الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (22) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"

الأخلاق الحسنة أثناء الحرب- عدد القتلى- قضية التحكيم...

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (22) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"
زين العابدين كامل
الأربعاء ١٩ أبريل ٢٠١٧ - ١١:٢٠ ص
1436

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (22) موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد ذكرنا في المقال السابق أحداث موقعة "صفين"، وما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع القتال بيْن أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وبيْن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأتباعه مِن أهل العراق والحجاز، وغيرهم، ثم كان رفع المصاحف مِن قِبَل أهل الشام، وموافقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على التحاكم إلى كتاب الله -تعالى-.

ونود أن نشير إلى بعض الأمور حول الموقعة.

الأخلاق الحسنة أثناء الحرب:

إن وقعة "صفين" كانت مِن أعجب الوقائع بيْن المسلمين؛ لقد كانت معركة فريدة في بواعثها، وفي طريقة أدائها؛ فكان المتقاتلون إخوة يذهبون معًا إلى مكان الماء فيستقون جميعًا، ويزدحمون وهم يغرفون الماء، وما يؤذي إنسان إنسانًا!(1).

وهم إخوة يعيشون معًا عندما يتوقف القتال؛ فيٌروى عن أحد المشاركين أنه قال: "كنا إذا تَوَادَعْنَا مِن القتال دخل هؤلاء في معسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء، وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم"، وهم أبناء قبيلة واحدة، ولكلٍّ منهما اجتهاده؛ فيقاتل أبناءُ القبيلة الواحدة كل في طرف قتالاً مريرًا، وكل منهما يرى نفسه على الحق، وعنده الاستعداد لأن يُقتَل مِن أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخَنا (وهنًا وضعفًا) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا, وهما أبناء دين واحد يجمعها، وهو أحب إليهما مِن أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها(2).

وظهر في هذه الحرب نماذج متعددة حول المعاملة الحسنة للأسرى.

قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلِّـقًا على هذه الحرب: "ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معًا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيرًا مِن قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة(3)".

وها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للمرة الثانية يتعامل مع الخصم المنهزم معاملة حسنة لا يتعامل بها منتصر مع خصمه الذي أوشك على الهزيمة.

عدد القتلى:

ذكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في "صفين" بلغ عددهم سبعين ألفًا؛ مِن أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا، ومِن أهل الشام خمسة وأربعون ألف مقاتل، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن عدد القتلى في "صفين" بلغ سبعين ألفًا أو أكثر(4).

وهذه الأرقام ربما يكون قد بالغ البعض فيها، لكن بلا شك كثر عدد القتلى في هذه المعركة، وقد قام أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد نهاية الجولات الحربية بتفقد القتلى، وقد وقف عليٌّ -رضي الله عنه- على قتلاه وقتلى معاوية -رضي الله عنه- فقال: "غفر الله لكم، غفر الله لكم" للفريقين جميعًا!

وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، خرج علي -رضي الله عنه- فمشى في قتلاه، فقال: "هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة"، وكان علي -رضي الله عنه- يَنهى عن شتم معاوية ولعن أهل الشام(5).

قضية التحكيم:

تم الاتفاق بيْن الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة "صفين"، وهو أن يُحكِّم كل واحد منهما رجلاً مِن جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص، ووكل عليٌّ أبا موسى الأشعري -رضي الله عنهم جميعًا-، واختيار علي -رضي الله عنه- لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فيه إشارة إلى ميل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الصلح والحل السلمي؛ لأن هذا هو الطبع الغالب على أبي موسى -رضي الله عنه-.

وكُتبتْ بيْن الفريقين وثيقة في ذلك، وكان ذلك في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت مِن صفر، سنة سبع وثلاثين، على أن يكون مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل(6) في شهر رمضان مِن نفس العام، وقد رأى قسمٌ مِن جيش علي -رضي الله عنه- أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر؛ وذلك لأنه حكّم الرجال في دين الله! فعليه أن يتوب إلى الله -تعالى-، وخرجوا عليه "فسموا الخوارج"؛ فأرسل علي -رضي الله عنه- إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وجادلهم، ثم ناظرهم علي -رضي الله عنه- بنفسه، فرجعت طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبيْن علي -رضي الله عنه- حروب أضعفت مِن جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.

وسنذكر في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- نص المناظرة، وتعد قضية التحكيم مِن أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير مِن الكُتاب، وتخبَّط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وخصوصًا أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! ووصفوا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأنه كان صاحب مكر وخداع!(7).

وما فضل الصحابيين منا ببعيدٍ؛ فلقد أثنى عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة.

ما نصت عليه "وثيقة التحكيم":

1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما, فيما تراضيا فيه مِن الحكم بكتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

2- قضية علي -رضي الله عنه- على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.

3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم مِن فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات؛ على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا.

4- وإن عليًّا -رضي الله عنه- وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا.

5 - على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, أن يتخذا القرآن إمامًا، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا, وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجامعة؛ لا يعتمدان لها خلافًا, ولا يبغيان فيها بشبهة.

6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.

7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما، وأشعارهما وأبشارهما، وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضي به راضٍ أو سخط ساخط, وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به مِن الحق مما في كتاب الله.

8 - فإن توفي أحد الحكمين قبْل انقضاء الحكومة؛ فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً مِن أهل المعدلة والصلاح, على ما كان عليه صاحبه مِن العهد والميثاق.

9- وإن مات أحد الأميرين قبْل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية, فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.

10- وقد وقعت القضية بيْن الفريقين والمفاوضة، ورفع السلاح.

11- وقد وجبت القضية على ما سميناه في هذا الكتاب مِن موقع الشرط على الأميرين، والحكمين، والفريقين, والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا؛ فإن خالفا وتعديا, فالأمة بريئة مِن حكمهما, ولا عهد لهما ولا ذمة.

12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل, والسلاح موضوعة, والسبل آمنة, والغائب مِن الفريقين مثل الشاهد في الأمر.

13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بيْن أهل العراق والشام.

14- ولا يحضرهما فيه إلا مَن أحبَّا عن تراضٍ منهما.

15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها, وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.

16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى انقضاء الأجل؛ فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب.

17- وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر, وهم جميعًا يد واحدة على مَن أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا، وشهد على هذا الكتاب الحسن والحسين, وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-, وغيرهم كثير(8).

وبعد ما كُتبت هذه الوثيقة بدأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وعاد معاوية -رضي الله عنه- بجيشه إلى الشام، وبذلك توقف القتال، وتم دفن القتلى -رحمة الله عليهم أجمعين-.

وفي سنة (40هـ) جرت بيْن عليٍّ وبيْن معاوية المهادنة -بعد مكاتبات جَرَتْ بينهما- على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليٍّ العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، ولا غارة، ولا غزو؛ فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعلي بالعراق يجيبها ويقسمها بيْن جنوده(9).

وبما أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، كما قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)؛ فسوف نستخلص في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- الدروس والعِبَر مِن أحداث الموقعتين "الجمل وصفين".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 610).

(2) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 270).

(3) العواصم مِن القواصم لأبي بكر بن العربي، ص (168-169).

(4) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم.

(5) المصنف لابن أبي شيبة (15/ 303).

(6)  تقع دُومة على مشارف الشام، وقال أبو عبيد السكوني: "دومة الجندل حصن وقرى بيْن الشام والمدينة قرب جبلي طيّء"، وذكر الحموي في معجم البلدان أنها سُميت بذلك نسبة إلى حصن بناه دوماء بن إسماعيل، معجم البلدان (2/485).

(7) قال ابن العربي -رحمه الله-: "وقد تكلم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة -دون الديانة- رأيتم أنها سخافة، حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين!".

والذي يصح مِن ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني أنه لما خرجت الطائفة العراقية مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفًا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون مِن صفر سنة "سبع وثلاثين"، ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف مِن أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بيْن الدعويين بالحق، فكان مِن جهة علي أبو موسى، ومِن جهة معاوية عمرو بن العاص، وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا، وأرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمرو وأثنى عليه بالفهم.

وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادتْ مِن الفساد؛ اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره مِن الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر. وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح مِن دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين. فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم فقال: إني نظرت فخلعتُ عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا مِن عنقي أو مِن عاتقي، وأخرجه مِن عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرَّق الجمع على ذلك مِن الاختلاف" (انتهى بتصرف يسير مِن العواصم مِن القواصم).

(8) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 665 - 666), والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 276 - 277)، وانظر جمل مِن أنساب الأشراف للبلاذري، والأخبار الطوال للدينوري.

(9) تاريخ الرسل والملوك للطبري ( 6/60)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/336) والمنتظم لابن الجوزي (3 /404).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com