الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الحج عبر وعظات

اشتملت فريضة الحج على حِكَم جليلة كثيرة ودروس وعظات

الحج عبر وعظات
شحاتة صقر
الثلاثاء ١٣ سبتمبر ٢٠١٦ - ١٢:٥٤ م
2259

الحج عبر وعظات

كتبه/ شحاتة صقر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج: 27- 28]

والمنافع: دنيوية ودينية.

أما الدينية: فلتحصيل رضوان الله تعالى، والعودة بمغفرة الذنوب جميعًا، وكذا الأجور العظيمة التي لا توجد إلا في تلك الأماكن، فمثلًا الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ولا يوجد طواف ولا سعي إلا في تلك الأماكن. ومن المنافع لقاء المسلمين، والوقوف على أحوالهم، ولقاء أهل العلم، والاستفادة منهم، وطرح المشكلات عليهم.

وأما المنافع الدنيوية فمنها التجارة، وسائر وجوه المكاسب الناشئة والمتعلقة بالحجّ.

وقد اشتملت فريضة الحج على حِكَم جليلة كثيرة ودروس وعظات ذكرها أهل العلم، مَن وُفِّق لفهمهما والعمل بها وفق لخير عظيم، ومنها:

1- في الحج إظهارٌ للتذلل لله عز وجل، وذلك لأن الحاج يترك أسباب الترف والتزين ويلبس الإحرام، مُظهِرًا فقره لربه، ويتجرد في هذا السفر عن الدنيا وشواغلها التي تصرفه عن الله سبحانه فيتعرض بذلك لمغفرة الله تعالى ورحمته.

2- إن أداء فريضة الحج يؤدي شكر نعمة المال وسلامة البدن، وهما أعظم ما يتمتع به الإنسان من نعم الدنيا، وفي الحج شكر لهاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه، وينفق ماله في طاعة ربه والتقرب إليه.

3-  إن الحج يربي النفس على روح الجندية، بكل ما تحتاج إليه من صبر جميل وتحمل الأذى ونظام عسكري منظم يتعاون به المرء مع الناس، ألا ترى الحاج يتكبد مشقات الأسفار!!

4- في الإحرام تظهر المساواة بين جميع المسلمين حاكمهم ومحكومهم، غنيهم وفقيرهم، فهناك تزول الفوارق بين الناس، فوارق الغنى والفقر، فوارق الجنس واللون، فوارق اللسان واللغة.

5- ومظهر الحجاج في لباس الإحرام يمثل البعث في الحياة الآخرة، ويكشف عن أن الدنيا الزائلة لا يليق أن تصرف مفاتنها العاقل المؤمن عن الاستعداد للحياة الباقية. وهو في حقيقته تجرد من شهوات النفس والهوى وحبسها عن كل ما سوى الله وعلى التفكير في جلاله.

6- مؤتمر الحج تجتمع فيه الكلمة على البر والتقوى وعلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر والسهر على مصلحة الأمة.

7- سفر الإنسان إلى الحج لأداء المناسك يذكره بسفره إلى الله والدار الآخرة، فكما أن في السفر فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن؛ فإن السفر إلى الدار الآخرة كذلك. قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (رواه البخاري ومسلم).

8- وكما أن الذاهب في هذا السفر يتزود من الزاد الذي يبلِّغه إلى الديار المقدسة، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه من الزاد ما يبلِّغه مأمنه، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197).

9- وكما أن السفر قطعة من العذاب فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وأعظم منه بمراحل، فأمام الإنسان النَزْعُ والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار، والسعيد من نجَّاه الله تعالى.

10- وإذا لبس المُحْرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: «صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟» قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (صحيح رواه ابن ماجه).

11- وإذا قال الحاجُّ في الميقات: «لبيك اللهم لبيك» فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يستجب لربّه في تَرْكِهَا ويقول بلسان الحال: «لبيك اللهم لبيك» يعني: استجبتُ لنَهْيِك لي عنها وهذا أوان تركها؟ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24)، وقال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (الشورى: 47)

12- وترْك الحاجّ للمحظورات أثناء إحرامه، واشتغاله بالتلبية والذكر يبيّن له حال المسلم الذي ينبغي أن يكون عليه، وفيه تربية له وتعويد للنفس على ذلك، فهو يُرَوِّضُ نفسه ويربيها على ترك مباحات في الأصل، لكن الله حرمها عليه ها هنا في الحج، فكيف يتعدى على محرمات حرمها الله عليه في كل زمان ومكان؟

13- ودخول الحاجّ لبيت الله الحرام الذي جعله الله أمنًا للناس يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأنه لا يحصله الإنسان إلا بكد وتعب، وأعظم ما يؤمن الإنسان يوم القيامة التوحيد وترك الشرك بالله، وفي هذا يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82).

14- وتقبيل للحجر الأسود يربي الزائر على تعظيم السنة، وأن لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر، ويعلم أن ما شرع الله للناس فيه الحكمة والخير، ويربي نفسه على عبوديته لربه تعالى، فَعُمَرَ -رضي الله عنه- جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري).

15- وفي طواف الحاجّ يتذكر أباه إبراهيم -عليه السلام-، وأنه بنى البيت ليكون مثابة للناس وأمنًا، وأنه دعاهم للحج لهذا البيت، فجاء نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم- ودعا الناس لهذا البيت أيضًا، وكذا كان يحج إليه موسى ويونس وعيسى -عليهم السلام-، فكان هذا البيت شعارًا لهؤلاء الأنبياء وملتقىً لهم –عليهم صلوات الله وسلامه-، وكيف لا وقد أمر الله تعالى إبراهيم -عليه السلام- ببنائه وتعظيمه.

16- وشرب الحاجّ لماء زمزم يذكره بنعمة الله تعالى على الناس بهذا الماء المبارك والذي شرب منه ملايين الناس على مدى دهور طويلة ولم ينضب، ويحثه على الدعاء عند شربه. عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (صحيح رواه ابن ماجه). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ مَاءُ زَمْزَم؛ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ» (صحيح رواه الطبراني).(فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ) أي طعام إشباع أو طعام شبع من إضافة الشئ إلى صفته، والطُعم: الطعام (وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) أي شفاء من الأمراض إذا شرب بنية صالحة.

17- والسعي بين الصفا والمروة يذكّر الحاجَّ بما تحملتْه هاجر أم إسماعيل وزوجة الخليل -عليها السلام- من الابتلاء، وكيف أنها كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثًا عن مُغيث يخلصها مما هي فيه من محنة وخاصة في شربة ماء لولدها الصغير -إسماعيل-، فإذا صبرت هذه المرأة على هذا الابتلاء ولجأت لربها فيه فأنْ يفعل الرجل ذلك أولى وأحرى له، فالرجل يتذكر جهاد المرأة وصبرها فيخفف عليه ما هو فيه، والمرأة تتذكر من هو من بنات جنسها فتهون عليها مصائبها.

18 - والوقوف بعرفة يذكر الحاجَّ بازدحام الخلائق يوم المحشر، وأنه إن كان الحاج ينصب ويتعب من ازدحام آلاف فكيف بازدحام الخلائق حفاة عراة غُرلًا -غير مختونين- وقوفًا خمسين ألف سنة؟ عن ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يَقُولُ: «إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا» (رواه البخاري).

19 - وفي رمي الجمار يعوِّد المسلم نفسه على الطاعة المجردة ولو لم يُدرك فائدة الرمي وحكمته، ولو لم يستطع ربط الأحكام بعللها، وفي هذا إظهار للعبودية المحضة لله تعالى.

20 - وأما ذبح الحاجُّ الهدْيَ فيذكّره بالحادثة العظيمة في تنفيذ أبينا إبراهيم لأمر الله تعالى بذبح ولده البكر إسماعيل بعد أن شبَّ وصار مُعينًا له، وأنه لا مكان للعاطفة التي تخالف أمر الله ونهيه، ويعلمه كذلك الاستجابة لما أمر الله -عز وجل-. قال الله -عز وجل-: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102).

21 - فإذا ما تحلل من إحرامه وحلَّ له ما حرمه الله عليه: ربَّاه ذلك على عاقبة الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن عاقبة المستجيب لأمر الله الفرح والسرور وهذه فرحة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوة الطاعة، كالفرحة التي يشعرها الصائم عند فطره، أو القائم في آخر الليل بعد صلاته.

22 - وإذا انتهى الحاجُّ من مناسك الحج وجاء به على ما شرع الله وأحب، وأكمل مناسكه رجا ربه أن يغفر له ذنوبه كلها كما وعد بذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بقوله: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». (رواه البخاري ومسلم)، ودعاه ذلك ليفتح صفحة جديدة في حياته خالية من الآثام والذنوب.

23 - وإذا رجع الحاجُّ إلى أهله وبنيه وفرح بلقائهم ذكره ذلك بالفرح الأكبر بلقائهم في جنة الله تعالى، وعرَّفه ذلك بأن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر: 15).

24- ويعود الحاج إلى عمله في الدنيا يراقب الله سبحانه وتعالى، ويعمل صالحًا ليبقى على صفائه ونقائه، فيكون نموذجًا إيجابيًا للمسلم العامل التقي الناصح، ويثابر على حياته الزكية هذه حتى يلقى الله تعالى رضيًّا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com