الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

بناء الحضارات يبدأ من الأسرة

بهذه الأسر تُبنى الحضارات، لا بالظلم والطغيان والمال، وقهر الشعوب

بناء الحضارات يبدأ من الأسرة
جمال فتح الله
الأربعاء ٢٧ أبريل ٢٠١٦ - ١١:٣٤ ص
1262

بناء الحضارات يبدأ من الأسرة

كتبه/ جمال فتح الله

الحمد لله على فضله ونعمائه، والصلاة والسلام على خير أصفيائه، وعلى آله وصحبه وأوليائه، وبعد :

سن الله عز وجل الزواج لعمارة الأرض، وجعله من آياته الباهرة .قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

لا تستعمل لفظة ’’آية’’ في القرآن المجيد إلا في الأمور الجليلة العظيمة، ليدل على قوة وقدرة الخالق تبارك وتعالى، وقد قرن الله تبارك وتعالى آية تكوين الأسرة بأية تكوين العالم أجمع. من فضل الله تعالى وتكريمه لبني آدم أن شرع لهم الزواج، وجعل طريقة تناسلهم بهذه الطريقة الشريفة المنظمة المحفوظة المصونة لئلا تختلط المياه، وتشتبه الأنساب. والإسلام تسامى بالمرأة إلى علياء السمو، وجعل الزواج من نعمه سبحانه على عبادة. بل إن الزوجة نعمة من نعم الله على عبده حقيق به أن يشكرها ولا يكفرها، وهو مسئول عن هذه النعمة بين يدي الله يوم الحساب.

والمرأة لها في الإسلام وظيفة مقدسة في بيتها ورسالة سامية، تجعل من هذا البيت قلعة من قلاع العقيدة وحصنا من حصون الإسلام، من حسن التبعل، وصناعة الأبطال، وإعداد أمهات المستقبل، وتربية العلماء. كما قال معاوية رضى الله: "أنا ابن هند". وكما تربى الإمام مالك رحمة الله، والشافعى، وغيرهم كثير، والأسرة هي الحصن الأول التي يتحصن بها الطفل، هذه الجوهرة الثمينة بين يدى والديه، والزواج لازم لكل مسلم قادر يخشى العنت، ومن وجد ما يتزوج به فليفعل خشية الفتنة، لقوله - صلى الله عليه وسلم- :«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا يستطع فالصوم له وجاء» .

فإذا أردنا حضارة وتقدم ورقي فعلينا من بداية الطريق، منذ أن يفكر الشاب في هذه العبادة الجميلة المحببة إلى النفوس عند الجميع، أن يكون الاختيار وفق شريعة الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فإذا عزم على الزواج فليستخر الله عز وجل في ذلك يقدر له الخير إن شاء الله، وأن يختار المرأة الصالحة، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «تنكح النساء لأربعة: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك .ولقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، ولماذا هذه الصفات الحميدة. ولماذا الصالحة فقط، هذا ما قاله المعصوم - صلى الله عليه وسلم- لأن هذه الأرض الطيبة التي يريد غرسها التي تنجب الأبطال والعلماء، والتي تؤدى حق الله وتخشاه وتتقيه في كل شؤنها، فإذا غاب عنها زوجها حفظته في نفسها وماله، التي تشعر بالمسئولية تجاه هذا الدين، وتعلم أنها مسئولة عن هذه الرعية، التي تأخذ مثلها الأعلى أمهات المؤمنين رضى الله عنهن.

فهذه صفية بنت عبدالمطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخت حمزة أسد الله، فقد ربت ابنها، الزبير بن العوام، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذى بلغ من بسالته وبطولته، أن عدل به الفاروق رضى الله عنه ألفا من الرجال، حين أمد به جيش المسلمين في مصر، وكتب إلى قائدهم عمرو بن العاص رضى الله عنه يقول: أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد. وقد صدقت فراسة الفاروق. فالذي فتح الحصن الزبير بن العوام بشجاعته، فألقى بنفسه داخل الحصن، الله أكبر، رجال ربتهم نساء مؤمنات قانتات .

قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، فكانت رحمها الله تعمل وتقدم له ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة. سفيان؛ فقيه العرب ومحدثهم. وأمير المؤمنين في الحديث، قال فيه زائدة: الثوري سيد المسلمين. وقال الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان. هذا الإمام الشامخ ما هو إلا ثمرة أم صالحة. هذه هي الحضارة هذا هو التقدم والعلو والرقى.

وهذه أم ربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك: أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها، لم تنشغل بالموضات ولا الصيحات ولا الفضائيات ولا السهرات، بل عرفت الطريق خلف النبي - صلى الله عليه وسلم- وعلمت الهدف الذي خُلقت له، والرسالة التي حرصت على أدائها بأمانة وصدق، وأن تترك بصمة في التاريخ المشرف للحضارة المسلمة.

أم أخرى أعجوبة، أم الإمام مالك رحمه الله: قال مالك قلت لأمي أذهب أكتب العلم؟ فقالت: تعال، فالبس ثياب العلم. فألبستني مسمرة ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، إمام دار الهجرة ثمرة أم صالحة. والأمثلة كثيرة لا تحصى بفضل الله في الحضارة الإسلامية .

فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام، وسمت بهن عظمته، وهكذا كانت الأم في عصور الإسلام الزاهية .

وعلى ولي هذه المرأة الصالحة أن يتخير لها من يتوسم فيه الصلاح والتقوى، فإن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يهنها، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» أن يكون من رواد المساجد، فمن علامة أحدهم، أنك ترى له: قوة في دين، وعزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة، وطلبا في حلال، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسى وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، قريبا أمله، قليلاً زلـله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منذوراً أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمة ويصل من قطعة، في الزلازل وقور، وفي المكارة صبور، وفي الرخاء شكور، لا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، لا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لا يغمه صمته، وإن ضحك لا يعلو صوته، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، إنه من رواد المساجد .

هذه صفات القائد والمربى والمدير لهذه المؤسسة العريقة، التي يتخرج منها المجاهدون والعلماء والزهاد الصادقون، رجل من الرجال الذين عرفوا هدفهم في هذه الحياة، ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾. يعلم حق الله عليه، وحق الوالدين، وحق الزوجة، وحق الأولاد وحق الجيران، وحق المسلمين عامة، حتى حق غير المسلمين، يعلم أنه عضو نافع في هذه الأمة، ولا بد أن ينصر هذا الدين، يشعر بالمسئولية تجاه كل هؤلاء .

لذا لا يفتر عن العمل لهذا الدين وبهذه الشريعة الغراء، أسوته وقدوته النبي - صلى الله عليه وسلم- يتشبه بالجيل الفريد، الصحابة رضي الله عنهم، فهو في بذل أبي بكر، وشجاعة عمر، وحياء عثمان، وأمانة أبو عبيدة، وعلم معاذ، رضى الله عن الجميع .

أسرة بهذه المواصفات الفريدة النادرة، من زوج صالح وزوجة صالحة، لا بد أن تكون صالحة، تربى الأبناء الصالحين، فيخرج لنا مجتمع صالح فيه العفة والحياء والكرم والخلق الحسن، بهذه الصفات ترتقى الأمم وتتقد، وتتصدر جميع الأمم، وبهذه الأسر تُبنى الحضارات، لا بالظلم والطغيان والمال، وقهر الشعوب .

صح عن التابعى الجليل جُبير بن نُفير رحمة الله أنه قال: "لما فُتحت قبرص فُرِق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء رضى الله عنه جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جُبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترى !

والحمد لله رب العالمين

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

نطهر صيامنا (2)
57 ١٢ مارس ٢٠٢٤
نطهر صيامنا (1)
60 ٠٤ مارس ٢٠٢٤
إنما الحلم بالتحلم (1)
40 ٣١ يناير ٢٠٢٤
لا تحمل همًّا!
91 ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٣
محطات تطهير!
94 ١٩ يونيو ٢٠٢٣