الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

ردًا على إبراهيم عيسى.. السنة كالقرآن يرد متشابهها إلى محكمها لمن سلم من الزيغ

لو أحيل الأمر إلى الراسخين في العلم من علمائنا الأجلاء الذين نقلنا عنهم، لاندثرت الفتنة

ردًا على إبراهيم عيسى.. السنة كالقرآن يرد متشابهها إلى محكمها لمن سلم من الزيغ
عبد المنعم الشحات
الخميس ٢٦ فبراير ٢٠١٥ - ١١:٠١ ص
3848

ردًّا على "إبراهيم عيسى"...

السنة كالقرآن يُرد متشابهها إلى محكمها لمن سَلِم مِن الزيغ

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد خرج علينا الكاتب الصحفي "إبراهيم عيسى"، بمناسبة صدور جريدته الجديدة المعنونة بـ"المقال" بإعادة صياغة لشبهة قديمة طالما رددها أعداء السنن، وهي: "دعوى مخالفة السنة للعقل أو للقرآن"، والجديد في صياغة الشبهة هنا أنه طبـَّقها وفق فهمه هو طبعًا في باب مِن أهم الأبواب، وهو "أخلاق وشمائل النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ فخرج بنتيجة "مثيرة!" وهي حسب فهمه "أن محمد القرآن غير محمد السنة!".

ورغم هذا الإطلاق العريض "المثير"؛ فإن "الكاتب" يعود ليعترف أنه حتى وفق وجهة نظره، فإن السنة قد وافقت القرآن في كثير مما ذكرتْ مِن خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنها وفي أحاديث أُخر قد نسبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يناقض القرآن مِن وجهة نظره؛ مما يستوجب عنده رفضها وتكذيبها "وإن وردت في البخاري ومسلم!".

ولم يخلُ الأمر مِن بكاء وعويل، وشجب وتنديد بأولئك الذين قدَّسوا كُتُب السُّنة "لا سيما البخاري ومسلم" رغم ما فيهما مِن مناقضة للقرآن "بحسب وهمه!".

وكمزيدٍ من "الإثارة" اختار "الكاتب" جانب التسامح في التعامل مع الكفار "لا سيما أهل الكتاب"؛ ليدلل أن القرآن جاء بهذا التسامح، بينما جاءت "بعض" الأحاديث بعكسه؛ رغم تعمده الإيحاء بالتعميم.

ومِن المعلوم أن هذه الفترة تشهد ما يفعله تنظيم "داعش" مِن جرائم كان آخرها حرق الطيار الأردني "معاذ الكساسبة"، وذبح "21 قبطيًّا مصريًّا"؛ مما استدعى مِن "الأزهر"، ومِن جميع الغيورين على الدين والوطن أن يستنكروا هذا الإجرام.

ولكن "إبراهيم عيسى" كان له همٌّ آخر؛ وهو: "استثمار جهل داعش وغلوهم" في الطعن في "كتب الفقه وكتب الحديث"، ثم جاء في هذه المقالة ليعرض قضيته الأم في ثوب المشفق على سماحة الإسلام! ومِن ثَمَّ "انتقى" بعض الآيات وعارضها ببعض الأحاديث الصحيحة ليخرج مِن ذلك بنتيجة لخصها في عنوان مقالته: أن القرآن يقدِّم لنا صورة متسامحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بينما بعض نصوص السنة "وبعضها وارد في البخاري ومسلم" تقدِّم صورة مغايرة!

وفي الواقع قضية "حجية السنة" مِن القضايا التي قُتلتْ بحثًا لمن أراد البحث العلمي الدقيق؛ سواء مِن حيث أصل حجيتها أو من حيث الثقة في ضوابط التصحيح والتضعيف التي تلقتها الأمة بالقبول، أو من حيث مكانة الصحيحين، أو من حيث التعامل مع النصوص التي ظاهرها التعارض أو ظاهرها معارضة العقل، وهي التي يلجأ إليها في العادة خصوم السنة.

ففي المباحث الأربعة الأولى يأتي بحث "السنة" لعلامة الأزهر الشيخ "محمد محمد أبو شهبة"، وكذلك كتاب "التعريف بكتب الحديث الستة" له، كما يأتي كتاب "حجية السنة" لعبد الغني عبد الخالق، وكتاب "مكانة السنة" للسباعي، وغيرهم، ومن حيث قضايا دفع التعارض بين السنة والعقل، أو السنة والقرآن، أو السنة بعضها البعض؛ يأتي "كتاب تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة، و"إعلام الموقعين" لابن القيم، وكذلك كتاب العلامة "أبي شهبة".

وأما في الجمع بين النصوص الآمرة بالسماحة والنصوص المخالفة لها؛ فيأتي كتاب "الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي" للشيخ "الطريقي" -حفظه الله-، وله شرح صوتي مع تفريغ خطى له للشيخ محمد إسماعيل -حفظه الله-، وهو مِن الأهمية بمكان للرد على شبهات هذا المقال خاصة.

وسنحاول في عجالة أن نبيِّن هذه القضايا على وجه الإيجاز، وأنصح الأستاذ "إبراهيم عيسى" نصيحة صادقة أن يراجع هذه المصادر، وهي متوفرة -بحمد الله- قبل أن يكرر حديثه في هذا الجانب الخطير.

أولاً: هل يسع مسلمًا أن يسمع الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشافهة ثم يرده؟!

والإجابة القطعية التي هي مقتضى شهادة "أن لا إله إلا الله": أنه لا بد أن يصدِّق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر، وأن يطيعه في كل ما أمر، وهذا مقتضى قول الله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7).

ومِن ثَمَّ فإن إطلاق لفظ السُّنة على سبيل الذم كما فعل "الكاتب" في مقاله هو مِن سوء الأدب مع الله، ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى ولو كان في تفصيل كلامه قد بيَّن أنه يقصد مِن السنة هنا بعضها وليست كلها، وهو البعض الذي "توهم" أنه معارض للقرآن.

ثانيًا: هل يمكن الاقتصار على القرآن وحده في فهم الإسلام وتطبيقه؟!

والإجابة: بالقطع لا، ودلالة ذلك:

أ‌- أن القرآن قد أحال على السنة في قوله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؛ ومِن ثَمَّ فإن مَن زعم الاقتصار على القرآن فهو مناقض لنفسه وللقرآن.

ب‌- قال الله -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل:44)، وفيه أن السنة ذِكرٌ منزل، ومنها شارح ومبين للذكر الأول "وهو القرآن" وهو واقع؛ فكثير من القرآن مجمل، أتى بيانه في السنة، ويوضحه ما بعده.

ج- أن الأستاذ "إبراهيم عيسى" ومَن لف لفه، وسار على دربه؛ إما أنهم يصلون بالصلاة التي ثبتت كيفيتها بالسنة، وفي كتبها التي لا يكفون عن الطعن فيها فيكونون متناقضين! أو أنهم لا يصلون، ومِن ثَمَّ؛ فلا يحق لمن ترك أهم عبادات البدن أن ينصب مِن نفسه باحثًا في دين الله، وحاجة المسلمين إلى معرفة تفاصيل الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها مِن آكد الأدلة على حجية السنة.

ثالثًا: هل ما ورد في القرآن من الأمر باتباع السنة، وما تبين يقينًا من حاجة المسلم إلى السنة لبيان مجمل القرآن يختص بها مَن عاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط؟!

والإجابة: بالقطع لا؛ لعموم الأمر مِن الله -تعالى-، ولعموم حاجة المسلم لبيان ما في القرآن مِن عقائد وعبادات، ولما استقر في عرف كل العقلاء أن الكلام يثبت في حق مَن وصله بواسطة طالما قامت بها الثقة؛ وإلا لما ثبتت القوانين في حق المواطنين إلا بسماعها مشافهة، ولا ثبتت الأخبار إلا سماعًا ممن عاينها! وهذا مِن أبطل الباطل، ويوضحه ما بعده.

رابعًا: هل قامت الثقة في جميع ما يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن أخبار؟!

إذا تقدم أنه في عرف كل العقلاء أن الكلام يثبت حكمه في حق كل مَن بلغه بطريقة تطمئن إليها نفسه، ويحصل بها غلبة الظن بصدق نسبتها إلى مَن نسيت إليه، ومِن ذلك ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك يقول -تعالى-: (لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام:19)، - فالقرآن ذاته داخل في هذا.

ويبقى السؤال: هل ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال يمكن الوثوق بها جميعها؟!

والجواب: أن العلماء قد قسَّموا هذه الأخبار مِن حيث المبدأ إلى قسمين:

الأول: ما يرويه في كل طبقة من طبقاته عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، واصطلحوا على تسميته بالمتواتر، وهو يشمل القرآن، وبعض نصوص السنة، وهو ما يستغني عن البحث والتمحيص.

الثاني: ما رواه عدد دون ذلك، فيفتقر إلى البحث والتمحيص؛ عملاً بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات:6).

وبعد البحث والتمحيص يسمى ما اطمأننا إلى صدقة بالصحيح "أي تصح نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فكأننا سمعناه منه مشافهة، ويسمى الآخر بالضعيف، فكأنه لم يَرد.

خامسًا: ما هي الشروط التي وضعها العلماء للحكم على حديث ما بالصحة "أي بقبول نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-"؟!

يعرِّف علماءُ الحديثِ الحديثَ الصحيح بأنه "ما اتصل سنده برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة".

ومعنى هذا: أن العلماء اشترطوا للحكم بصحة حديث أن يكون حمله عدل ضابط "أي موثوق في دينه وحفظه معًا" إلى عدل ضابط، وهكذا إلى أن وصل إلينا، فإن لم نثق بمثل هذا الخبر؛ فلا ثقة في خبر على وجه الأرض.

سادسًا: وماذا عن التعارض بين بعض الأحاديث وبين القرآن، أو بينها وبين العقل، أو بينها وبين بعضها البعض؟!

والجواب: أن مَن يطرحون هذه الشبهات يغفلون أن ثمة نصوصًا من القرآن ظاهرها التعارض؛ لأنهم لو بينوا هذا للزمهم أحد مسلكين:

الأول: مسلك المعاندين الطاعنين في القرآن ذاته.

الثاني: مسلك أهل اليقين الذين يردون المحكم إلى المتشابه.

وقد بيَّن الله هذين المسلكين بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7).

ومِن المهم هنا أن نؤكد أن وجود المحكم والمتشابه ظاهرة لا تقتصر على السنة، بل هي موجودة في الكتاب والسنة، وطريقة التعامل معها موصوفة في الآية السابقة، وهي فتنة يسقط فيها أهل الزيغ والضلال، ويعصم الله منها مَن يصدق في اتباع الكتاب والسنة؛ فيفسِّر أهل السنة المتشابه على ضوء المحكم، وقد وقع استشكال الصحابة لنصوص متشابهة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألوه؛ فرد لهم المتشابه إلى المحكم، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)، ولو حمل هذا على ظاهره لخالف المحكم من قوله -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا) (المائدة:8)؛ ولذلك سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟" فقال: (تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري)، وعلى هذا المنوال نسج العلماء الأفذاذ الذين عناهم الله بقوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ... )، وهذا المسلك يسميه العلماء: "الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض".

سابعًا: ماذا لو تعذر تفسير المتشابه على ضوء المحكمات، أو الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض بصفة عامة؟!

الجواب: في حالة تعذر الجمع بيْن الأدلة التي ظاهرها التعارض، يبقى أن يُبحث في احتمال أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، أو أن يقدَّم الأقوى والأثبت، ويترك الأقل ثبوتا، وقد راعى العلماء ذلك في شروط صحة الحديث، ففوق أنهم يشترطون للصحة رواية العدل الضابط عن مثله؛ فإنهم يشترطون عدم "الشذوذ"، وتعريفه عندهم: "مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه"؛ مما يعني أن العلماء لم ينتظروا حتى يأتي أنصاف المثقفين في آخر الزمان لينبهوهم إلى وجود تعارض بين النصوص، وأن أي تعارض حقيقي فقد نبَّه عليه العلماء، وتركوا العمل به.

ولكن شتان بيْن صنيع الراسخين في العلم وصنيع أشباه المثقفين؛ هذا مِن جهة الرسوخ، كما أنه فرق بيْن المعظمين للشرع وبين مَن يبتغون الفتنة؛ وهذا من جهة النية والقصد، وليختر كل امرئ لنفسه المكان الذي يحب أن يلقى الله عليه.

ثامنًا: مِن جهل "أعداء السنة" أنهم يأتون بأمثلة على مخالفة بعض الأحاديث للقرآن التي لو صحت لصدقت على بعض آيات القرآن!

فمما يؤكد جهل هؤلاء أو سوء قصدهم "أو الأمرين معًا": أنهم يأتون ببعض نصوص السنة فيشبعونها نقدًا؛ ومِن ثَمَّ تضعيفًا، مع أن معناها موجود في بعض آيات القرآن، وقد وقع "إبراهيم عيسى" في ذلك! فعارض حديث: (وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، بقوله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، فماذا يفعل إذن في قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه) (البقرة:193)، وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (التوبة:36)، وقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (البقرة:191)، ومئات الآيات؟! "والحل هو الجمع بين الأدلة" كما سيأتي.

كما عارض بين قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125)، وبين أحاديث حرمة بدء اليهود والنصارى بالسلام، ولكن ماذا يفعل في قوله -تعالى-: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)؟! "والحل هو الجمع بين الأدلة" كما سيأتي.

تاسعًا: الجواب التفصيلي على شبهات "إبراهيم عيسى" على طريقة العلماء بالجمع بين الأدلة:

1- يقول "إبراهيم عيسى": "يدعو نبينا المصطفى الناس بالرحمة وللرحمة (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:21-22)، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)، (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256)، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران:128)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)"، بينما "محمد في سننهم، لا سنته"، يقول: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ) (متفق عليه)، ويقول: (وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)، ويأمر: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه) (رواه البخاري)".

والجواب على شبهته:

أن الجهاد طريقة تعامل مع الأنظمة الطاغوتية المتسلطة على أفرادها وتمنعهم مِن الإيمان بالله، وأغلظ مِن هذا أن تهاجِم المسلمين، وأما الأفراد فيستعمل معهم قاعدة: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وهذا الدين عقد يقضي على مَن دخل فيه أنه يستحق القتل إذا خرج منه، وإذا جاز في عرف المجتمع الدولي قتل الإنسان بتهمة الخيانة العظمى لجنسية ولد بها، فمن يترك دين الحق بعد دخوله فيه من باب أولى؛ ومِن هنا يتبين كيف يرد المتشابه إلى المحكم، وتفسَّر النصوص على ضوء بعضها البعض.

2- يقول إبراهيم عيسى: "يخبرنا القرآن الكريم عن نبي الرحمة فيقول -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ... ) (المزمل:20)، أما ما نقرؤه في كتبهم التي يصبغونها بالقداسة أن هذا القانت الذي يقوم الليل تعبدًا وصلاة، إنما يطوف على زوجاته جميعهن في كل ليلة بغسل واحد؛ حيث أعطاه الله قوة أربعين رجلاً".

وتساءل "عيسى": "أهذا يقبله عقل أو قلب مؤمن بالله ونبيه؟! أنصدق كتاب الله أن النبي متعبد، قائم بالليل (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) أم نقبل بأنه متفرغ ليله للنساء؟!".

والجواب:

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يشغل ذلك من وقته إلا ساعة من نهار كما ورد مفصلاً في رواية أخرى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا" (رواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح).

وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه على نسائه جميعًا في الساعة الواحدة من الليل والنهار؛ إنه طواف رحمة بدون جماع، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، كما هو ظاهر كلام عائشة -رضي الله عنها-، ولا يتعارض مع ظاهر حديث أنس -رضي الله عنه- في أن حقيقة طوافه -صلى الله عليه وسلم- على نسائه جميعًا بجماع؛ إذ الجمع بينهما حينئذٍ يكون بحمل المطلق في كلام أنس -رضي الله عنه- على المقيد في كلام عائشة.

ووجه آخر: بحمل كلام عائشة -رضي الله عنها- على الغالب، وكلام أنس على القليل النادر؛ فلا مانع مِن أنه -صلى الله عليه وسلم- إذا طاف على نسائه جميعًا في بعض الأحيان يكون بجماعهن جميعًا، وتكون له -صلى الله عليه وسلم- القدرة على ذلك؛ لما اختصه الله به من القوة وكثرة الجماع، وهو في كل الأحوال غير معارض بأنه كان يقوم معظم الليل في غالب حاله -صلى الله عليه وسلم-.

ويشبه هذا قول أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، فَيُقَالُ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، فَيُقَالُ: لا يَصُومُ" (رواه النسائي، وقال الألباني: حسن صحيح)، مع أنه كان في مجموع صيامه -صلى الله عليه وسلم- لا يقل عن أفضل الصيام مِن صيام يوم وإفطار يوم، وإنما كان يسرد الفطر إذا كانت عنده وفود أو كان في الجهاد.

3- قال "إبراهيم عيسى": "محمد -صلى الله عليه وسلم- يعامِل أهل الكتاب بمنتهى الرقة والسماحة، والحب والود والاحترام... (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت:46)، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران:64)، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125)، بينما محمد في كتبهم التي يقال عنها صحيحة ينهى عن إلقاء السلام على أهل الكتاب، وأن ندفعهم في السير إلى أضيق الطريق" على حد قوله.

والجواب:

أن العلماء قد سبقوه إلى إدراك ذلك، وقالوا إنما يفعل هذا إذا كان سيدعوه إلى التدبر في أمر دينه وبدون ظلم؛ ومِن ثَمَّ فيحمل على ألا يتنازل له عن صدر الطريق، وأن الحق هو رد السلام وقد أثبته الحديث للمسلم والكافر، وأما إلقاؤه؛ لا سيما "تحية الإسلام" فهي خاصة بالمسلمين، وهذا بديهي!

وكذلك آية الجزية؛ فالصحيح مِن معناها أنها علامة خضوع للدولة ودخول في ولايتها، ومِن ثَمَّ أنكر العلماء على مَن توسع مِن الفقهاء في هذا المعنى، وقد قدَّمنا أنه لو صح تشغيب "إبراهيم عيسى" على هذه الأحاديث؛ لانسحب هذا على آية الجزية، ولكن الواجب هو ما ذكرنا.

4- يقول "إبراهيم عيسى": "يخبرنا قرآننا عن نبينا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159)، بينما تقول لهم كتبهم أنه يهدد الناس ويروعهم (لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)".

والجواب:

أن هذه لو اُعتبرت شبهة على الحديث؛ لسرت أيضًا على قوله -تعالى-: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح:29)، وغيرها من الآيات... على أنه مِن المستغرب أن يستشكل "إبراهيم عيسى" أن يُقال هذا لقريش مع ظلمها وقتلها وتعذيبها للمستضعفين، في حين أنه يهاجم "الأزهر"؛ لكونه يقول إنه يجب رد اعتداء "داعش" وإن لم يكونوا كفارًا! "على أنه يجب أن يُنتبه هنا إلى أن الذبح المقصود هنا في الحديث هو القتال بالسيف كما بينته السنة العملية، وكما قيده نهى النبي -صلى الله عليه وسلم عن المثلة-".

وبهذا يتبين أنه لو سكت مَن لا يعلم، ولو أحيل الأمر إلى الراسخين في العلم مِن علمائنا الأجلاء الذين نقلنا عنهم، ولو صحت النوايا وصدقت الرغبة في اتباع الكتاب والسنة؛ لاندثرت الفتنة، ولتمكنت الأمة مِن المضي قدًما في طريقها بدلاً مِن تمزقها بين تطرف "داعش" وتطرف "هؤلاء"، وكل منهما يغذي الآخر وينميه؛ فإن التطرف يولـِّد التطرف المضاد.

نسأل الله أن يهدينا لما اختلفوا فيه مِن الحق بإذنه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com