الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

واجب الوقت -1

من أين يأتي هذا المصطلح؟ وما معناه؟ وما واجب الوقت بالنسبة للآونة التي نعيش فيها الآن؟

واجب الوقت -1
عبد المنعم الشحات
السبت ٢٩ أغسطس ٢٠١٥ - ١٥:٥١ م
4936

واجب الوقت (1)

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن المصطلحات الشائعة الاستعمال بيننا أن نقول: «واجب الوقت هو كذا أو كذا»، فمن أين يأتي هذا المصطلح؟ وما معناه؟ وما واجب الوقت بالنسبة للآونة التي نعيش فيها الآن؟

 

تحقيق عبودية الله تعالى هو واجب كل وقت

 

قبل أن نتحدث عن واجب الوقت لابد أن نتحدَّث أولًا عن واجب كل وقت «الواجب المستديم»، فواجب كل وقت هو تحقيق عبودية الله تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وتطبيق هذه العبودية في كل نواحي الحياة وعلى طول الحياة إلى أن تنتهي ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾، فهذا واجب كل وقت؛ العبودية لله تبارك وتعالى.

 

العبودية تشمل العبادات المحضة، وتشمل المعاملات، وهي تستغرق جميع مناحي الحياة

وهذه العبادة يمكن أن نقسمها إلى أنواع باعتبارات مختلفة، لكن الذي يعنينا هاهنا اعتباران هامَّان جدًّا؛ الاعتبار الأول: مجالات عمل هذه العبادة في العبادات المحضة والمعاملات، وهذه القضية التي يغفل عنها كثير مِن الناس مبنية على قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، فجعل الغاية من خلق الجن والإنس هي عبودية الله تبارك وتعالى.

 

ثم إن بحثتَ عن معنى العبادة في أذهان كثير منا؛ تجد أنه يتحدث عن أمور لا تشغل إلا حيزًا يسيرًا جدًّا من الحياة، خاصة إذا تكلمت عن العبادات الواجبة؛ فالصلوات المفروضات كم تأخذ مِن الوقت في الأربع وعشرين ساعة؟ وكذلك الصيام المفروض شهر واحد من بين اثني عشر شهرًا، والزكاة الواجبة تتراوح بين ٢.٥٪ من المال كحدٍّ أدنى في زكاة عروض التجارة وزكاة الأموال، وبين ٢٠٪ من المال كحدٍّ أقصى كما في زكاة العسل والخارج من الأرض.

 

فلا يمكن أن يخبرنا الله تعالى أن الحكمة مِن خلق الجن والإنس هي عبادته ثم تكون هذه العبادة لا تشغل إلا ١٠٪ أو نحوها مِن وقتنا ومن مالنا ومِن غير ذلك، لكن القضية هنا أن مَن أدرك أن العبودية يدخل فيها العبادات المحضة التي يسميها الناس الشعائر، ويدخل فيها أيضًا المعاملات؛ يعرف أن العبودية تشمل جميع الحياة فعلًا.

 

لذلك في الفقه نقول: إن الأحكام التكليفية خمسة:

1- طلب فعل لازم وهو الواجب.

2- طلب فعل على وجه التخيير والتفضيل وهو المستحب.

مِن جهة أخرى:  3- طلب ترك على سبيل اللزوم وهو المحرم.

4- طلب ترك على وجه التخيير والتفضيل وهو المكروه.

5- وبين هذين القسمين (الواجب والمندوب مِن جهة، والمحرم والمكروه مِن جهة أخرى) قسم مستوي الطرفين، وحتى هذا القسم مستوي الطرفين العلماء يدرجونه تحت الحكم التكليفي؛ لأنك ترى أنه يجب عليك طاعة الله عز وجل، ثم تنظر ما طَلب منك فعله، وما طَلب منك تركه، وما أباحه لك؛ فأنت اعتقدت إباحته بعد أن أباحه الله لك، وأنت إنما أقبلت عليه بعد الإذن من الله تبارك وتعالى.

 

فإذن هذه هي القضية «أن العبادة تشمل جميع مناحي الحياة: تشمل العبادات المحضة، وتشمل المعاملات»، تحتاج إلى اهتمام دائم، وأن نلفت أذهاننا دومًا إلى شمول معنى العبادة، وأننا نصلي لله، ونصوم لله، ونحج لله، ونخرج زكاة أموالنا لله، وكذلك نغضُّ أبصارنا لله، وكذلك تحتجب المرأة لله، وكذلك نصدق في البيع والشراء لله «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا»، إلى آخر هذه المعاملات.

 

الرد على مَن يطعن في أمرٍ مِن الواجبات بدعوى أنه ليس من أركان الإسلام

يجب الاهتمام بهذه النقطة؛ لأنه قد صار هناك طعن فيها، ومحاولة حصر الإسلام ليس فقط في العبادات، بل في أعلى العبادات التي هي أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين، وأي شيء آخر بعدها يقول الطاعن: هل هذه مِن أركان الإسلام؟ فنقول له: لو أردت أن تشتري شقة، هل تقبل أن تكون الأعمدة سليمة، ولكن لا يوجد جدران ولا أي شيء غير الأعمدة، أتقبل الشقة بهذا الوضع؟! بل الأشد مِن ذلك: هل تقبل أن تكون لك شقة كاملة فتقوم بهدم جميع الجدران وكل شيء فيها وتُبقي الأعمدة فقط، وتقول: يكفيني هذه الأعمدة؟! كذلك مَن يدعو إلى خلع الحجاب بحجة أنه ليس مِن الأركان الخمسة، نقول له: وإذا كان الحجاب ليس مِن أركان الإسلام الخمسة، أليس هناك واجبات أخرى غير الأركان الخمسة؟! وأنت حين دعوتَ إلى ترك هذه العبادة لم تعتذر بأنها تأتي في المرتبة الثانية بعد الأركان، بل بالعكس؛ أنت تدعو الناس لهدم هذه الفريضة، كرجل اشترى شقة كاملة وتأكد أن الأعمدة سليمة ثم انطلق هدمًا في كل ما سوى هذه الأعمدة!! هذا لا يمكن أن يحدث في الأمور المادية؛ لأنه سَفَه، فلماذا يحدث في الأمور المعنوية التي مِن المفترض أن تكون أغلى عندنا مِن الأمور المادية؟

 

فالناس في الأمور المادية يقيسون الأمور بالعقل والمنطق السليم -وهذا واجب-، وفي الأمور المعنوية الشرعية تجد الحِيَل ومناقضة العقل السليم مما ينكرونه هم في الأمور الدنيوية.

 

الرد على مَن يطعن في بعض واجبات الدين بدعوى أن هناك ما هو أوجب وأولى منها

ومثل ذلك -والشيءُ بالشيءِ يُذكر-: مَن يريد أن يصدك عن طاعة بحجة أن هناك طاعاتٍ أهم منها.

فنقول له: إنما يبحث العاقل عن الأهم والمهم إذا تعارضا؛ كأن يكون في ظروف معينة لسبب ما الوقت أو المال أو الجهد المتاح يجعله إن فعل الأولى يترك الثانية وإن فعل الثانية لا بد وأن يترك الأولى، فحينئذٍ يختار أيهما أولى؛ لأنه مضطر أن يترك واحدة منهما، لكن إذا كان يستطيع أن يقوم بالأمرين معًا والأمران كلاهما حسن -فضلًا عن أن يكونا واجبين- فكيف تنهاه أنتَ عن واجب منهما بدعوى أن الآخر أوجب؟!

 

كطالبٍ في امتحان عرض له سؤالان؛ أحدهما يمثل 60% والآخر 40% مِن درجات الامتحان، فأجاب عن السؤال ذي النسبة الأكبر، فهل يقول له عاقل: احذر أن تجيب عن السؤال ذي النسبة الأقل ما دمتَ قد أجبتَ عن الأكبر؟!

 

فإذا كان الطالب قد عجز عن إجابة السؤال ذي النسبة الأكبر فأجاب عن السؤال الآخر ليحصل على 40% فقد أصاب؛ لأنه فَعَل المتاح، وهذا خير من أن يترك الإجابة بالكلية، ولا يلومه عاقلٌ أبدًا على إجابة السؤال الأقل نسبةً حال عجزه عن الإجابة عن السؤال الأكبر نسبةً.

 

الحاصل أن هناك أناسًا يصلون في أمور دينهم إلى هدم ما هي عليه بقياسات في غاية البطلان، فإذا ذكرتَ له أمرًا مشابهًا في أمور الدنيا تجد الأمور عنده في غاية الوضوح ولا يمكن أن يقبل مثل هذه الأقيسة في أمور الدنيا.

 

ولذا نقول: لو كان هناك أمران أوجبهما الشرع أحدهما أوجب من الآخر وجب الإتيان بهما جميعًا، ولا يُترَك أحدهما إلا لأمرين:

 

الأمر الأول: عند التعارض وتعذر الجمع بينهما؛ فيقدم الأهم. والأمر الآخر: عند عدم إمكان القيام بأحدهما فيسقط لعدم الاستطاعة، ويبقى عليه وجوب القيام بالواجب الثاني حتى وإن كان غير المستطاع هو الأهم والأوجب، كمثال الامتحانين تمامًا.

 

لذا جاء الشرع بالرُّخَص، كما في تعارض المصالح؛ فإذا تعارضت مصلحتان كالصيام إذا تعارض مع حفظ النفس، كالمريض الذي يزيد مرضه أو يتأخر بُرؤُه بسبب الصيام؛ فالصيام وحفظ النفس كلاهما مصلحة، ولكن لما كان الصيام له بدل وحفظ النفس ليس له بدل، وإذا ضاعت النفس وتلفت ضاع الصيام وضاعت سائر العبادات؛ لذلك قُدِّم حفظُ النفس على الصيام عند التعارض. وهذه مسألة منصوص عليها.

 

وكذلك غير المنصوص عليها يُعمَل فيها بنفس القاعدة: «إذا تعارضت مصلحتان قُدمت أعلاهما، وإذا تعارضت مفسدتان دُفعت أكبرهما».

 

فإذن علينا أن ندرك أن العبادة تشمل كل العبادات المحضة وكل المعاملات الشاملة لكل مناحي الحياة، وكون أن الأمور تتفاوت في الأهمية لا يعني أن يؤدي العبدُ أهم الواجبات ويترك ما وراءها من واجبات، لكن يقوم بكل ما يستطيعه؛ فالإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فسمى إماطة الأذى عن الطريق إيمانًا، وكذا كل ما فوقها؛ فتجد البعض يرى أن إماطة الأذى عن الطريق يعطي مظهرًا حضاريًّا فيهتم به. فنقول له: أنت اهتممت بقضية إماطة الأذى عن الطريق، لاعتباراتك الخاصة أم لأنها مِن شعب الإيمان؟ لو اهتممتَ بها لأنها من شعب الإيمان؛ فقد أحسنتَ، لكن يلزمك ألا تأتي على أية شعبة من الإيمان مهما رأيتها دقيقة فتقول هي ليست مهمة؛ لأنك مهتم بأدنى شعبة لو كان الباعث عندك هو الاهتمام بشعب الإيمان، فالمفترض أن نهتم بجميع شعب الإيمان، ونأخذ منها ما استطعنا، وعند التعارض نقول: يقدم الواجب على المستحب، واذا وقع التعارض بين الواجبات نأخذ الأوجب. وقد يكون الإنسان حريصًا على الاستزادة من الطاعات الواجبة والمستحبة -بغير تعارض بينها- يريد الفضل والثواب من عند الله.

 

ولنا في حديث أبي بكر رضي الله عنه مثالًا على ذلك، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

 

 فأبو بكر رضي الله عنه كان تاجرًا ولم يترك تجارته إلى أن بويع له بالخلافة، ومِن علو همته -رضي الله عنه- لم يتعارض الصيام عنده مع سائر أنواع البر، فما المانع أن يكون الإنسان صائمًا ويشيع الجنازة، ويعود المريض، ويتصدق على مسكين إذا كان عنده قوة في بدنه ودينه واستطاع أن يفعل كل هذا؟

 

أما لو وقع تعارض؛ كأن يكون ضعيف البدن والصيام مستحب فيفطر ليقوى على القيام بحق الميت وتشييع جنازته فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ سأل مع أنه يعرف حال أبي بكر ليجيب أبو بكر ويعلمنا النبي أن هذا هو الفضل، وأن أبا بكر سبق الأمة بحرصه على الخير.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاحُ

 

عبودية الفرد وعبودية الأمة

الاعتبار الثاني الذي ننظر إليه في تقسيم العبادة هو عبادة الفرد وعبادة الأمة؛ فعبادة الفرد كالصلاة والصوم والحج وبر الوالدين وغيرها، أما عبودية الأمة فهي الشيء المطلوب من مجموع الأمة ككل، فالصلاة مثلًا مطلوبة مِن كل فرد من الأمة على حدة، فلو كان مجموعة مِن عشرة فصلى تسعة ولم يصل واحد لكان تاركًا للصلاة، أما لو مر رجل على العشرة فسلم عليهم فرد عليه أحدهم لأجزأ عن الباقين؛ فالمجموعة في حكم الواحد في هذا الباب.

 

مصطلح واجب الوقت

فعبودية الله تعالى هي طاعة كل وقت، فمن أين يأتينا مصطلح طاعة الوقت أو واجب الوقت؟

 

بعض العبادات معلقة على أسباب أو شروط أو أحوال تتغير بتغير الظروف الراهنة، فتقول هذه الأحوال وجب فيها شيء أكثر من غيره، وهذا أكثر ما يكون في باب فروض الكفايات، ومِن أكثر ما يكون في فروض الكفايات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الخصوص.

 

بعض العلوم كهيئة الغذاء وبعض العلوم كهيئة الدواء

وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى؛ وهي أن العلماء قسموا العلوم، فقالوا -مِن باب ضرب الأمثلة-: إن بعض العلوم كهيئة الغذاء وبعض العلوم كهيئة الدواء، فطلب العلم وتعليمه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب فروض الكفايات، لكن فروض الكفايات دائمًا مرتبطة بفروض أعيان أيضًا؛ فالذي يتعلم بغرض تعليم الناس فهذا فرض كفاية، فإذا أردتَ أن تعليمهم فابدأ بفروض الأعيان، ثم تعلمهم فروض الكفايات، فمسألة فروض الأعيان وفروض الكفاية مرتبط بعضها ببعض.

 

فإذا تصديت لهذا الباب فاعلم أن بعض العلوم لبناء الروح وبناء القلب الإيماني كهيئة الغذاء للجسم فهو يحتاجه دومًا ونقصه يؤدي إلى سريان المرض، وبعض العلوم كهيئة الدواء، وهذا التقسيم اعتمده كثير مِن السلف.

 

هذا في أمور الدين يشبه كل معاني الإيمان: معاني التوحيد، معاني الطاعة، معاني العبادات وغيرها، فالمؤمن يحتاج دائما إلى أن يعرف ربه ويعرف أسماءه وصفاته، ويعرف أنواع الطاعة فهذا كالغذاء.

 

وأما العلوم التي هي كهيئة الدواء فهي رد الشبهات؛ فالشبهة داء والدواء هو رد هذه الشبهة. وهذا الموضوع قد يحتاج منا أيضًا إلى وقفة؛ لأن بعض الناس ويقول: أنتم اعترفتم أن رد الشبهات كهيئة الدواء، فلماذا إذًا تشغلون الناس بالكلام عن الشيعة والخوارج وغيرهم؟

 

فنقول: ألا تتعظ مما وقعت فيه الأمة جراء إهمالها لهذا الدواء؟ كيف أن الدنيا استيقظت فجأة فوجدوا أن الشيعة يحكمون خمس عواصم عربية؟ وهم الآن يخططون لامتلاك القاهرة والرياض ليتم لهم الأمر وهذا بلا مواربة: حاصروا مِن الشمال ومِن الجنوب العاصمتين الأكثر استقرارًا وجاء دورهما. هذا كله نتيجة التراخي وأن أناسًا كثيرين أخذوا ينهون الأمة عن تعلم هذا الدواء.

 

اهتمام الناس بالعلوم التي هي كهيئة الدواء في الأمور الدنيوية

لننظر كيف يتعامل الناس في الأمور الدنيوية مع العلوم التي هي كهيئة الدواء؟ هل يصدون الناس عن تعلم الطب وتعلم الدواء وتصنيعه وبيعه؟ بالطبع لًا، بل لا بد أن يوجد مِن الناس مَن يتعلم الطب والأمراض حتى الأمراض النادرة جدًّا، ومثال على ذلك حالات ضربة الشمس التي انتشرت في هذه الأيام؛ كثير من الأطباء كان يدرسها وهو طالب في كلية الطب وتعلم في الكلية الإسعافات الأولية البسيطة جدًّا لهذه الحالة، ثم اكتشفوا فجأة أن هناك عددًا كبيرًا من الوفيات نتيجة ضربات الشمس؛ لأن كثيرًا من الأطباء يفترض أننا نعيش في بلد معتدلة الحرارة، فلذلك نسي ولم يستحضر أعراض ضربات الشمس، ولم يراجع آخر التوصيات الطبية للتعامل مع هذه الحالات، وبعد زيادة أعداد الوفيات قامت وزارة الصحة بتوزيع بروتوكول على جميع المستشفيات يوضح أعراض هذه الحالة، وكيفية التعامل معها.

 

فهذا نموذج بسيط يبين أنه حتى الأمراض والأحوال غير الشائعة لا يصح أن يُقال: لا أحد يعرفها لأنها تأتي فجأة. كما رأينا أن موسم الحرارة أتى فجأة بارتفاع غير معتاد في درجة الحرارة، فلو تخيلنا أنه كان هناك دراية كافية بمخاطر هذا الارتفاع في درجة الحرارة ودراية بالإجراءات اللازم اتباعها للوقاية من ضربات الشمس وعلاجها من البداية؛ لكان بإذن الله الأمر مختلفًا، وإن كان كل شيء بقدر، وإنما هذا من باب الأخذ بالأسباب.

 

خطورة الطعن على مَن يطلب العلم، والطعن على مَن يتعلم العلم الذي هو كهيئة الدواء

فما يصنف مِن العلوم على أنه مِن باب الدواء غاية ما تقوله: أن لا يتحمله كل الناس بمبرر وبدون مبرر، فلا يحتاج كل الناس معرفة هذا الدواء، لكن لا بد أن يوجد في الأمة مَن يحسن معرفة الداء والدواء، فإذا انتشر المرض وُجِد مَن يتصدى له.

 

تجد كثيرًا مِن الناس ينهى عن العلم الذي هو من باب الدواء على اعتبار أن هذه رد شبهات، وأن هذه الشبهات غير موجودة، مع أن هذا أيضًا يخالف الحكمة والعقل والمنطق، بل قد تجد بعض الناس ينهى عن علوم هي غذاء ضرورية في بناء الإنسان ويتهكمون بها، كالذين يسخرون مِن تعلُّم فقه الطهارة والحيض والنفاس، فهل يطعنون في علم الفقه كله، أم في هذه الأبواب تحديدًا؟ وهل نما إلى علمهم أن أحدًا مِن الفقهاء أمر الناس بالاقتصار على تعلُّم فقه الطهارة فقط ونهاهم عن تعلُّم غيره مِن أبواب الفقه؟ أم أنهم يدرسون فقه الطهارة كجزء مِن أبواب الفقه المتنوعة؟

 

إذا وجدتَ أحدًا يأمر بتعلُّم فقه الطهارة وينهى عن سائر أبواب الفقه، فلك الحق أن تنقده، لكن إذا كان الناس يتعلمون فقه الطهارة كجزء مِن علم الفقه، فلماذا تنكر عليهم؟ وماذا تريد منهم؟ أتريد حذف فقه الطهارة مِن علم الفقه؟ أم تريد أن يتركوا علم الفقه كله؟! فهو يطلق الكلام ولا يبين ماذا يريد بالضبط.

 

ومع الأخذ في الاعتبار أن للحيض والنفاس معانٍ مذكورة في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري كيف يجترئ مسلم على السخرية منها؟!

 

هو يزعم أنه يسخر مِن أناس لا يفهمون الأولويات، ونحن نطلب منه أن يصف لنا أحوالهم هؤلاء، وأن يصف لنا الأحوال الصحيحة.

 

إن هذه الأحوال التي يزعم السخرية منها، لا تقع إلا إذا وُجِد مَن يأمر الناس بالاقتصار على تعلم فقه الطهارة فقط، وهذا أمر لا يكاد يوجد.

 

المسألة في الحقيقة أنه عداء للعلم الذي لا يقوم عمل إلا به، مِن صلاة أو زكاة أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، أليس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُسفك الدماء، وتُنتهك الحرمات، وتُنقض العهود، ويُساء إلى الإسلام؟ كل ذلك باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وباسم الجهاد في سبيل الله.

إن كل شيء مفتقر إلى العلم، ولا يُتصور إطلاقًا عاقلٌ يقول: لا داعي للعلم.

 

إذا وجدتَ أحدًا يتعلم بطريقة خاطئة فقل ما هو الخطأ، وانقده، وبيِّن ما الطريقة الصواب، أما كلمة «علماء الحيض والنفاس» فلا نجد لها محلًّا مِن الإعراب، ولا نفهم ماذا يريد قائلها منا؟

هل يريد منا ألا نتعلم الفقه أصلًا؟ فهل هذا يليق؟

أم يريد منا أن نتعلم الفقه ونحذف منه كتاب الطهارة ؟ فهل هذا يصح؟!

أم يريد منا أن نقتصر في التعلم على كتاب الطهارة؟ فأين هؤلاء المجهولين الذين يناظرهم ممن يقول للناس تعلموا كتاب الطهارة وفقط؟

 

الحاصل: أن عندنا علومًا هي من باب الغذاء، وعلومًا هي من باب الدواء، هذه العلوم التي من باب الدواء غالبا تتناول أمراضًا انتشرت في الأمة، كالشبهات التي تنتشر تحتاج إلى البحث فيها، والرد عليها، وتحصين الأمة منها، ومَن يعتبر نفسه أنه يقوم بدرجة مِن درجات فروض الكفاية في باب طلب العلم يحتاج أن يتعلم في هذه المسألة أكثر، ثم يحتاج أن يعبر عنها حسب الظروف المتاحة.

 

لا يشترط أن تكون طريقة الأداء في الدعوة مطابقة لطريقة التلقي

مسألة أخرى متعلقة بطلب العلم: أنه لا يشترط أن تكون طريقة الأداء مطابقة لطريقة التلقي؛ فطالب العلم يمكن أن يكون قد درس بلغة معينة، لغة تكون نتيجة جهود علماء عبر التاريخ درسوا وبحثوا ونقحوا ورتبوا، ونحتوا لهذا العلم المصطلحات، وبوَّبوا له التبويبات للتيسير على طالب العلم، فإذا أراد طالب العلم أن يدعو إلى الله فليراعِ مستويات الناس في التلقي، ويُحسن عرض المعنى الذي تعلمه، مثل قضايا الإيمان والكفر، والكفر الأكبر والأصغر، والعذر بالجهل والتأويل، وغير ذلك كثير، إذا أراد أن يمارس الدعوة إلى الله وخاطب عموم الناس فليذكر بحقوق الأخوة الإيمانية، ويبين أن الأخوة الإيمانية تصل إلى أي حد؟ إلى حد قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ﴾، فالأخوة الإيمانية وصلت إلى حد الأخوة بين القاتل وأولياء المقتول، فليست الأخوة الإيمانية محبوسة داخل جدران المسجد، بل عليك أن توصل للناس أن الأخوة الإيمانية تصل معك إلى كل مَن قال: «لا إله إلا الله»، وإن كان قاتلًا أو شاربًا للخمر؛ كالرجل الذي كان يؤتى به كثيرًا في شرب الخمر فلعنه رجل وقال: لَعَنَه اللهُ ما أكثر ما يؤتى به! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْعَنْه فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، فهذه الكلمة قد تكون أبلغ مِن الدرس الطويل في الإيمان والكفر الذي قد يحسنه بعض الناس ولا يحسنه البعض الآخر، فعلى الطالب أن يُخرج ما تعلمه للناس بصورة سلسة وحسب حال المخاطب ومرة في خطبة أو درس، الخطبة والدرس خصوصًا لهما رونق لا سيما الخطبة هي أعلى شأنا، وهي عبادة استعمل فيها ما يسمى بفصيح العامة، ولا تأتي بغرائب اللغة ولا بالألفاظ التي يحتاج معها الإنسان إلى قاموس لينظر ما معناها، أما في الحوار مع الناس في الأماكن مفتوحة كوسائل المواصلات فاستعمل اللغة العامية وضرب الأمثال التي يعرفها الناس المهم أن تدرك أن القضية التي يجب أن تصل هي المرض المستشري الذي يحتاج إلى علاج.

 

وبعد هذه المقدمات حول معنى هذا المصطلح نناقش في العدد القادم إن شاء الله أبرز القضايا التي تستحق في ظروفنا الراهنة أن يُقال: إن الاهتمام بها هو واجب الوقت.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com