الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

هجر القرآن العظيم

عودوا إلى كتاب ربكم؛ تنالوا نصره في الدنيا، وتدخلوا جنته في الآخرة

هجر القرآن العظيم
محمد القاضي
الأربعاء ١٢ أغسطس ٢٠١٥ - ١٠:١٢ ص
2245

هجر القرآن العظيم

كتبه/ محمد القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ونحن نستشعر روحانيات الشهر الكريم الذي داعبت فيه أسماعنا آيات الذكر الحكيم وتصدعت قلوبنا بالتدبر؛ فقد تجدد فيها الأمل والشوق إلى العمل الصالح، فيجب علينا أن نستصحب هذه الحالة الإيمانية في بقية العام ببقاء التواصل مع القران الكريم.

فالقرآن فضله عظيم .. فهو منهج حياة، وهو يقدم للمسلم كل ما يحتاج إليه في الدنيا والآخرة، ويجيب عن كل ما يخطر بباله من تساؤلات .. وينزل على القلوب المؤمنة بردًا وسلامًا، فيزيل كل ما يعلق بها مِن أمراض وآلام، فهل يعقل أن يغفل المسلم عن هذا الخير ولا يجعل لنفسه وِردًا ولو صغيرا مِن القرآن، وقد روى البيهقي في شعبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول الله؛ وما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن وذكر الموت».

إن كثيرًا مِن المسلمين لا يعرف القرآن إلا في رمضان، وبعد انتهاء الشهر يضعون المصاحف في علب جميلة مزخرفة ومزركشة .. وكأن القرآن جزء مِن الديكور والزينة والقرآن .. لم يجعل القرآن لهذا، بل أنزله الله تعالى للتدبر والتأمل والفهم والتطبيق.

ومما يؤكد أهمية القرآن في حياة كل مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي», فكيف يكون القرآن ربيع القلوب ونور الأبصار وجلاء الأحزان وهو مهجور؟!

وقد كانت مكانة القرآن في قلوب السلف عظيمة جدًّا, فمِن مظاهر ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك، فإنها خير يأمر به، أو شر ينهى عنه». (تفسير القرآن العظيم 1/91)، ولما نزلت آية الحجاب بادر نساء الصحابة للالتزام بها، ولما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (المائدة: 90-91)، قال عمر رضي الله عنه: «انتهينا انتهينا». (رواه الترمذي والنسائي)، ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع». (رواه مسلم)، فلبث المسلمون زمانًا يجدون ريحها في طرق المدينة لكثرة ما أهرقوا منها.

فانظر إلى سرعة استجابتهم لما به حياتهم، وكذا في تحويل القبلة مِن بيت المقدس إلى البيت الحرام، كيف تلقوا الأمر بالقبول؟ وما كان تحويل القبلة إلا امتحانًا لهم، امتحانًا ليعرف الحي من الميت، قال سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه﴾ (البقرة: 143)، فنجحوا في ذلك الامتحان، فمِن حديث البراء «كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده -أو قال: أخواله- مِن الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت». وقد كان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة). وبعد أن يتموا ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.

ثم خلف مِن بعد ذلك خلوف استهانوا بمكانة القرآن واتخذوه مهجورًا، وبعض الناس يظنون أن هجر القرآن محصور في هجر القراءة فحسب، ولكن الصواب أن أنواع الهجر كثيرة، كما ذكر ابن القيم رحمة الله تعالى في كتاب الفوائد:

- فهناك هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.

- وهناك هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.

- وهجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته اللفظية أو أنه يحكي ماضيًا أو أشياء صعبة التحقق والعدول عنه إلى غيره مِن شر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة عن الآخرين.

- وهناك هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد الله منه، وهجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها, فيطلب شفاء دائه مِن غيره, ويهجر التداوي به وإن كان بعض الهجر أهون مِن بعض، وكل هذا داخل في قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، وكذلك الحرج الذي في الصدر منه، فإنه تارة يكون حرجًا من إنزاله وكونه حقًّا مِن عند الله، وتارة يكون مِن جهة التكلم به, أو كونه مخلوقًا مِن بعض مخلوقاته ألهم غيره أن تكلم به، وتارة يكون من جهة كفايتها وعدمها وأنه لا يكفي العباد, بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة, أو الآراء أو السياسات.

وتارة يكون مِن جهة دلالته, وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب, أو أريد بها تأويلها, وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة، وتارة يكون مِن جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة, فهي ثابتة في نفس الأمر, أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.

فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن, وهم يعلمون ذلك مِن نفوسهم ويجدونه في صدورهم، ولا تجد مبتدعًا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالما فاجرًا إلا وفي صدره حرج مِن الآيات التي تحول بينه وبين إرادته. فتدبَّر هذا المعنى ثم ارضَ لنفسك بما تشاء. (الفوائد ص 102).

وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِّلَا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأعراف: 169).

وقال القرطبي في تفسيره: «وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا؛ فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئًا».

قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: «يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها مِن عهود، على الرغم مِن قراءتهم لها، فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدَّعون أنهم سيغفر لهم، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبًا على الله تعالى، وقد قرءوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع هذا يجترءون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم!!». (مِن مقال: إن قومي اتخذوا القرآن مهجورًا - صيد الفوائد).

مِن العجب أن تهجر الأمة كتاب ربها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟

إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض .. إن التمكين الذي وعد به الله والذي تحقق مِن قبل لهذه الأمة كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن.

إن الذين يحلمون بنزول النصر مِن الله لمجرد أننا مسلمون لواهمون؛ ذلك أن تحقق النصر له شروط، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يعبدوننى َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

كما أن ما بعد النصر له شروط، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَو ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ﴾ (الحج: 41).

فعودوا إلى كتاب ربكم؛ تنالوا نصره في الدنيا، وتدخلوا جنته في الآخرة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة