الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفاتُ مع آياتِ

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

وقفاتُ مع آياتِ
جمال فتح الله
الأربعاء ٠٣ أغسطس ٢٠١٦ - ١٥:٢٢ م
1057

وقفاتُ مع آياتِ

كتبه/ جمال فتح الله

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين, محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، في هذه الآية يبين اللهُ -عزوجل- كيف يتعامل المسلم مع غيره من بني البشر, ثلاث جُمل جَمَع فيها, خُلُق المسلم التي يجب أن يكون عليها, قال السعدي -رحمه الله-  في تفسيره الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملتِهم: "فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم".

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر الله -تعالى- أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.

الصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ  ***   وفيهِ لصونِ العِرض إصلاحُ

أما تَرَى الأُسـدَ تُخشَى وهي صامتةُ ***   والكلبُ يُخزَى لعمرِي وهو نبَاحُ

وهكذا كان خُلق النبي –صلى الله عليه وسلم- مع القريب والبعيد, وأيضًا كان خُلق أصحابه رضي الله عنهم جميعًا.

وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ  النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}، آية أُخرى عظيمة, وفي منتهى الرقي الأخلاقي, كظم الغيظ ثم العفو, وعن مَن؟, لم يقل عن المؤمنين أو المسلمين, ولكن عن الناس, ليشمل حتى الكافر, والمنافق, قال السعدي رحمه الله: "إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم, وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم‏، ‏‏"والعافين عن الناس" يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه".

 فأين المسلم من هذا الخلق الجميل, الذى تحلى به النبي صلى الله عليه وسلم, في عفوه عن ثُمامة بن أُثال، روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: "عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ"؛ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: "مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِم تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ"، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: "عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ"، فَقَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ؛ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ؛ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ؛ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟" فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ؛ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: "صَبَوْتَ؟" قَالَ: "لاَ وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ".

وكذلك عفوه عن أهل مكة لما فتح مكة، قال: "يا مَعشَر قُرَيش مَا ترون أنَي فاعلُ فيكُم" قالوا: "أخُ كرِيم وابن أخِ كريمٍ" قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ".

وكان هذا الخُلق الكريم يشمل كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم، مثل أبي بكر وعمر الفاروق وغيرهم الكثير رضي الله عنهم, ولما خاض مِسطح بن أثاثة فيما خاض فيه من حادثة الإفك، وأنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق على مسطح لقرابته وفقره، قال أبو بكر رضي الله عنه: "وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي"، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْه أبداً"، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه، شكرًا للقدرة عليه"، سُئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن أعز الناس؟ قال: "الذي يعفو إذا قدر، فاعفوا يعزكم الله"، قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: "عليكم بالِحلْم والاحتمال حتى يُمْكِنُكُمُ الفُرصةُ، فإذا أمكنكم؛ فعليكم بالصفح والإفضال"، قال أبو ذر لغلامه: "لم أرسلت الشاة على علفِ الفرس أي تأكل من طعام الفرس؟" قال: "أردت أن أغيظك" قال أبو ذر: "لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حَرٌ لوجه الله تعالى".

وكذلك التابعين, قال الحسن البصري رحمه الله: "أفضلُ أخلاق المؤمن العفو"، وميمون بن مهران، جاءت جارية ميمون بن مهران ذات يوم بصَفْحة وعاء فيها مرقة حارة وعنده أضياف، فعثرت، فصبت المرقة عليه فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: "يا مولاي استعمل قول الله تعالى "والكاظمين الغيظ"، قال قد فعلت, فقالت: "اعمل بعده", قال: "قد عفوت", والعافين عن الناس, والله يحب المحسنين, قال: "قد أحسنت إليك, أنت حرة لوجه الله تعالى".

قال الأحنف بن قيس رحمه الله: "إياكم ورأي الأوغاد"، قالوا: "وما رأي الأوغاد؟" قال: "الذين يرون الصفح والعفو عارًا"..         

هذه أخلاق العلماء تشبه أخلاق الأنبياء, هكذا يجب أن يكون المسلم مع أخيه المسلم, ومع غير المسلم, وهذه هي الدعوة الصامتة بالأخلاق والمعاملة الحسنة, والسلوك القويم, آيات بينات يجب على المسلم الوقوف كثيرًا عندها متدبرًا, فاهمًا لمعناها, مطبقًا لها، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا، الحمد لله رب العالمين.                                                                        

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

نطهر صيامنا (2)
59 ١٢ مارس ٢٠٢٤
نطهر صيامنا (1)
60 ٠٤ مارس ٢٠٢٤
إنما الحلم بالتحلم (1)
40 ٣١ يناير ٢٠٢٤
لا تحمل همًّا!
91 ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٣
محطات تطهير!
94 ١٩ يونيو ٢٠٢٣