الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

محمد -صلى الله عليه وسلم- "الرحمة المهداة"

امتدح الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بما جبله عليه مِن الرحمة العظيمة التي امتلأ بها قلبه وامتن الله بها عليه

محمد -صلى الله عليه وسلم- "الرحمة المهداة"
محمود عبد الحفيظ
السبت ٣١ يناير ٢٠١٥ - ٠٧:٢٤ ص
1551

محمد -صلى الله عليه وسلم- "الرحمة المهداة"

كتبه/ محمود عبد الحفيظ عبد الحافظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد امتدح الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بما جبله عليه مِن الرحمة العظيمة التي امتلأ بها قلبه وامتن الله بها عليه، فقال -عزَّ مِن قائل-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159). أي مع كونك رسول الله، ومع كونك مؤيدًا بالمعجزات والآيات التي على مثلها يؤمن البشر؛ لو كنتَ مع ذلك فظـًّا غليظ القلب لانفض الناس مِن حولك! (فكيف بغيره -صلى الله عليه وسلم-؟!).

والآية الكريمة تحمل توجيهًا عظيمًا في أهمية التعامل بخلق الرحمة والرفق مع الخلق والعباد، وأثر ذلك في هداية الناس واستجابتهم لمن يدعوهم إلى ما يحييهم بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

وقد بلغ مِن رحمته وحرصه -صلى الله عليه وسلم- على نجاة الخلق، وإشفاقه مِن عدم إيمان مَن كفر به وتولى عنه - أن كادت نفسه الشريفة أن تتلف وتذهب حزنًا وحسرة على استحقاقهم لعذاب الله؛ فأنزل الله عليه: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر:8).

بل قد شبَّه الله -تعالى- لنا حال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَن تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما حلَّ في نفسه الشريفة مِن الأسى والحزن على كفرهم، بمن فارقه أهله وأصحابه فهو لا يزال يتبع آثارهم بعد غياب أبدانهم متأسفًا على رحيلهم، فكذا كان -صلى الله عليه وسلم- متحسرًا على فوات الكفار منه، وعدم تمكنه من إنقاذهم حتى أوشك على أن يبخع نفسه -يقتلها ويهلكها- مِن شدة حزنه، فقال -تعالى-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6).

وقال -تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة:272).

فمن هلك وسقط في النار إنما كان رغمًا عنه -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان كمن هو آخذ بحُجَز العصاة الذين كفراشٍ يهوي نحو النار وهو يذبهم ليبعدهم عن النار فيغلبونه ويسقطون فيها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا) (متفق عليه).

وقد كشف الله -سبحانه وتعالى- لنا عن مشاعر نبيه -صلى الله عليه وسلم- وما في نفسه الشريفة وأعماقه مِن الرحمة والرأفة، وسماه -صلى الله عليه وسلم- باسمين مِن أسمائه الحسنى، ووصفه بوصفين من صفاته العليا، فقال -عز وجل-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).

فما أجمل أن يوصف إنسان "خاصة إذا كان قائدًا أو مسئولاً" بهذه الأوصاف العظيمة مِن أن يعز عليه عنت الناس، وأن يكون بهم رءوفًا رحيمًا!

- (لَقَدْ جَاءَكُمْ): أضاف الله -تعالى- المجيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية الكريمة رغم أنه مكلف مِن الله بهذه الرسالة؛ للدلالة على الإرادة الخاصة والصادقة في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاضطلاع بهذه المهمة الصعبة، والقيام بوظيفة هداية البشرية، وإرشاد الخلق لمصالح الدين والدنيا، ويا لها مِن مهمة ووظيفة لا يقوم بحقها إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-! فلم يكن كارهًا أو مُكرَهًا.

- (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ): فهو مِن جنسكم وعلى لغتكم، وهو مع ما هو عليه من تقوى الله -عز وجل-، وجميل الصفات والخصال، ومكارم الأخلاق العظيمة التي امتدحه رب العالمين بها: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) - هو مع ذلك مِن البشر؛ فليس من الملائكة أو غيرهم، بل يسري عليه ما يسري على سائر البشر مِن الجوع والألم، والفقر والمرض، والفرح والحزن، والرضا والغضب، والضحك والبكاء؛ فهو لذلك حجة -صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر والخلق وأسوة للعالمين، وحتى لا يحتج أحد إذا طولب بما كان عليه من التحلي بالفضائل وترك الرذائل، وأن يترقى في مدارج السالكين ومعارج الصالحين، وأن يتشبه بمواقفه -صلى الله عليه وسلم-؛ بأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن بشرًا كسائر البشر أو مِن جنسهم.

- (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ): هو -صلى الله عليه وسلم- يعز عليه ويؤلمه عنت الناس ومشقتهم، فهو ليس في عزلة عن همومهم ومعاناتهم وآلامهم، بل هو دومًا يسعى في مصالحهم وحاجاتهم، ويدعو للتيسير عليهم.

- قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِه) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكَنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

- بل حتى في أيسر الأشياء لا يوقع عليهم مشقة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ) (متفق عليه).

- وكانت سيرته -صلى الله عليه وسلم- في التيسير على عباد الله ورفع الحرج عنهم تطبيقًا عمليًّا لذلك: فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- ذكر حديثًا عجبًا عن رجل في مسئولية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما عليه مِن أعباء، وما لديه مِن مهامٍ جليلة عظيمة، فقال: "إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ!" (رواه البخاري). والمراد بقوله: "لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-": غاية التصرف، فمهما طلبت الأَمة مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قضاه لها وأجاب طلبها، وذهب معها ولو كان مكانًا بعيدًا!

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضًا قال: إِنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: (يَا أُمَّ فُلانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ) فَخَلا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. (رواه مسلم).

ولك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يهم امرأة في عقلها شيء -كما وصفها أنس رضي الله عنه-؟! ومع ذلك يعتني بها -صلى الله عليه وسلم- حتى يقضي ويحقق لها حاجتها!

- (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ): والحرص هو: "شدة العناية بحفظ الموجود، وشدة الرغبة في الحصول على المفقود" (تفسير المنار)، فهو -صلى الله عليه وسلم- حريص على اهتداء قومه به بإيمان كافرهم، وثبات مؤمنهم في دينه، وشديد التمسك بنجاة الناس وهدايتهم، كما قال الله -تعالى- له: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (النحل:37)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103).

- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تثبيت المسلمين وعدم تنفيرهم "شدة العناية بحفظ الموجود":

- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، فَصَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَالتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا)، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ، إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

- وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي، وَلا ضَرَبَنِي، وَلا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (رواه مسلم).

فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلـِّم الجاهل والمسيء بالحلم والرفق.

- شفقته -صلى الله عليه وسلم- على رجلين من الأنصار مرا عليه: عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا) (متفق عليه). وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- خشية عليهما؛ لأن سوء الظن به -صلى الله عليه وسلم- ردة ومهلكة.

- كما علـَّم -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أدعية الثبات: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

حرصُ النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية الكافرين ونجاتهم "شدة الرغبة في الحصول على المفقود":

- عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ! قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: (دَعْهُ، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) (متفق عليه).

فامتنع -صلى الله عليه وسلم- عن الإذن لعمر -رضي الله عنه- في قتل "رأس النفاق" عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سَلـُولَ "وغيره مِن المنافقين"؛ حتى (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) فتكون المفسدة بقتل أمثال هؤلاء المنافقين أعظم مِن مصلحة قتلهم؛ إذ يكون ذلك سببًا في تنفير الناس عن الإسلام إذا وصل إليهم أن محمدًا يقتل أصحابه ولم يعلموا سبب قتل هؤلاء المنافقين، فكان هذا منه -صلى الله عليه وسلم- رحمة بالخلق وحرصًا على هدايتهم!

- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: (مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ).

فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ، مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلا وَاللهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! (رواه مسلم).

- بالإضافة إلى تأليفه -صلى الله عليه وسلم- لقلوب الكفار، واحتمال آذاهم، مع قدرته -صلى الله عليه وسلم-على الانتصار لنفسه، وهذا حرصًا منه على إسلامهم ونجاتهم.

- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ): كان -صلى الله عليه وسلم- يراعي ظروف المسلمين وأحوالهم حتى في الصلاة!

- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) (متفق عليه).

- بل كان -صلى الله عليه وسلم- يتجوز ويخفف في صلاته إذا سمِع بكاء الصغير؛ شفقة عليه ورحمة بأمه: فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (وَالله إِنِّي لأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ؛ فَأُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ!) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- وكان -صلى الله عليه وسلم- يمتنع عن المواظبة على بعض العبادات خشية أن تفرض وتشق على أمته: مثلما امتنع -صلى الله عليه وسلم- عن المواظبة على صلاة التراويح في جماعة خشية أن تفرض على أمته!

فهو بحق -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر عن نفسه: (إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) (رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني).

بل كما أخبر الله -تعالى- عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

فانتفع به -صلى الله عليه وسلم- كل العالمين مِن الجن والإنس وغيرهم "حتى الملائكة!"؛ إذ أمر -صلى الله عليه وسلم- بحفظ حقوقهم مِن عدم إيذائهم بالروائح الخبيثة "ولو بثوم أو بصل"، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن البصق عن اليمين لمقام الملـَك فقال: (إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقْ أَمَامَهُ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا) (متفق عليه).

بل وانتفعت به حتى الحيوانات والدواب التي نهى عن تعذيبها وإيذائها، وأمر بالإحسان حتى عند ذبحها أو قتلها، بل حتى النبات والجماد؛ إذ أمر -صلى الله عليه وسلم- بالرفق في كل شيء.

- وإذا قال قائل: كيف انتفع الكفار بمجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان رحمة لهم، وهم إذا كفروا به قامت عليهم الحجة الرسالية، واستوجبوا الخلود في الجحيم والعذاب المقيم؟!

فالجواب: ذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله- فقال: "أَصَح الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله -تَعَالَى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، أَنه على عُمُومه، وَفِيه على هَذَا التَّقْدِير وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن عُمُوم الْعَالمين حصل لَهُم النَّفْع برسالته؛ أما أَتْبَاعه: فنالوا بِهِ كَرَامَة الدُّنْيَا وَالآخِرَة، وَأما أعداؤه: فالمحاربون لَهُ عجّلَ قَتلهمْ، وموتهم خير لَهُم من حياتهم؛ لأَن حياتهم زِيَادَة لَهُم فِي تَغْلِيظ الْعَذَاب عَلَيْهِم فِي الدَّار الآخِرَة، وهم قد كتب عَلَيْهِم الشَّقَاء فتعجيل مَوْتهمْ خير لَهُم مِن طول أعمارهم فِي الْكفْر، وَأما المعاهدون لَهُ فعاشوا فِي الدُّنْيَا تَحت ظله وَعَهده وذمته وهم أقل شرًّا بذلك الْعَهْد من الْمُحَاربين لَهُ. وَأما المُنَافِقُونَ: فَحصل لَهُم بِإِظْهَار الإِيمَان بِهِ حقن دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وأهلهم واحترامها، وجريان أَحْكَام الْمُسلمين عَلَيْهِم فِي التَّوَارُث وَغَيره، وَأما الأُمَم النائية عَنهُ فَإِن الله -سُبْحَانَهُ- رفع برسالته الْعَذَاب الْعَام عَن أهل الأَرْض؛ فَأصَاب كل الْعَالمين النَّفْع برسالته.

الْوَجْه الثَّانِي: أَنه رَحْمَة لكل أحد، لَكِن الْمُؤْمِنُونَ قَبِلوا هَذِه الرَّحْمَة فانتفعوا بهَا دنيا وَأُخْرَى، وَالْكفَّار ردوهَا فَلم يخرج بذلك عَن أَن يكون رَحْمَة لَهُم، لَكِن لم يقبلوها، كَمَا يُقَال: هَذَا دَوَاء لهَذَا الْمَرَض؛ فَإِذا لم يَسْتَعْمِلهُ الْمَرِيض لم يخرج عَن أَن يكون دَوَاء لذَلِك الْمَرَض" (جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام).

فما أحوجنا وأحوج الناس مِن حولنا مِن الكفار والعاصين أن يروا فينا أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الرفق والرحمة والرأفة، فإن هذا مِن أعظم ما ندافع به عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ أن نبرز أخلاقه وسيرته بالتطبيق العملي، فإذا علم الناس أن ما نحن علينا هو ما جاءنا به محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ عرفوا قدره، وأذعنوا لنبله وكريم خصاله وأخلاقه -صلى الله عليه وسلم-.

فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا باتباع سنة النبي العدنان، محمد -صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة لكل الأنام.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي