الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي)

الصوم مِن أعظم ما يتحقق فيه مقام الإحسان

(إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي)
جمال فتح الله عبد الهادي
الاثنين ٠٤ يونيو ٢٠١٨ - ١٢:١٣ م
828

(إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي)

كتبه/ جمال فتح الله عبد الهادي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) (متفق عليه).

في هذا الحديث العظيم -الذي يحتوي على شقٍّ قدسي وشقٍّ نبوي- جملة مِن الفوائد، لابد لكل مسلم أن يتعرف عليها، وهي:

1- خصوصية الصيام عن سائر العبادات: قال الله -عز وجل-: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي): سبب إضافة الصوم إلى الله -تعالى- أنه لم يُعبد أحدٌ غير الله -تعالى- به؛ فلم يعظم الكفار في عصر مِن الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة، والسجود والصدقة والذكر، وغير ذلك. وأيضًا: لأن الصوم بعيد مِن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج، والغزو والصدقة، وغيرها مِن العبادات الظاهرة. (وَأَنَا أَجْزِي بِهِ): بيان لعظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء، وسعة العطاء.

2- الصيام وقاية وحماية، (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ): والمعنى أن الصيام سترة مِن الآثام أو مِن النار أو مِن جميع ذلك.

قال ابن العربي: "إنما كان الصوم جُنّة مِن النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات. (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ): وهو الكلام الفاحش. (وَلَا يَصْخَبْ): وهو مِن أفعال أهل الجهل: كالصياح والسفه.

3- منزلة الصائم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ): الخُلُوف: تغير رائحة الفم، قال الإمام ابن عبد البر: "معناه أزكى عند الله وأقرب إليه عنده مِن ريح المسك". وقال الإمام ابن القيم: "مِن المعلوم أن أطيب ما عند الناس مِن الرائحة: رائحة المسك، فمثَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخلوف عند الله -تعالى- بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم".

4- لماذا يفرح الصائم؟ (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ): فرحه عند فطره يكون بما أنعم الله عليه مِن القيام بعبادة الصيام الذي هو مِن أفضل الأعمال الصالحة، وبما أباح الله له مِن الطعام والشراب والنكاح الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم، وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله -تعالى- مُوَفَّرًا كاملًا، في وقت هو أحوج ما يكون إليه حين يقال: أين الصائمون؟ ليدخلوا الجنة مِن باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم.

5- الصيام مدرسة لتعليم وتدريب وتربية الأفراد فردًا فردًا على عددٍ مِن القيم التربوية، كما هو الشأن في بقية شعائر الدين، كما أن في الصيام تخليص للإنسان مِن رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن مفهوم الحريات مقيد بخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، وهذا جهاد شاق يعوّد الصبر والتحمل، ويعلّم قوة الإرادة، ويُعِدُّ الإنسان لمواجهة احتمالات الحياة بحلوها ومرها.

وقفة مع قول الله -عز وجل-: (إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ): اختلف العلماء في المراد بهذا، مع أن الأعمال كلها لله -تعالى-، وهو الذي يجزي بها على أقوال:  

- أي أن أعمال بني آدم يجري فيها القصاص، ويأخذها الغرماء يوم القيامة إذا كان ظلمهم؛ إلا الصيام، فإن الله يحفظه ولا يتسلط عليه الغرماء ويكون لصاحبه عند الله -عز وجل-.

- وقيل: إن معنى قوله -تعالى-: (إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ): أن الصوم عمل باطني لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى- فهو نية قلبية بخلاف سائر الأعمال فإنها تظهر ويراها الناس، أما الصيام فإنه عمل سري بيْن العبد وبين ربه -عز وجل-.

وقال آخرون أقوالًا غير ذلك، منها:

1ـ أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره. 

2ـ أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وإنها تضعف مِن عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله؛ إلا الصيام، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير.

3ـ الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: "بيت الله"، وإن كانت البيوت كلها لله.

4ـ أن الاستغناء عن الطعام وغيره مِن الشهوات مِن صفات الرب -جل جلاله-، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه.

قال القرطبي: "معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه مناسب لصفةٍ مِن صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إليَّ بأمرٍ هو متعلق بصفةٍ مِن صفاتي".

5ـ  أنه خالص لله -تعالى-، وليس للعبد فيه حظ بخلاف غيره، فإن له فيه حظاً لثناء الناس عليه بعبادته.

6ـ أن الصيام لم يُعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف، ونحو ذلك.

7ـ أن جميع العبادات توفّى منها مظالم العباد إلا الصوم.

8ـ أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة، كما تكتب سائر الأعمال.

9ـ أن الصوم هو الصبر، وقد قال -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10).

وقال الحافظ ابن عبد البر: "وقوله: (إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) معناه -والله أعلم-: أن الصوم لا يظهر مِن ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله، وليستْ مما يظهر فيكتبها الحفظة".

فالصوم مِن أعظم ما يتحقق فيه مقام الإحسان الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (متفق عليه).

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

نطهر صيامنا (2)
59 ١٢ مارس ٢٠٢٤
نطهر صيامنا (1)
60 ٠٤ مارس ٢٠٢٤
إنما الحلم بالتحلم (1)
40 ٣١ يناير ٢٠٢٤
لا تحمل همًّا!
91 ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٣
محطات تطهير!
94 ١٩ يونيو ٢٠٢٣