الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

ماذا خسِر مَن سبَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟!

يا لخسارة مَن لم يعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي عَرَفه الذئب وبشـَّر به، وعرفه حتى الحجر، وحنَّ إليه الجذع والشجر، وأحبَّه الجبل، وشكى إليه الجمل!

ماذا خسِر مَن سبَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟!
محمود عبد الحفيظ عبد الحافظ
الأربعاء ٢١ يناير ٢٠١٥ - ١٢:٢٤ م
1682

ماذا خسِر مَن سبَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟!

كتبه/ محمود عبد الحفيظ عبد الحافظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الكفر بالله -سبحانه وتعالى- وما أَمر به، ودعا إليه مِن الإيمان بوحيه ورسله ودينه هو أعظم خسارة يمكن أن يتعرض لها إنسان؛ لأنه يستوجب بهذا الكفر الخسارة الأبدية التي لا فوز ولا نجاة بعدها، ومهما خسر الإنسان في الدنيا مِن مال أو منصب أو غيره؛ فإن في الآخرة أعظم العوض عنه لمن آمن بالله -عز وجل-، وأما خسارة الآخرة فهي الخسارة التي لا عوض عنها؛ فلا خسارة تعدل خسارة مَن خسر نفسه وأوجب لها الخلود الأبدي في العذاب السرمدي، وأضاع على نفسه الحياة الحقيقية (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر:24) - قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(العنكبوت:52)، وقال: (ومَن يَكفُرْ بالإيمَانِ فقدْ حبِطَ عمَلُهُ وهُوَ في الآخِرةِ منَ الخاسِرينَ) (المائدة:5)، وقال: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر:15).

وكما بيَّن الله -تعالى- أن الكفر دركات بعضها أسفل مِن بعض إذ ليس مَن كفر بالله وصد عن سبيله كمن كفر ولم يصد عن سبيل الله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل:88)، بيَّن كذلك -عز وجل- أن الخسران أيضًا دركات، فقال -تعالى-: (وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا) (فاطر:39)، فكلما أمعن الكافر وأوغل في كفره كلما ازداد عذابًا وخسرانًا.

والاجتراء على النبي -صلى الله عليه وسلم- والتسور على جنابه الشريف، والتعرض له ولسنته، ولما أمر به ونهى عنه بسبٍ أو استهزاءٍ أو انتقاصٍ لقدره الشريف ومكانته اللائقة به -صلى الله عليه وسلم-؛ لهو مِن أعظم أسباب الخسران المبين، واستحقاق عاجل سخط الله وعقوبته في الدنيا قبل الآخرة، فإن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- إن كان مِن مسلم؛ فهو ردة مغلظة، وإن كان من ذمي أو معاهد أو مستأمن؛ فهو زيادة في الكفر.

والكفر بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كفر بكل حقائق الإيمان وأصل الرسالات والكتب، والملائكة، واليوم الآخر، وكل المعتقدات الدينية الصحيحة؛ إذ لا سبيل إلى إثبات تكليف في شيء مِن ذلك إلا مِن خلال الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وما جاء به من الوحي المسند إلى الله -تبارك وتعالى-، بل لا سبيل إلى إثبات نشأة الخلق ووجود الرسل: كآدم وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -عليهم الصلاة والسلام- إلا مِن خلال محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فالتوراة والإنجيل منقطعة السند لا يقطع بصحة شيءٍ منها إلا ما وافق القرآن والسنة.

وإذا كان الله -تعالى- قد توعَّد مَن عادي له وليًّا بالحرب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) (رواه البخاري)؛ فكيف بمن عادى نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟!

كيف تكون محاربة الله له؟!

وأي عقاب ينتظر هذا التعس؟!

وإذا كان الله -سبحانه- يدافع عن عباده المؤمنين كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج:38)، فكيف بدفاعه عن خليله محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!

ولا ندري ماذا ينقم هؤلاء المجرمون مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!

هل ينقمون منه أنه يدعو إلى توحيد الرحمن -عز وجل- وعبادته وحده لا شريك، وهم يكفرون بالرحمن ويأبون رحمته؟!

هل ينقمون منه أنه يدعو إلى العدل والخير، ونبذ الظلم والشر والفجور؟!

هل ينقمون منه -صلى الله عليه وسلم- أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق والعفة والفضيلة والصلة؟!

قال جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- للنجاشي: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ -تعالى- إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ -تعالى- لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنَّ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ...." (رواه أحمد، وصححه الألباني).

أم ينقمون منه -صلى الله عليه وسلم- أنه جاء بالنور والهدى والنجاة للبشرية، وقدَّم لها الدواء الناجع لكل أمراضها وأدوائها؟! في الوقت الذي لم يقدِّم فيه ساستهم وقادتهم ومصلحوهم -زعموا!- للبشر إلا الخراب والدماء، ونشر الربا والمخدرات، وتصدير الإباحية والشذوذ والعري، وكل ألوان الانحراف! 

ولما ذكر لـ"فولتير" الملحد "عراب الثورة الفرنسية" مارتن لوثر وكلفن في عداد المصلحين في العالم الأوروبي قال: "أتزعمون أن هذين مِن المصلحين؟! إنهما لا يصلحان أن يكونا نعلين لمحمد!" -أو كما قال-.

أي والله! لا يصلح الكفار عن بكرة أبيهم أن يكونوا حذاءً أو نعلاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ولكن ما الظن بقوم يتصورون ويؤمنون أن مجدهم وخلاصهم لا يقوم إلا على كرامة نبي الله المسيح عيسى -عليه السلام- الذي ينسبون أنفسهم إليه وهو منهم براء؟! حيث يعتقدون أنه قتل وصلب، وتعرض لألوان المهانة والمذلة لأجل خلاصهم ومجدهم! فالقوم اعتادوا في كتبهم وأقوالهم وأفلامهم أن يتعرضوا بالسب والشتم والاجتراء على مقام الأنبياء، بل على مقام الله -جلَّ جلاله!-، ويرون أن هذا حق مكفول في التعبير عن حرية الرأي -زعموا!-؛ ولذلك فهم يندهشون مِن غضبة المسلمين لمن تعرض لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- بأي سوء على الرغم مِن ضعف هذه الغضبة وقلة حيلة المسلمين معهم.

ولمَ لا يغضب المسلمون لنبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أولى بهم مِن أنفسهم وأحب إليهم مِن كل شيء؟!

قال الله -تعالى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (رواه مسلم).

ومِن كمال الإيمان المستحب أن يحب المسلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم مِن حبه لنفسه: فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري).

ولما جاء الكفار بزيدٍ بن الدَّثِنَّةِ -رضي الله عنه- وقدموه ليُقتَل قال له أبو سفيان -وقد كان حينئذٍ لا يزال مشركًا-: "أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ فِي مَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَة تؤذيه، وأنّى جَالِسٌ فِي أَهْلِي! فَقَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا!" (السيرة النبوية لابن هشام).

فإذا كان الكفار يتعجبون في الماضي -كأبي سفيان- وفي الحاضر -ككفار زماننا- مِن حب المسلمين وتعظيمهم لنبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف لو كان المسلمون على قلب رجل واحد في تعظيمهم وتأسيهم بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- أو كان جمهورهم على ذلك؟! لا نقول حينئذٍ بأن دهشتهم ستزداد فحسب، بل لن يجرؤوا على التعرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل لن يتمادوا في ذلك.

وقد توعد الله -تعالى- بأشد الوعيد أولئك الذين يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحادونه ويشاقونه: فقال -عز من قائل-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(الأحزاب:57)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:61)، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَن لَهُ نَارَ جَهَنمَ) (التوبة:63)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (المجادلة:5)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ) (المجادلة:20)، وقال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:115)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:32)، وقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (الكوثر:3).

فيا لها مِن خسارة... ؟!

يا لخسارة مَن يجهل لماذا خلق؟! ولأي أمر أوجده الله؟!

وإذا كانت بقرة تعلم ما خُلقت له؛ فما بال العبد المكلف لا يدري ما خلق له؟!

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَينا رجل يَسُوق بقرة إِذْ أعيي فَرَكِبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِحِرَاثَةِ الأَرْضِ). فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَإِنِّي أومن بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) (متفق عليه).

وإذا كان كل شيء بين السماء والأرض إلا عاصي الجن والإنس يعرف ويعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويشهد له بالصدق والرسالة، كما قال -عليه الصلاة والسلام: (إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ) (رواه أحمد والدارمي، وحسنه الألباني)، فما عذر الكافر به والمستهزئ به عند الله؟!

يا لخسارة مَن لم يعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي عَرَفه الذئب وبشـَّر به، وعرفه حتى الحجر، وحنَّ إليه الجذع والشجر، وأحبَّه الجبل، وشكى إليه الجمل!

- فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ، فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، قَالَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ، تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ، يُكَلِّمُنِي كَلامَ الإِنْسِ، فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنُودِيَ الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِلرَّاعِي: (أَخْبِرْهُمْ) فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

- وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ) (رواه مسلم).

- وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ" (رواه البخاري).

- وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ: (إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) (متفق عليه).

- وعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَتِهِ هَدَفًا، أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ!) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

فإلى الله المشتكى! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس:30).

ومَن استهزأ وسخر مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة؛ فليس أمامه إلا الموت ولن يشفي غيظه:

- قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) (الحج:15).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أَيْ: بِحَبْلٍ (إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: سَمَاءِ بَيْتِهِ، (ثُمَّ ليَقْطَعْ) يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: لِيَتَوَصَّلْ إِلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ، فَإِنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مُحَمَّدًا مِنَ السَّمَاءِ، (ثُمَّ لِيَقْطَعْ) ذَلِكَ عَنْهُ، إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَأَبْلَغُ فِي التَّهَكُّمِ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى: مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِنَاصِرٍ مُحَمَّدًا وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ، فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غَافِرٍ:51-52)؛ وَلِهَذَا قَالَ: (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَشْفِي ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ" (تفسير ابن كثير).

- وقال الله -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر:36)، وقال: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، وقال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67)، وقال: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) (التوبة:40).

الإسلام وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشريعته باقية ولو كره الكافرون والمجرمون:

- فإن الكفار والمجرمين يتصورون أنهم بسبِّهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستهزائهم به سيقضون على دعوته ورسالته! وإذا كان العجب لا ينتهي ممن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخات فيه؛ فكيف بمَن يحاول إطفاء نور الله -عز وجل- وما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الهدى والحق؟!

هذا محال... قال الله -تعالى-: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد:17).

فهذان مثلان ضربهما الله للحق والباطل، فكما أن الماء ينزل مِن السماء فتسيل به الأودية وهو في طريقه يحمل الزبد وما يطفو على سطحه حتى إن هذا الزبد قد يحجب الماء أحيانًا عن أعين الناظرين، لكنه يضمحل ويذهب، ويبقى الماء ينتفع به الناس، وكما أن المعادن كالذهب يوقد عليه في النار فيطفو الخبث على سطحه وقد يحجبه، لكن يذهب هذا الخبث ويبقى الذهب بنقائه وقيمته ينتفع به الناس، فكذلك الباطل قد يطفو وينتفش ويعلو ظاهرًا، ولكنه كالزبد والخبث ما يلبث أن يذهب جفاءً أي مطروحًا منبوذًا لا أثر له، ويبقى الحق صلبًا قويًّا وإن ظن الظان أنه انزوى أو زال، كالماء الباقي في الأرض والمعدن الصافي الذي يبقي ويُنتفع به.

- وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاً يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

- وقال الله -تعالى-: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:32-33)، وقال الله -تعالى-: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:82).

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com