الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

سمات العبادة ... التنوع

من أعظم ثمرات تنوع العمل الصالح...

سمات العبادة ... التنوع
نور الدين عيد
الأربعاء ١٧ أغسطس ٢٠١٦ - ١٣:٣٠ م
1622

سمات العبادة ... التنوع

كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن من جملة المفاهيم التى ينبغي استحضارها عن العبادة: الشمولية والتنوع لكل أعمال العبد، فما للعبد قول أو فعل إلا ولله فيه مراد من عبده، سواء كان بالأمر أو النهى أو التخيير أو القضاء، فامتثال مراد الله فى فعله كله هو العبودية بتمامها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .

فعبوديته سبحانه عامة شاملة لجميع الحياة والحركات والسكنات بل والخطرات، يزيد بالامتثال فى كلها الإيمان، ويقل بالمخالفة فى إحدها، فمن كثرت مخالفته جهل من أين يؤتى، ومن عظمت عبادته لا يدرى أى أبواب الجود يفتح عليه، قال سبحانه عمن يقرب ويصطفى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فالعبادات تجرى على القلب والجارحة واللسان وما يملكه متعبد لله فيه.

أنواع العبادات:

(1)من حيث أداتها:

أ_ عبادات قلبية: يخضع لها القلب ويتعبد للرب سبحانه، كالحب والخشية والإنابة والتوكل والرجاء والخوف والإخبات والصبر واليقين والشكر، فهذه لا بد للعبد من الامتثال بها، والاعتناء بزيادتها، إذ إن أصل كل عمل من هذه الأعمال ركن فى الإيمان يزول بزواله، والعمل على زيادتها ونمائها أصل الأصول فى السير إلى الله، وما فاز من فاز من الأوائل بمثل أعمال قلوبهم، فعمل القلب هو سر القرب، بل لا يصلح عمل الجارحة إلا بمواطئة ما فى القلب صدقًا وإخلاصًا وحبًا ورجاءً، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم:  (ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب)، فيه إشارةٌ إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتَّقائه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه. فإنْ كان قلبُه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات.

وإنْ كان القلبُ فاسدًا، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحًا كانت هذه الجنود صالحةً، وإنْ كان فاسدًا كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم." جامع العلوم والحكم (ص: 74).

فهذه منزلة أعمال القلوب من العبادات، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ مَا فِي الْقُلُوبِ: الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالْخَشْيَةُ لَهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ". مجموع الفتاوى (32/ 232).

وكذا قال ابن القيم رحمه الله: "والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه؛ حتى لتكون صورة العملين واحدة وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتتفاضل أيضا بتجريد المتابعة؛ فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلا لا يحصيه إلا الله تعالى". المنار المنيف (ص: 33).

فالقلب محل نظر الرب تبارك وتعالى، كما روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم". فلزوم هذه الأعمال هى أولى الأولويات، والغفلة عنها سهم فى نحر.

ب_عبادات بدنية: وهذه للجوارح من اللسان واليد والقدم وسائر الجوارح الظاهرة، يعبدها لربها فى شأنها كله، وهذه على نوعين:

الأول: عبادات اللسان: كالذكر وقراءة القرآن وتعليم العلم والدعوة إلى الله بالحجة والبيان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باللسان ودلالة الضال، فهذه إن قل حظه منها دل على حرمان كبير، إذ إن هذه من أيسر العبادات كلفة وأعظمها أجرًا، فإقلاله دليل حرمانه، عن أبي الدرداء، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: بلى. قال: «ذكر الله تعالى» قال معاذ بن جبل: «ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله» رواه مالك وأحمد والترمذى وصححه الألبانى .

الثانى: عبادات سائر الجوارح:

كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باليد، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" رواه أحمد وصححه الأرناؤوط، فهى من أكثر العبادات تنوعاً لتعدد وظائف الجوارح، وكل عمل لله فيه عبادة يحبها .

ج_ عبادات مالية: كالزكوات والصدقات، فهذه براهين على الإيمان، ونجاة من المهالك، عن حذيفة: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة" رواه البخارى، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها» رواه مسلم. فإمساكه عن هذه العبادة إضاعة لحق الله فيها. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وإطلاق يده بها خُلف وإيمان.

(2) من حيث رتبتها:

1_فرض: وهذا المفروض من العبادات لا ينبغى أن يعارض بما دونه، بل النافلة تبع له ومرقعة لنقصه، وهذه الفرائض تتفاوت فيما بينها بالإجماع، فأفرضها التوحيد، وأفرض عبادات البدن الصلاة، وينشغل العبد بالعينى عن الكفائى، وهكذا تتفاضل العبادات فى ماهيتها برتبتها عند الله لا بما يراه العبد ويختاره.

2_ سنن نوافل: وهذه أيضًا تعمل فيها الرتبة، فمن مؤكدة إلى غير مؤكدة، ويثمر هذا التفاضل، ثبات الخطى بلا اضطراب ولا تأخير، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته" رواه البخارى.

(3) من حيث الأثر:

إن لكل عمل صالح أثر فى الإيمان، فبه يزيد الإيمان وبنقصه ينقص الإيمان، لكن لكل عبد حال تعرتيه وتخصه فى شأنه عن غيره، مما يجعله يبحث عما يناسبه، بل قل إن شئت: أن لكل عبد ضعف فى سيره إلى ربه يحتاج إلى تقويته، فمجمل العمل الصالح نافع، قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ، لكن العام قد لا يصلح الخاص، فمن يشكو من الرياء لا ينصح إلا بما يدفعه عنه ويقوى الإخلاص فيه، ومن كان يشكو من ضياع الصلاة فى جماعة المصلين ينصح بما يعينه على حضورها، ومن كان داؤه فى النساء ليس كمن داؤه فى بطنه ليس كمن داؤه فى لسانه، فكلٌ يحتاج إلى عمل يبرؤه من عيبه، ويشفيه من دائه.

_فمن أعظم ثمرات تنوع العمل الصالح:

أولاً_ أن يلزم العبد عملًايناسبه يكون سباقًا فيه، من أهله الذين يدعون من بابه يوم الحساب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة "، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» رواه البخارى ومسلم.

(من أهل الصلاة) المكثرون لصلاة التطوع، وكذلك من ذكر من أهل الأعمال الأخرى فالمراد الملازمون لها المكثرون منها زيادة عن الواجبات .

ثانياً_أن يبحث العبد عن شفائه من هذه الشفاءات الربانية والعطايا الإلهية، ولا يصبرن على مرض قلبه، وضعف سيره، فإن أجله يسابقه وأوشك أن يباغته بانقضائه، فهلم إلى السعة وساحة العمل والقرب من الرب، وإدراك النعيم بالعيش فى جنة الدنيا التى هى معرفة الرب والقرب منه، والالتذاذ بمناجاته ومناداته.

ثالثًا_ بناء الشخصية المتوازنة كالتى رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسان بالنهار رهبان بالليل، أصدق الناس حديثًا، وأكرمهم فى معاملة، وأوفاهم بعهد، وأحفظهم لحق، أذكرهم لربهم، وأحنهم على ولد، وأعطفهم على زوجة، وأوصلهم لرحم، فى كل باب يمتثلون، هذا أعظم ما يجنيه العالم بتنوع العبادات، لا يكون ضاربًا بسهم فى باب وينقضه فى آخر.

والله أسأل أن يسددنا ويوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يهدى قلوبنا، ويصلح سرائرنا وأعمالنا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com