الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان

لا نملك أمام هذا إلا أن نجادل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نبيِّن مواطن الالتباس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، متوكلين في ذلك على الله -عز وجل-، ومستندين إلى ما سطره علماؤنا

صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان
عبد المنعم الشحات
الخميس ٢٩ يناير ٢٠١٥ - ٠٧:٠٥ ص
7331

صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنتناول في هذا المقال قضية كثـُر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، وهذه القضية هي السؤال الذي يطرحه البعض: هل الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في هذا الزمان أم لا؟!

وهي قضية طفت على السطح، فمنذ أن بدأت تيارات التغريب مِن المستشرقين وتلامذتهم يعملون عملهم في عقول أبناء الأمة، ويشككون الأمة في صلاحية شريعتها للتطبيق ابتداءً أو -على الأقل- في هذا الزمان، والناس ما بين مُدرك لهذا الباطل منكرٍ له، وبين مقتنع، وبين مترددٍ، ومنهم الجاهل ومنهم المتأول، ولا نملك أمام هذا إلا أن نجادل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نبيِّن مواطن الالتباس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، متوكلين في ذلك على الله -عز وجل-، ومستندين إلى ما سطره علماؤنا.

ويمكننا تناول هذه القضية مِن خلال عدة أسئلة:

السؤال الأول: هل أوجب الله علينا أن نطبـِّق شريعته في كل عصر أم أن هذا الوجوب كان يختص بعصر دون الآخر؟!

السؤال الثاني: أننا في هذا العصر الحديث الذي "استحدثَ فيه الناس التكنولوجيا، وأنواع المعاملات المعقدة على مستوى الدولة وعلى مستوى الأفراد" هل سنجد حكمًا شرعيًّا لكل ما استجد في هذه الحياة؟

السؤال الثالث: هل إذا عدنا إلى الشريعة، وبحثنا فيها عن حكم لما استجد في حياة الناس؛ هل سيكون هذا الحكم مناسبًا لهذا العصر أم يكون منفصلاً عنه؟

والإجابة العقدية التي يجب أن يجيب بها المسلم على كل سؤال من الأسئلة السابقة هي: "نعم".

نعم، أوجب الله علينا أن نطبق شرعه في كل زمان ومكان.

ونعم، سنجد إجابة لكل ما استجد من الأمور.

ونعم، سيكون هذا الحكم مناسبًا لهذا العصر.

ومِن ثَمَّ سوف يتفرع على هذا، السؤال الرابع وهو: إذا كان ثمة واقع يخالف الشريعة قد طبق وتجذر، فهل تقدم لنا الشريعة حلاً للتعامل مع مثل هذه الأحوال؟

وهذا يقود إلى السؤال الخامس: ما هي الآلية التي تقدمها الشريعة لمعالجة الأخطاء التي يقع فيها الأفراد أو الفِرق سواء ما دون منها وما لم يدون؟

ورغم أننا قدَّمنا إجابة هذه الأسئلة مِن حيث الجملة أثناء طرحها؛ إلا أنه لا بد مِن شيء من التفصيل، ومناقشة الشبهات حول كل منها.

إجابة السؤال الأول:

س: هل أوجب الله علينا أن نطبـِّق شريعته في كل عصر أم أن هذا الوجوب كان يختص بعصر دون الآخر؟

ج: نعلم أن الله -عز وجل- قد بعث في كل أمة نذيرًا، وجعل رسالته محددة بزمان ومكان، ثم بعث الله -عز وجل- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالشريعة الخاتمة، وخصها بعدة خصائص.

منها "وأهمها": أنها عامة زمانًا ومكانًا: قال الله -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1)، ثم وصفها الله -عز وجل- وصفًا لم يصف به غيرها مِن الشرائع، فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)، وعن طارق بن شهاب قال: "قَالَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)" (متفق عليه).

ثم إن الله -تعالى- قضى بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم المرسلين، فعلِمنا مِن مجموع ذلك أن شريعته واجبة، وأنها صارت شرعة كل مِن جاء بعده -صلى الله عليه وسلم-.

ولو نظرنا إلى المخالفين في هذه القضية: فسنجد أن مقتضى كلامهم أنهم يدَّعون أن الشريعة قد نُسخت! وهذه حقيقة أقوالهم نجليها لهم؛ ليتوبوا إلى الله منها، مع أننا في مقام إقامة الأحكام نطبِّق قاعدة أن: "لازم القول ليس بقول".

وأكثر هؤلاء جُرمًا مَن يدعي أن "القرآن" ذاته قابل للنقد! وهو قول قال به "طه حسين" وكفـَّره مِن أجله "علماء الأزهر" ثم تاب منه، ولكن أفراخ المستشرقين يحلو لهم أن ينشروا الباطل الذي تاب منه صاحبه، وأن يكتموا الحق الذي مات عليه.

ومنهم مَن يدَّعي "تاريخية النص القرآني!"، ويزعم أن كل آية مقيَّدة بسبب نزولها، ومِن هؤلاء: "حسن حنفي" صاحب كتاب "التراث والتجديد"، والذي ردَّ عليه "شيخ الأزهر" الشيخ "أحمد الطيب" -حفظه الله- في كتاب: "التراث والتجديد مناقشات وردود".

وحاصل كلام مَن يدعي تاريخية النص القرآني أن كل آية مِن القرآن نُسخت فور نزولها -والعياذ بالله!-.

وأما مَن يقول بأن الشريعة كانت صالحة لزمان نزولها، فحاصل قوله -أيضًا-: الادعاء بنسخ شريعة الإسلام؛ إلا أنهم يضربون أخماسًا في أسداس لو سئلوا عن النص الناسخ؟ وعن تاريخ هذا النسخ؟ وهل كان منذ قرن أم قرنين أم ماذا؟!

إجابة السؤال الثاني:

س: إننا في هذا العصر الحديث الذي استحدث فيه الناس التكنولوجيا وأنواع المعاملات المعقدة على مستوى الدولة وعلى مستوى الأفراد، هل سنجد حكمًا شرعيًا لكل ما استجد في هذه الحياة؟

ج: والكلام هنا على قضية الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والمسلم يعتقد أن الله حكيم لطيف خبير، ويعتقد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادق في كل ما بلغه عنه، ومِن المحال أن يحيلك الله على مصدر ثم لا تجد بغيتك في هذا المصدر.

وهذه القضية ينبغي ألا تكون محل شك مِن المسلم بمقتضى عقيدته، ومِن ثَمَّ؛ فلا يجوز السؤال عنها مِن باب الشك، وإن جاز السؤال عنها مِن باب التعلُّم.

ونقول: إن البعض يطرح سؤالاً استشكاليًّا حول هذه القضية، وهو: كيف تكون الشريعة تقوم على عددٍ محدود من النصوص بينما يمكنها أن تشمل أحكامًا لمسائل لا تنتهي؟!

ومَن عَلِم القواعد الشرعية لبحث ما استجد مِن مسائل؛ لزالت مِن عنده هذه الشبهة؛ وذلك لأن الله -عز وجل- أنزل إلينا في الشرع نصوصًا نستخرج منها قواعد، مِن أهمها: "أن الأصل في المعاملات الإباحة"، و"أن الأصل في العبادات التحريم"؛ ما لم يكن هناك دليل ينقل عن هذا الأصل.

وعندما نبحث أو يستجد أي شيء من المعاملات أو من المخترعات "كاختراع وسائل المعلومات أو المواصلات"، فكل أمر من هذه الأمور لا بد أن نجد له حكمًا؛ لأن طريقة البحث تقول لك: "ابحث في قائمة المحرمات"؛ فإن وجدتَه فيها؛ فقل: "إنه محرم"، وإلا فقل: "إنه مباح"، وبهذه الصورة فلا يمكن أن نجد شيئًا لا حكم له.

وخريطة البحث بناءً على تفريعة: "إما، وإما"؛ فإما تجده ينطبق عليه نهي، وإما أن يكون مباحًا - هذا مِن رحمة الله بنا وتيسيره.

وأما قائمة المحرمات فيُبحث فيها مِن خلال ثلاث خطوات:

الأولى: هل هذا الشيء منهي عنه بذاته وبخصوصه؟ فإن لم يكن؛ نلجأ إلى الخطوة الثانية.

الثانية: هل هذا الشيء داخل في عموم منهي عنه؟ فإن لم يكن؛ نلجأ إلى الخطوة الثالثة.

الثالثة: هل يشترك هذا الشيء مع منهي عنه في علة النهي؟ فإن لم يكن؛ يكون هذا الشيء مباحًا.

ومِن هنا نعلم الحكمة الشرعية في استعمال الشرع لألفاظ العموم؛ وذلك لكي يكون هذا الشرع ثروة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وأن العموم واضح في النصوص التي وردت في غير سبب، بل وفيما نزل بسبب؛ كأن ينزل بلفظ عام يحمل بداخله إجابات عن أسئلة لم تنزل بعد.

ومع استعمال الشرع لألفاظ العموم علـَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- القياسَ للصحابة -رضي الله عنهم-، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحاول أن يجعل السائل يستنبط الإجابة عن طريق القياس، مع أنه في النهاية لم يكن محتاجًا للقياس، ولا وجود للقياس مع وجود النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الحكم لو أُخذ بالنص؛ فلا يجوز الأخذ بالقياس، وكان -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم الأمة القياس، فهذا عمر يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القبلة للصائم، والإجابة أنها لا تبطل الصيام، وهذه إجابة مباشرة، ولكن هنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلمه العلة، وأن يعلمه القياس، فقال: (أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ) قَالَ: فَقُلْتُ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَفِيمَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وقد يقول قائل: إن هذا الكلام حول العموم والخصوص، والقياس، والشروط إنما بدأ مع كتاب الإمام "الشافعي" -رحمه الله-.

والجواب: أنه لا بد مِن ملاحظة الفرق الكبير جدًّا بيْن وجود الأشياء وبين تدوينها، أو تنظيمها في قواعدَ، فعمرو بن العاص -رضي الله عنه- إذا ذُكِر، ذُكِر الجهاد والشجاعة، ولا نصنفه في علماء الصحابة، ومع هذا بعد إسلامه بثلاثة أشهر فقط أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- قائدًا لغزوة "ذات السلاسل"، والشاهد ليس في ذلك، وإنما "ذات السلاسل" كانت في وقت شديد البرد فوق الجبال؛ فأصابته جنابة فتيمم ثم صلى بأصحابه، فلما عادوا اشتكوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَمْرُو، صلىتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟) قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29)، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تبسم استحسانًا لفعل عمرو -رضي الله عنه-، مع أن التيمم في هذه اللحظة كان المنصوص عليه عند فقدان الماء فقط، ولكن الأمر أصبح مشروعًا بالنص بعد ذلك بفعل عمرو -رضي الله عنه- واستحسان النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن قبْل ذلك يعتبر فعل عمرو -رضي الله عنه- اجتهادًا ثم أقره النبي -صلى الله عليه وسلم-.

إجابة السؤال الثالث:

س: وهل إذا عدنا إلى الشريعة وبحثنا فيها عن حكم لما استجد في حياة الناس، هل سيكون هذا الحكم مناسِبًا لهذا العصر أم يكون منفصلاً عنه؟

ج: الإجابة العقدية -بعيد عن الجدل-: نعم، بلا شك، ولنتذكر مرة أخرى: أننا إذا كنا نعتقد أن الله عليم خبير، وأن الله أمرنا أن نعود في كل أمورنا إلى الشرع، والله -عز وجل- هو خالق كل شيء، وأنه -سبحانه- قد قدَّر أن في زمان ما ستكون أحوال الناس على حالة معينة، وأمرهم أن يعودوا إلى الشرع،؛ فلا بد أن يكون الحكم الشرعي الذي سيحصلون عليه مناسِبًا لأحوالهم.

ولكن البعض يقول: وما لنا لا نرى هذا؟! فنرى الدنيا كلها تقوم على الربا، والشرع يقول إن الربا محرم، ونرى البيوع تقوم على الغرر وغيرها مِن المعاملات المحرمة، والشرع ينهى عن ذلك!

فأقول: هذا لا يعني أنه لا يناسب هذا الزمان، وإنما هذا يؤدي إلى إحالة هذه الأمثلة على السؤال الرابع.

ذلك أن هذه الأحوال إنما نشأت مِن أن أهل هذا الزمان اُبتلوا بالنظرة المادية، ولوجود معظم المعاملات الراجعة إلى الربا والغرر والميسر، ونحوه مما يحقق بعض المصالح أحيانًا "ويسبب نزاعًا وشقاقًا وحزنًا وتباغضًا في كثير مِن الأحيان، وهذا واضح وظاهر لكل الناس" - لكن مِن ها هنا ظنَّ بعض الناس أن أحكام الشريعة لا تناسِب هذا الزمان، وهذا ناتج مِن أفكار وسلوكيات خاطئة انتشرت بيْن أهل هذا الزمان، ثم يستدلون بالمخالفة للشرع على عدم مناسبة الشرع، والأمر على العكس مِن ذلك تمامًا، ومِن مقاصد الشرع الحفاظ على الجانب الإنساني في الإنسان، ولا نقول إن تحريم الشرع للربا دليل على عدم صلاحيته لهذا الزمان، ولو افترضنا أن العالم إلى يومنا هذا لم يتورط في مكائد اليهود من اعتماد الربا كنظام اقتصادي، فماذا يقول الاقتصاديون؟ يقولون إن الاقتصاد الإسلامي يقوم على المشاركة وليس على الربح المضمون، إذن لا يمكن أن تحتج بشيوع الربا في هذا الزمان على أن تحريم الربا لا يناسب هذا الزمان، ولكن يمكنك أن تسأل السؤال الرابع.

إجابة السؤال الرابع:

س: إذا كان ثمة واقع يخالف الشريعة قد طـُبـِّق وتَجذر؛ فهل تقدِّم لنا الشريعة حلاً للتعامل مع مثل هذه الأحوال؟!

ج: وهذا السؤال والخوف مِن أن تكون الإجابة بأنه لا بد مِن نسف ذلك الواقع بين يوم وليلة، هو ما يدفع الكثير من المفكرين والساسة إلى تبني الأقوال المنحرفة التي تدعي أن الشريعة لا تصلح لهذا الزمان؛ وبالتالي فنحن نطمئن هؤلاء بأن الشريعة تتضمن القواعد التي تتعامل بها مع هذا الواقع، مثل: "التفرقة بين حال الاضطرار وحال الاختيار"، و"وجوب مراعاة المصالح والمفاسد"؛ كل هذا للتعامل مع الواقع المنحرف، والشرع يعطيك قاعدة عامة ذكرها الله -تبارك وتعالى- على لسان شعيب -عليه السلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود:88)، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: (لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه البخاري ومسلم).

ومن هذا يُعلم أنه يجب الصبر على الواقع المنحرف على أن يكون اتجاه الحركة في الاتجاه الذي يؤدي إلى الإصلاح، ومَن راجع سيرة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يجد شيئًا في غاية الأهمية، وهو الإصلاح مِن قمة الهرم بعد الانحراف في بدايات حكم بني أمية، والإصلاح كان يديره الحاكم بنفسه، ومع ذلك نقول ما الذي فعله عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، والذي جعل الأمة تثني عليه إلى الآن؟!

لقد غيَّر الاتجاه الذي كان يسير إلى مزيدٍ مِن الفساد ليعود تدريجيًّا إلى الصلاح، ولهذا فهو مِن مجددي هذه الأمة -رحمه الله-، والواجب إذا انتشر الفساد وتغلغل أن نضع خطة للإصلاح التدريجي.

وهنا يحدث خطآن خطيران:

الخطأ الأول: الدعوة إلى نسف الواقع بأكمله الذي يحدث فيه فساد ولو على جثث الناس... !

ولو على دمائهم... !

ولو على أعراضهم... !

فيترتب عليه سفك دماء، وضياع أمن، وانهيار اقتصادي، وينشأ بعدها مجال لا يسمح بسماع حق، ولا بعمل على الإصلاح، وهذا الخطأ موجود عند الكثيرين.

الخطأ الثاني: على الجانب الآخر نجد مَن يُشرعن الخطأ بأن يقول هذا من الشرع! أو هذا لا مانع منه، أو -على الأقل- يسكت ويدعو للسكوت عليه! فإذا رأيتَ في مجتمع مسلم التبرج -مثلاً- الذي شاع نتيجة مكر الليل والنهار، وسنوات مِن الشبهات والشهوات حتى استدرج كثيرًا من نساء الأمة إلى هذه المعصية، فمع حاجة المجتمع في هذه الحالة إلى دعوة وبيان وإرشاد؛ فإذا بمَن يقول لكَ: سوف تغضب الكثير مِن هؤلاء؛ فاسكت!

وكلا هذين المسلكين السابقين خطأ.

والصواب: أننا على المستوى العلمي والمنهجي والدعوي؛ لا بد أن نعلِّم كما علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- السيدة عائشة -رضي الله عنها-، لا بد أن يَعلَم الناس الحق، وأن يدركوا مقدار الانحراف الذي بيْنهم وبين هذا الحق، وأن نأخذ طريقنا في الصلاح والإصلاح؛ فإن الشرع يعطي القواعد التي يمكنك أن تتعامل بها مع مجتمع مسلم فيه انحراف مهما بلغ، ويعطي القواعد التي يمكن أن تتعامل بها مع انحراف متجذرٍ، ومتأصل في المجتمع.

إجابة السؤال الخامس:

س: ما هي الآلية التي تقدمها الشريعة لمعالجة الأخطاء التي يقع فيها الأفراد أو الفِرق سواء ما دوِّن منها وما لم يدون؟

ج: في الأسئلة الأربعة السابقة هناك مَن يجيب بغير ما أجبنا، ويعالج الأمور بغير الحكمة المستفادة من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذه الأخطاء يجب أن تنسب إلى الأفراد أو الجماعات ولا تُنسب إلى مجموع التراث الإسلامي، ومجموع التراث ثروة هذه الأمة والجهود المباركة لعلمائها وقادتها من عصر الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لا سيما وأن معظم هذه الأفكار غير مدون، ولكن سواء المدون منها أو غير المدون لا يلزم إلا أصحابه، ويجب التعامل مع الجميع بالقواعد الشرعية المقررة كما في قوله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقول الإمام مالك -رحمه الله-: "كل يؤخذ مِن قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ويجب أن نوقن جميعًا بقوله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، فدين الله محفوظ، ومَن عاد إلى مصادره الأصلية؛ استطاع -بفضل الله- أن ينقي التراث الإسلامي مما علق به مِن بدع أو انحرافات.

ومما يجمل التنبيه عليه: أن هذه الأخطاء تقل جدًّا كلما اقتربنا مِن عهد النبوة، وكلما كان اعتمادنا على فقه الأئمة الذين كَتب الله لهم لسان صدق في الأمة، وتزداد عند المتأخرين الذين تنكبوا لتراث الأمة، ورضعوا مِن الثقافة الغربية، أو أولئك الذين لجأوا للتراث؛ ليلووا عنقه، ويبرروا به غلوهم أو استعجالهم أو إغفالهم للسنن الشرعية والكونية!

نسأل الله -تعالى- أن يرينا الحق حقـًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com