الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

بين أبرهة الحبشي والحجاج الثقفي

إن صنيع الحجاج بن يوسف الثقفي كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه

بين أبرهة الحبشي والحجاج الثقفي
طلعت مرزوق
الأربعاء ٢٤ أغسطس ٢٠١٦ - ١٨:٣٠ م
1375

بين أبرهة الحبشي والحجاج الثقفي

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

بَنى أبرهة كنيسة القليس بصنعاء، وجعلها تحفة من تحف البناء والعمارة، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، فلما فشل في ذلك عَزَم عام 571 ميلادية على غزو مكة وهدم الكعبة المُشرفة، وتمكن من هزيمة كل القبائل العربية التي تعرضت له في طريقه إلى مكة، إلى أن حُبِس الفيل الذى كان في مُقدمة جيشه الجرار في وادى محسر، وأهلكهم الله عزَّ وجلَّ.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}.

أما الحجاج بن يوسف الثقفي فكان واليًا على العراق وغيره لعبد الملك بن مروان الأموي، واشتهر الحجاج بالظلم وسفك الدماء، مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وأمره إلى الله تعالى.

ومِن أشهر جرائم الحجاج رمى الكعبة بالمنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم عليه السلام، وكان الناس يطوفون ويُصلون مِن وراء ذلك، وجعل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه الحَجر الأسود في تابوت في سرق (شقائق) من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حُلي وثياب وطيب، عند الخزان حتى أعاد بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل، وذلك كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا حدثانُ قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحِجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا".

فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين هدم الحائط الشمالي وأخرج الحِجر كما كان أولا، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي، وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك.

وقد هَمَّ ابن المنصور المهدي أن يُعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس، فقال: إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، يعني يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم.

فكيف منع الله سبحانه الكعبة من أبرهة قبل مَصيرها قِبلة ومنسكًا، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قِبلة ومنسكًا حتى أحرقها، ونصب المنجنيق عليها؟!!.

إن صنيع الحجاج بن يوسف الثقفي كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها في أخر الزمان، فصار الهدم آية، فلذلك اختلف حكمها في الحالتين.

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعاً: "يُخَرِّبُ الكعبةَ ذو السُّوَيْقَتَيْنِ (أَيْ: لَهُ سَاقَانِ دَقِيقَانِ) من الحبشةِ".

وروى البخاري ‏عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ‏: "‏كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ (الفحج تباعد ما بين الفخذين) يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا".

وهذه الوقائع وغيرها لا تُعارض قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}. لأن ذلك يَقَع فِي آخِر الزَّمَان قُرْب قِيَام السَّاعَة حَيْثُ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْض أَحَد يَقُول: اللَّهُ اللَّهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم: "لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الْأَرْض اللَّهُ اللَّهُ". وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن سَمْعَان: "لَا يَعْمُر بَعْده أَبَدًا". وَقَدْ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْقِتَال وَغَزْو أَهْل الشَّامّ لَهُ فِي زَمَن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، ثُمَّ مِنْ بَعْده فِي وَقَائِع كَثِيرَة مِنْ أَعْظَمهَا وَقْعَة الْقَرَامِطَة بَعْدَ الثَّلَاثمِائَةِ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَطَاف مَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَة وَقَلَعُوا الْحَجَر الْأَسْوَد فَحَوَّلُوهُ إِلَى بِلَادهمْ ثُمَّ أَعَادُوهُ بَعْدَ مُدَّة طَوِيلَة، ثُمَّ غُزِيَ مِرَارًا بَعْدَ ذَلِكَ، كُلّ ذَلِكَ لَا يُعَارِض قَوْله تَعَالَى: {‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَنْ يَسْتَحِلّ هَذَا الْبَيْت إِلَّا أَهْله". فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ عَلَامَات نُبُوَّته، وَلَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَدُلّ عَلَى اِسْتِمْرَار الْأَمْن الْمَذْكُور فِيهَا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً