الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين والسياسة

إن حل هذه الإشكالية يكمن في وضع ضوابط للممارسة السياسية، لا تمس أصل الحق، مع الاهتمام بنشر الفكر الصحيح، وعدم الإقصاء

الدين والسياسة
طلعت مرزوق
السبت ١٧ أكتوبر ٢٠١٥ - ١١:١٨ ص
1608

الدين والسياسة

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الدولة في مفهومها القانوني كيان له ثلاثة عناصر:

1-    شعب.

2-    إقليم يعيش الشعب فيه.

3-    حكومة تسُوس هذا الشعب.

وبهذا المفهوم أقام الإسلام دولته بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

والدولة بهذا المفهوم لها دين، حيث إن ثلثي عناصرها "الشعب والحكومة" بشر مكلَّفون، وليسوا جمادات؛ لذلك نصت كثير من الدساتير العالمية على دين الدولة، بل إن بعضها تنص أيضًا على المذهب الرسمي، على سبيل المثال لا الحصر:

1- ينص دستور الدنمارك -في القسم الرابع- على أن: «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها من قبل دولة الدنمارك؛ وعليه ستتولى الدولة دعمها».

2- وفي المادة الثانية من دستور النرويج أن: «الإنجيلية اللوثرية ستظل الدين الرسمي للدولة ويلتزم السكان المعتنقون لها بتنشئة أولادهم بموجبها».

3- وفي أيسلندا، تنص المادة 26 من الدستور على أن: «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة؛ وبموجب هذا ستظل هذه الكنيسة مدعومة ومحمية من قبل الدولة».

4- وفي إنجلترا، أقر البرلمان مختلف النظم الأساسية، التي تعد القانون الأعلى والمصدر النهائي للتشريع (أي: الدستور القانوني)، وجاء فيه: «إن كنيسة إنجلترا هي الكنيسة المعترف بها، وإن العاهل الإنجليزي -بحكم منصبه- هو الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا، وهو متطلب مقرر في قانون التسوية لعام 1701م، بأن ينضم كنسي لمجتمع كنيسة «إنجلترا»، وكجزء من مراسم التتويج يطالب العاهل بأن يؤدي القسم «بالحفاظ على التسوية المبرمة مع كنيسة إنجلترا، وأن يحفظها بدون خروقات، كما يحفظ العقيدة والشعائر والنظام وطرق إدارتها وحكمها، وذلك بموجب القانون الذي تم إقراره في إنجلترا»، وذلك قبل التتويج بواسطة الأسقف الأعلى للكنيسة رئيس أساقفة كانتربري.

5- وفي أسكتلندا -حيث الكنيسة المشيخية المعترف بها رسميًّا- يؤدي العاهل الجديد القسم في مجلس اعتلاء العرش، ويقسم جميع رجال الدين في الكنيسة يمين الولاء للعاهل قبل توليه منصبه.

6- وفي الأرجنتين –الكاثوليكية- ينص الدستور في القسم الثاني على أن: «الحكومة الاتحادية تدعم الديانة الرومانية الكاثوليكية الرسولية».

7- وفي إسبانيا -الكاثوليكية- ينص الدستور في المادة (16) على أنه «على السلطات العامة أن تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني، والحفاظ على علاقات التعاون المناسبة مع الكنيسة».

8- وفي السلفادور –الكاثوليكية- تنص المادة (26) من الدستور على أن: «الشخصية القضائية القانونية للكنيسة الكاثوليكية موضع اعتراف».

9- وفي كوستاريكا –الكاثوليكية- تنص المادة (75) من الدستور على أن: «الكاثوليكية الرومانية الرسولية هي دين الدولة، وتساهم في الحفاظ على الدولة».

10- أما اليونان –الأرثوذكسية- فإن الدستور يُفَصِّل في ذلك كثيرًا؛ وذلك عندما ينص في المادة الثانية من القسم الثاني على أن:

أ- «الديانة السائدة في اليونان هي ديانة كنيسة المسيح الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والتي تقرر وتتخذ من يسوع المسيح رأسًا لها، تتحد بلا انفصام في عقيدتها مع كنيسة المسيح العظمى في القسطنطينية، كما تتحد مع كل كنيسة تدين بنفس العقيدة بقدر التزامهم في المقابل ودون أي شك أو مماراة بالشرائع والتقاليد الرسولية والمجامع المقدسة، وهي كنيسة مستقلة يديرها المجمع المقدس للأساقفة العاملين والمجمع المقدس الدائم المنبثق عنها، والمشكل على النحو المحدد في الإجراءات القانونية الملتزمة بالإعلان البطريركي الصادر في 29 يونيو سنة 1850م، والقانون الخاص بالمجلس الكنسي الصادر في سبتمبر سنة 1928م.

ب- ولن يعد النظام الكنسي الموجود في مناطق معينة من اليونان مناقضًا للأحكام الواردة في الفقرة السابقة.

ج- ويجب الحفاظ على نص الكتاب المقدس دون تحريف، وتحظر الترجمة الرسمية للنص لآية صيغة لغوية أخرى دون موافقة مسبقة من الكنيسة المستقلة لليونان، وكنيسة المسيح العظمى في القسطنطينية.

هكذا نصت كثير من دساتير الدول الغربية المسيحية -التي تدعي العلمانية والفصل بين الدين والدولة، وتدعو مسيحيتها إلى ترك ما لقيصر لقيصر- نصت دساتيرها رغم كل ذلك على أن: المسيحية هي دين الدولة، بل نصت على المذهب المسيحي للدولة، ولم تقف عند ذلك، بل نصت بعض هذه الدساتير على أن ترجمة الكتاب المقدس ممنوعة دون موافقة مسبقة من الكنيسة، وعلى أن من مهام الدولة حفظ هذا الكتاب المقدس من التحريف. 

 

وقد اصطلح علماء الإسلام على تقسيم الشريعة إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

-         الأحكام العقائدية.

-         الأحكام التهذيبية.

-         الأحكام العملية "الفقه".

وأن الفقه يشتمل على:

-         العبادات.

-         المعاملات.

-         أحكام الأسرة.

-         السياسة الشرعية.

فالسياسة الشرعية التي تُعد نوعًا من أنواع الفقه الإسلامي، الذي هو قسم من أقسام الشريعة الإسلامية، هي الأحكام التي تُنظم الدولة، وعلاقتها بالأفراد، وعلاقتها بغيرها من الدول، وسأسرد بعض الآيات التي توضح أن من يدعو لفصل الإسلام عن السياسة كمن يدعو لفصل الروح عن الجسد.

-         قال الله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ (المائدة: 49).

-         ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (النساء: 65).

-         ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب: 36).

-         ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ (البقرة: 216).

-         ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّـهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الحجرات: 9).

-         ﴿وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38).

-         ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران: 159).

-         ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (البقرة: 178).

-         ﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (النساء: 90).

-         ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 4).

-         ﴿وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ (الأنفال: 61).

-         ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (المائدة: 1).

-         ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 4).

-         ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13).

هذه الآيات تتحدث عن الحكم والقتال والشورى والقِصاص والمواثيق والحياد والمعاهدات والسلام والوفاء بالعقود ومعاملة الأسرى والعلاقات الدولية، وقد جاءت في معظمها مُجملة وعامة ومُطلقة، لم تتعرض لتفصيلات وجزئيات المسائل؛ لإعطاء مرونة وصلاحية لكل زمان ومكان -دون الخروج على أحكامها- فكيف نفصل بينها وبين السياسة؟!

وعن أبي هريرة رضىي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيلَ تسوسهم الأنبياءُ، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي". متفق عليه.

فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والسياسة معًا، ومن ذلك:

-         بناء دولة المدينة.

-         المصالحة الوطنية بين الأنصار ثم الوحدة مع المهاجرين.

-         إرساء الشورى.

-         قيادة الجيوش، وبعث السرايا.

-         إبرام المواثيق ومعاهدات الصلح والتحالف.

-         تعيين القضاة.

-         بعث المفاوضين.

-         مخاطبة الملوك والزعماء.

-         إرسال السفراء.

-         تعيين الولاة ...إلخ.

بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس السياسة بأخلاق الإسلام "السياسة الشرعية" ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 5).

وقد سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى أن ظهرت دعوى فصل الإسلام عن السياسة بعد سقوط الدولة العثمانية.

وقد روى الترمذي بسند حسن صحيح عن العرباض بن سارية رضى الله عنه مرفوعًا: "فإنه مَنْ يَعِشْ منكم بعدي فسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِييْنَ مِنْ بَعْدِي".

ويكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُدفن بعد موته حتى اتفق المسلمون على تولية الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة.

إن دعوى فصل الإسلام عن السياسة -في الأساس- هدف استعماري، وثمرة من ثمرات التغريب الفكري للمسلمين، رغم أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية "الثيوقراطية" في المفهوم الغربي.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سننَ من قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سلكوا جحرَ ضبٍّ لسلكتموه، قلْنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنصارى؟ قال صلى الله عليه وسلم: فمن؟".

ولكن هناك إشكالية ظهرت في الممارسة الحديثة بعد ما سُمى بالربيع العربي، ففي مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 أدى التفسير الخاطئ لبعض النصوص الدينية لدى بعض الفصائل الإسلامية، لتطرف في السلوك السياسي أو السلوك العام، فتمت مقابلة هذا التطرف الفكري بتطرف مضاد يدعم فصل الإسلام عن السياسة.

إن حل هذه الإشكالية يكمن في وضع ضوابط للممارسة السياسية، لا تمس أصل الحق، مثل منع وتجريم الممارسات الحزبية والانتخابية على المنابر الدينية، ووضع عقوبات تعزيرية رادعة لمرتكبيها، مع الاهتمام بنشر الفكر الصحيح، وعدم الإقصاء، أو الاعتماد على الحل الأمني وحده.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة