وبصفة عامة فقد صارت دساتير معظم الدول الإسلامية تنص على إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.

وصارت معركة كبرى تحاول فيها العلمانية -مهما كان تراجعها على المستوى الفكري والشعبي- ألا تتراجع مظاهر وجودها على أرض الواقع؛ لا سيما في المجالات التي حققت فيها العلمانية في بداية أمرها وجودًا بارزًا؛ استنادًا إلى ما سبق ذكره من عوامل؛ وذلك على النحو الذي سوف نوضحه -إن شاء الله-.

شعوب العالم الإسلامي إسلامية أم علمانية؟!

مِن الموضوعات الشائكة التي تتردد كثيرًا... توصيف حال الشعوب في العالم الإسلامي: هل هي متدينة بطبعها أم أنها علمانية بطبعها؟!

ومِن المفترض أن تكون الإجابات على الأسئلة المتعلقة بتوصيف الواقع موضوعية تصف الواقع على ما هو عليه، لا على ما كان يتمنى صاحب الإجابة أن يكون الواقع عليه.

ولكننا في هذا السؤال نجد ظاهرتين:

الأولى: ادعاء العلمانيين أن الشعوب علمانية بطبعها على الرغم مِن أنك متى سألت عامة الناس مِن مختلف الطبقات الثقافية والاجتماعية عنها؛ لمَا وجدت مَن يعرف معنى العلمانية فضلاً عمن يعتنقها إلا نذرًا يسيرًا!

الثانية: محاولة بعض التيارات الإسلامية تثبيت تهمة العلمانية على العامة، تمامًا مثل "التيار القطبي" الذي يحاول جاهدًا إثبات تهمة جاهلية المجتمعات، وفي هذا الصدد تجد الأستاذ "محمد قطب" دائم الدندنة حول واقعة ضبط فتاة وشريكها في سرقة مواشي من حظيرة، وأنها دفعًا لتهمة السرقة عن نفسها قد بررت وجودها مع هذا الشخص في هذا المكان بغرض مواقعة الفاحشة، ثم ينعى الأستاذ "محمد قطب" حال الأمة التي تغلغلت فيها العلمانية حتى تشربتها تلك الفلاحة البسيطة في قريتها النائية! في حين أن هذه الفتاة التي تشترك في تشكيل عصابي لسرقة البهائم لا يمكن بحال مِن الأحوال أن تكون مقياسًا، كما أن الحيلة التي لجأتْ إليها؛ مِن الواضح جدًّا أنها حيلة قد لقـَّنها لها محاميها.

وإذا أردنا الإجابة الموضوعية على هذا السؤال؛ فسوف نجد بوضوح أن الشعوب محبة لدينها، معتزة به، وأن الأغلبية الساحقة ترى وجوب الالتزام بالشريعة؛ مما ينفي عنها تهمة العلمانية، ومع هذا فيبقى أن هناك مظاهر انحراف كثيرة راجعة إلى أسباب كثيرة.

وهذه الأسباب يمكن إجمالها في نقطتين:

الأولى: الضعف أمام الشهوات الذي يصل إلى حالة رفض أن تقوم السلطات بمنعها! مثل: "التدخين" في معظم البلاد، و"التبرج" في كثير منها، وهكذا...

الثانية: الاستسلام لفكرة شيوع الحرام في باب من الأبواب؛ مما يؤدي إلى زوال أثر تحريمه من النفس، ومِن هذا أن بعض البلاد قد انتشرت فيها الرشوة رغم حرمتها شرعًا، ومنعها قانونًا، ومن الممكن أن تجد أن مَن يقدم على تلك الجريمة يتورع عن جرائم من جنسها: كالسرقة أو الغش؛ وهذا لأنه يوهِم نفسه أن الرشوة رغم حرمتها أصبحت في حكم الحق المكتسب مِن كثرة شيوعها!

ونفس الأمر ينطبق على الربا، وقد روي في الأثر: "يوشك أن يأتي على الناس زمان مَن لم يأكل الربا؛ أصابه مِن غباره"، وتجتهد الأبواق العلمانية في سبيل تكريس الواقع العلماني إلى مخاطبة أمثال هؤلاء "أنه ما دام أنه سيصيبك من رذاذ الربا حتمًا ولا بد؛ فلتأكله صراحة ولا حرج عليك في هذا!"، وهى حيلة شيطانية خبيثة يحاول بها العلمانيون تثبيت أقدام العلمانية في واقع الأمة بأي حجة "ولو كانت زائفة!".

مجالات الانحراف العلماني ووسائل تكريسه

أولاً: مجال الحكم والقضاء:

وهذا مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَتُنْقُضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، فقد كانت أولى المجالات التي تصدَّرت العلمانية فيها المشهد: نظام الحكم "أو بالأخص الجانب القضائي منه"؛ حيث فرضت الدول الأوروبية على الدولة العثمانية نظام الامتيازات الأجنبية، والمحاكم الأجنبية مستغلة الضعف الذي دبَّ فيها وهزائمها العسكرية، وحاجتها إلى الدعم الأوروبي، وكانت هذه المحاكم تحكم بغير بالقوانين الأوروبية فيما يتعلق برعايا هذه الدول صاحبة الامتياز، ثم نشأت المحاكم المختلطة لمعالجة هذا الازدواج التشريعي في ذات البلد، وطبـِّق فيها القانون الفرنسي المترجم؛ لتصبح هذه هي أدنى وهدة في منحنى التراجع الحضاري للبلاد الإسلامية، ومع أن هذه الجولة قد جاءت عن طريق الضغط الخارجي، ورغم أن كليات الحقوق في العالم الإسلامي قد أُنشئت لتدرس ذلك القانون الفرنسي؛ إلا أن رفض الأمة لهذا النبت الغريب جاء سريعًا، وعلى يد مَن أريد لهم أن يكونوا كهنة هذا القانون الجديد، إلا أن الاستفاقة -وإن جاءت سريعة- أتت في غاية البطء، وإلى يومنا هذا وهي تسير بسرعة السلحفاة!

ومما يحسب للسنهوري باشا -رحمه الله- أنه قاد عملية العودة إلى الشريعة، ولكن للأسف أنه مما يؤخذ عليه أنه خطط لعملية عودة في غاية البطء حينما جعل أقصى طموحه في مشروع القانون المدني المصري 1948م أن يُكتب القانون بلغة عربية فصيحة غير مرتبطة بالترجمة الحرفية للقانون الفرنسي، وأن يدخل فيه ما لا يصعب إدخاله من أحكام الشريعة؛ ومنذ ذلك الحين ربما كان التطور الآخر الذي جاء على يد حكومة "ثورة يوليو" هو إلغاء تقنين البغاء، وليبقى هذا الحمل الثقيل يزداد رسوخًا يومًا بعد آخر.

وفي هذا الصدد: يبذل العلمانيون جهودًا مضنية في منع أي مشاريع قوانين تحاول التقدم خطوة في اتجاه العودة إلى الشريعة، بل ويحاولون إلغاء أو تعطيل المواد الدستورية الخاصة بمرجعية الشريعة لتمرير المزيد من القوانين المخالفة لها، ولتكريس الواقع العلماني للقوانين.

التصدي لأسلمة الديمقراطية:

يعتبر نظام الحكم الديمقراطي أفضل ما أنتجه الفكر العلماني الغربي في مجال الحكم، وذلك في مقابلة نظام الحكم الشمولي ونظام الحكم الثيوقراطي، ولكن مفكري الديمقراطية وجدوا أنه مِن الخطر -لا سيما بعد اعتماد الديمقراطية النيابية كأسلوب في معظم الدول؛ خاصة الدول التي تتميز بعددٍ كبير للسكان- أن يُمنَح الفريق صاحب الأغلبية الديمقراطية الحق في تغيير هوية المجتمع، بل ربما تغيير الديمقراطية ذاتها! فكان الحل في أن يتم وضع أصول وأسس عامة في مرتبة أعلى مِن القوانين "وهي الدستور" والتي عادة ما تقر بالديمقراطية المباشرة؛ لتكون أكثر تعبيرًا عن هوية الشعب وإرادته، وهو الباب الذي وَجد فريق مِن الإسلاميين أنه مناسب لعمل ما يمكن أن نطلق عليه: "أسلمة الديمقراطية" بأن يوضع في الدستور المواد التي تقرر المرجعية العليا للشريعة الإسلامية.

وهو الأمر الذي يحاول العلمانيون التصدي له بكل ما يملكون، ولكن التقدم الذي أحرزته الأمة في معظم البلاد الإسلامية في باب "أسلمة الدساتير" كان أكثر وضوحًا وتقدمًا بكثير مِن التقدم على المستوى القانوني، وفي هذا الباب لا يُخلِص العلمانيون لقواعدهم ولا يحترمون إرادة الأغلبية، بل يصفونها بالجهل، وبأنها تُشترى بالزيت والسكر! وفي هذا نقض لأسس التحاكم إلى الصندوق التي ينادون بها!

كما أنهم يلجأون إلى الخرق الواضح والصريح لهذه الدساتير معتمدين على الجوقة الإعلامية الكبيرة، ومِن أكثر الأمثلة فجاجة في هذا الباب؛ تصرفات وتصريحات د."جابر عصفور" الذي يصر على أن حرية الإبداع لا سقف لها مخالفًا لكل الدساتير المصرية، كما يصر على "عدم اختصاص الأزهر" بإبداء الرأي الشرعي في الأعمال الفنية بالمخالفة الصريحة لدستور 2012م ودستور 2014م الذي تولى الوزارة بموجبه!

المجال الاقتصادي:

دخل الربا إلى بلاد المسلمين تأثرًا مِن خلال قوات الاحتلال التي كانت تحتل بلاد المسلمين، وتم الضغط لتوغل الربا في حياة الأفراد والمؤسسات، ويحاول العالمانيون استغلال بعض الفتاوى الشاذة لنفي وصف الربا عن التعاملات البنكية، كما يحاولون من باب آخر إقناع العامة أنه لا مناص من الربا؛ ومِن ثَمَّ فهم يحاربون وبكل ضراوة ليس العودة إلى الاقتصاد الإسلامي، بل يحاربون أن توجد قنوات اقتصادية موازية، مثل: "إنشاء فروع معاملات إسلامية للبنوك"، ومثل: "وجود قوانين استثمار وفق النظام الإسلامي!".

 المجال الاجتماعي:

في نظام الاجتماع أيضًا يحاولون تكريس كل المكاسب التي حصلوا عليها لتأليب المرأة المسلمة تحت ستار: "تأليبها على المجتمع الذكوري"، ولكن في الواقع كان "تأليبها على الشريعة الإسلامية".

أيضًا لا بد أن نعترف هنا: أننا أحيانًا نعين هؤلاء في مهمتم؛ فنجد أن المجتمعات الإسلامية مع اختلاف عاداتها يوجد فيها درجات مِن درجات ظلم المرأة, وأن هذه الدرجات يستثمرها الأعداء؛ فينطلقون مِن محاربة هذا الظلم الذي تجب محاربته شرعًا وعقلاً إلى محاربة أمور من الشرع الذي كله عدل، ولكنها وفق النظريات الغربية المعوجة فيها ظلم أو تمييز ضد المرأة.

ومِن أمثلة هذه الثغرات: العادات التي تنتشر في كثير مِن الأقطار مِن منع المرأة مِن حقها في ميراث أبيها، أو في إجبارها على الزواج ممن لا تريد، أو في إعضالها في الزواج من كفئها، أو غير ذلك من الصور...

خاتمة:

باختصار يمكننا أن نقول: إن العلمانية قد تسللت إلى بلادنا في لحظة ضعف، وعدم كفاءة لجهاز المناعة في الأمة، وإنها حققت نجاحات في فترة وجيزة مِن الزمن، وإن اتجاه التغيُّر قد تَحوَّل في اتجاه العودة إلى الشريعة.

وإن معركة العلمانيين تدور حول ثلاثة محاور:

الأول: محاولة إعادة اتجاه التغير إلى جهة العلمانية، وهذا عبْر وسائل يمكن تلخيصها في صنع الظروف المولـِّدة للعلمانية "وهو ما عالجناه في المقال السابق".

الثاني: محاولة إعاقة التقدم في اتجاه العودة "وهو ما عالجناه في هذا المقال".

الثالث: محاولة إيجاد اتجاه يبدو بيْن الاتجاهين "وحبذا لو كان إلى اتجاه العلمانية أكثر!".

وهي محاولة  ترويض الدين التي سوف نتناولها في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com