الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مع "هيئة الترفيه" .. حتى نكون سويا

لقِيَم والمفاهيم والأعراف والمبادئ والمنطلقات -أيًا ما أسميناها- هي تراث الأمة وملكها الحضاري الذي كَوَّنَتْه على مدى أجيال وأجيال

مع "هيئة الترفيه" .. حتى نكون سويا
محمد السعيدي
السبت ٢٥ فبراير ٢٠١٧ - ١٨:٣٦ م
1102

مع "هيئة الترفيه" .. حتى نكون سويا

كتبه/ محمد السعيدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

بصرف النظر عن مدى صحة الإطلاق اللغوي لمُسَمّى الترفيه على هيئةٍ حُكومية تُعنى بإدخال السرور على المواطنين وإقامة المشاريع التي تعتني بذلك، فإن تهيئةَ سبلٍ متعددة لإدخال البهجة على الناس تتناسب واختلافَ أعمارهم وأذواقِهم وأقاليمهم وأجناسهم وأفكارهم ومداخيلهم المالية، مهمةٌ مطلوبة بل وحاجِيَّة في زمن ضاقت فيه على كثير من الناس مساكنُهم وأصبحوا يتطلبون المتنفس لهم ولعائلاتهم مع نهاية كل أسبوع يلتقون فيه مع أزواجهم وأبنائهم وقراباتهم، في معزل من متاعب العمل ومشاغل الحياة وأخبار السياسة والاقتصاد والحروب التي أصبحت تدخل في جيب كُلٍ منا وإن لم يتطلبها، لترغمه على قراءتها من هاتفه المحمول صباحًا ومساءً؛ فساعات الأنس حتى في أصعب الأوقات مهمة لتجديد النشاط وترويح النفوس ورفع العزائم، لا أظن أحدًا يخالف في ذلك، لأن هذه مطالب فِطرية تستوي في الحاجة إليها جميع النفوس، وإن كانت تختلف في المقدار الذي تحتاجه ونوعه ومكانه وزمانه.

لكن المخطِّطين لهذه المشاريع عليهم واجب عظيم ربما أدى الإخلال به إلى مشكلات يعسر أو يستحيل حلها لاحقًا، وهو أن يضعوا نصب أعينهم كونَ الغاية المبتغاة مما يرسمون له لا تتجاوز إسعاد الناس، ليكونوا أقدر على عِمَارَة الأرض بما يُصلِحها، ويحققُ فيها المقصد الإلهي الأعظم من خلقهم على هذه الأرض، وهو عبادته سبحانه اختيارًا كما هم عِبَاد له اضطرارًا؛ وكل ما سِوى هذه الغاية فليس أكثر من وسائل لتحقيقها؛ فالكسب الاقتصادي لا ينبغي أن يكون غاية للترفيه، بل يجب أن يُنْظَرَ إليه كوسيلة من وسائل تنشيطه وتنويعه والرُقِي به؛ لأننا حين نجعل الكسب هو الغاية من الترفيه -لا مجرد وسيلة للارتقاء به- فسوف نصل في النهاية وبلا شك إلى الاعتداء على سعادة الناس تحت مزاعم ترفيههم؛ وذلك لأن صُنَّاع المشاريع الترفيهية حِينَئِذٍ سوف ينظرون للمجتمع كمَنْجم يستمدون منه ثراءهم، ويتنافسون في اجتذابه بكل ما أوتوا من براعة؛ حتى يصل الأمر لأن يكون هَمُّ العباد هو التنافس على استهلاك الخدمات الترفيهية، وتنقلب حاجتهم الفطرية للراحة والأنس إلى نَهَمٍ خطير على تناول هذه الخدمات المتسارعة في التجدد، ويصير هَمُّ أحدهم هو كيف يُطفئ هذا الشَّرَه إلى الترفيه الذي سينقلب حتمًا إلى غاية يعمل الإنسان طيلة أسبوعه وعامه وشهره لتحقيقها والاستكثار منها، ومُنَافَسَة غيره من أقرانه عليها، بل ومسابقة من هم أكثر منه ثراءً وقدرة إلى الجديد والغالي من أصنافها.

كما أن جعل الكسب غاية للترفيه لا وسيلةً للرقي به سوف ينتهي -عاجلًا أو آجلًا- إلى تجاوز القِيَم والمُثُل العليا والأعراف النبيلة، شئنا أم أبينا، أي: وإن زعمنا أننا سنضبط مشاريعنا وخدماتنا الترفيهية بضوابط الشريعة فإننا لن نستطيع الاستقرار على ذلك أو المحافظة على هذا العهد وإن شدَّدْنا في قَطْعِه على أنفسنا وأُمّتنا؛ لأن الكسب إذا أصبح غاية ينتهي إليها طَرْفُ الإنسان طَمَس ما دونه كما تطمِسُ الرياحُ الغاباتِ الشاسعة والمدن العامرة شيئًا فشيئًا حتى لا تُبْقِي لها أثرًا.

كما لا ينبغي أن يكون من أهداف الترفيه تغيير تصورات المجتمع أوأخلاقه وعاداته وأعرافه؛ فإن إحداث أي تغيير في المفاهيم الجَمْعِيَة للناس أو سلوكهم العام أمر في غاية الدقة والخطورة؛ وفي حال قناعتنا الافتراضية بحاجة الناس إلى هذا التغيير فيجب أن تكون على أيدي رواد الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي؛ بل يجب أن تُكَفَّ أيدي غير هؤلاء مجتمعين أو متفرقين عنها؛ لأن أي تغيير في بِنْيَة الأُمم المعرِفِيَّة والقِيَمِيَّة -عن طريق الاقتصاد أو السياسة أو اللهو والمتعة- تكون عواقبه وخيمة، وانزلاق بالمجتمعات في مُنحَدَرات يصعب أو يستحيل تداركها.

فأوروبا حين تحررت من قبضة الكهنوت ولم تترك ميدان التغيير للمُصلِحين، بل نَحَّت المُصلِحين جانبًا أو اضطهدتهم، وأوكلت مهمة التغيير لأساطين الاقتصاد والسياسة؛ سقطت في مجال الأخلاق والأُسرة سقوطًا لا يُتَصَوَّر قدرتها على القيام منه، بالرغم من نجاحها في مجالي الاقتصاد والسياسة.

وكذلك بعض دول العالم الإسلامي -كتركيا الكَمَاليّة- التي ألجأتها الصدمة الحضارية بعد الحرب العالمية الأولى إلى أن تتقدم في التغيير المعرفي نحو النموذج الغربي، ولم تترك مهمة التغيير لرُوّاد الإصلاح؛ سقطت في المجال الأخلاقي والأسري والسياسي والاقتصادي معًا، ولم تنجح في شيئ من ذلك، وهي الآن تحاول النهوض في المجال الاقتصادي والسياسي كطريق للنهوض في المجال المعرفي والقِيَمي أيضًا.

فالقِيَم والمفاهيم والأعراف والمبادئ والمنطلقات -أيًا ما أسميناها- هي تراث الأمة وملكها الحضاري الذي كَوَّنَتْه على مدى أجيال وأجيال، وهي سريعة الاستجابة لمن يدعوها لإصلاح ما فسد منه وإعادته إلى نقائه، كما استجاب أهل الجزيرة العربية للدعوة الإصلاحية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب؛ فأذعنت باديةً وحاضرةً -ولأول مرة في التاريخ بعد عهد "بني أُمَيّة"- للرايات السعودية الخفاقة بهذه الدعوة التجديدية.. لكنها -أي الأمة- في المقابل تتعنت وتَتَمنَّع بل وتبغض من يدفعها دفعًا لمغادرة تراثها أو جزءًا منه.

حقًا إن الأمم قد تأخُذها -لزمن قصير- نشوة التغيير تحت جاذبية اللهو والاستمتاع، أو إغراءات التقدم، أو تحت طائلة الانهزام الحضاري؛ فتنزلق وراء التغيير القِيَمِي، لكنها تفيق من تلك النشوة بعد زمن قد يطول وقد يقصر، وحين إفاقتها تنقِم من باعد بينها وبين تراثها؛ وعلى ذلك أمثلة كثيرة في التاريخ القديم والمعاصر، أستغني بثقافة ووعي القارئ عن تعدادها.

ونحن في بلادنا "المملكة العربية السعودية" ننعم بمنهج إسلامي سلفي أثبت للعالم بأَسْرِه أنه قادرٌ على أن يكون أنموذجًا يُحتذى حين تريد الدولة والأمة أن تنبعث حداثتُهما من منابتهما، دون الحاجة إلى جذور مستعارة، أو مياه مجتَلَبَة من بعيد، فليس بين واقعنا وتراثنا أي خصام، وإنما الخصام بين أفراد طامحين إلى واقع مُستعار لا يُلائم سقف تراثنا الأصيل أو أرضيته؛ وحين يريد المجتمع الترَفُّه -أو تريد له ذلك دولتُه- فلن يكون قطعًا وفق توجه هؤلاء الأفراد الخَصِمِين، الذي يرمي إلى جذبه نحو سقف مستعار وأرض هَشّة بليدة، تهوي به في قرار سحيق.

إن لدينا من العقول ومن أدوات الابتكار -وأيضا من الفسحة في الدين والفقه فيه- ما يجعلنا قادرين على اختراع برامج لإسعاد أنفسنا ومجتمعاتنا دون أن نُحدِث خِصامًا بين ماضينا وحاضِرِنا، وبين أوَّلِنا وآخِرِنا، ونُبقي على أصولِنا وفروعِها غَضّة يانِعة مُثمِرة، لا تنبت على طين فاسد، ولا تشرب من مياه عَكِرَة.

صحيح أن "المملكة العربية السعودية" تُمَثِّل اليوم إحدى الدول القلائل -إن لم تكن الدولة الوحيدة في العالم بأَسْرِه- التي بقيت صامدة أكثر من ثمانين عامًا أمام الخضوع الفكري والأخلاقي والقِيَمي والسياسي لمُعطيات الحضارة الغربية في ذلك كلّه، وصحيح أيضا أنها تتكلف جراء ذلك أعباء متنوعة؛ لكن كُلْفتها وأعباءها ستكون أعظم وأخطر لو فرَّطَت في هذه الخصيصة، أو لَمَس العالَم منها الاستعداد ولو تدريجيًا لذلك التفريط.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com