الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (19)

المخالف للمعلوم مِن الدين بالضرورة لا يعد عذرًا في التكفير باتفاق أهل العلم

تأملات في حجة الوداع (19)
ياسر برهامي
الجمعة ٣٠ نوفمبر ٢٠١٨ - ١٣:٢٧ م
930

تأملات في حجة الوداع (19)

(وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنساء) 

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته بعرفة في حجة الوداع: (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (رواه مسلم).

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "فيه الحَثُّ على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءتْ أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير مِن التقصير في ذلك... وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ)، وفي بعضها: (بِأَمَانَةِ اللَّهِ)، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) قيل: معناه قوله -تعالى-: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229). وقيل المراد: كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. وقيل المراد: بإباحة الله، والكلمة قوله -تعالى-: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) (النساء:3)، وهذا الثالث هو الصحيح، وبالأول قال الخطابي والهروي، وغيرهما، وقيل: المراد بالكلمة: الإيجاب والقبول، ومعناه على هذا: بالكلمة التي أمر الله -تعالى- بها. والله أعلم.

قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) قال المازري: قيل: المراد بذلك أن لا يَسْتَخْلِين بالرجال، ولم يُرِد زِنَاهَا؛ لأن ذلك يُوجِب جَلْدَها -<كذا بالأصل، وأظن أنه حَدَّهَا>-؛ ولأن ذلك حرام مع مَن يَكرهه الزوج ومَن لا يَكرهه، وقال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك عيبًا ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نُهُوا عن ذلك. هذا كلام القاضي، والمختار أن معناه: أن لا يَأْذَنَّ لأحدٍ تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأة، أو أحدًا مِن محارم الزوجة؛ فالنهي يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجلٍ أو امرأةٍ ولا مَحْرَمٍ ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا مَن عَلِمَت أو ظَنَّت أن الزوج لا يكرهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أُذِنَ له في الإذن في ذلك، أو عُرِفَ رضاه بِاطِّراد العُرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وُجِدت قرينةٌ لا يَحِل الدخول ولا الإذن، والله أعلم.

وأما الضرب المُبَرِّح فهو الضرب الشديد الشاق، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديدٍ ولا شاق، والبَرَح: المشقة، والمُبَرِّح بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء.

وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب؛ فإن ضَرَبَها الضربَ المأذون فيه فماتت منه: وَجَبَت ديتُها على عاقلة الضارب، ووَجَبَت الكفارةُ في مَالِه.

قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع" (انتهى مِن شرح صحيح مسلم، 8/ 183 - 184).

والحديث يتضمن إثبات حق السُّكْنَى، وهو أيضًا مُتَّفَقٌ على صِحَّتِه ووجوبه؛ لأنه جعل البيت للزوج، ولذلك أجمع العلماء على وجوب أن يُسْكِن الزوج زوجتَه، قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (الطلاق:6).

وقد حرم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الإضرار بالمرأة، فقال -تعالى-: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (الطلاق:6)، وإن كان الغرب يستعمل لفظة العنف، مع أن لفظة الإضرار هي اللفظة الصالحة النافعة الجامعة، وأما العنف فقد يدخل فيه الضرب غير المُبَرِّح، وهذا لا يصح إنكاره بعد إثباته في القرآن والسُنَّة، قال -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (النساء:34)، وقيَّده النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديثه بـ"غير المبرح"، وهو الذي لا يَشُقُّ جِلْدًا، ولا يَكْسِر عَظْمًا، ولا يُحدِث شَيْنًا.

في هذا الحديث نرى أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أكبر مجمعٍ لأهل الإسلام جمعهم معه -عليه الصلاة والسلام- أوصى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنساء خيرًا، وذكر ذلك بالأمر بتقوى الله فيهن، فالمعاملة معهن لابد أن يكون المؤمنُ فيها ناظرًا إلى أمر ربه بذلك، فهي علاقة دين وليست دنيا فقط، فلا تنضبط إلا بمراقبة الله وخشيته، ومهما وُضِعَت قوانين ونُظُم وقامت دعوات تزعم إعطاء المرأة حقوقها، فلن تأخذ المرأة حقها الشرعي إلا بتقوى الله، وقد أكثَرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوصية بالنساء خيرًا، فقال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) (متفق عليه)، وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ) (رواه الترمذي، وحسنه الحافظ ابن حجر).

وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، وفي رواية الحاكم قال: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلنِّساءِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلقت مِنْ ضِلَعٍ فَإِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، فَدَارِها تَعِشْ بها) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ) (متفق عليه)، وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) أَوَ قَالَ: "غَيْرَهُ". (رواه مسلم)، يَفْرَك أو يَفْرُك أي: يُبغض.

وعن معاوية بن حيدة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: (أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني). لا تُقبِّح أي: لا تُسْمِعْهَا المكروه، ولا تشتمها، ولا تقل: قَبَّحَكِ اللهُ، ونحو ذلك، وفيه: تحريم ضرب الوجه.

وعن عمرو بن الأحوص الجُشَمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع يقول، بعد أن حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ، ثم قال: (أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني). (عَوَانٍ): أَسِيرَاتٌ.

وأَكَّدَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حق الضعيفين "اليتيم والمرأة"، في حديث أبي شريح خالد بن عمرو الخزاعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: حَقَّ الْيَتِيمِ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني)، أي: أُلْحِقُ الحرجَ والإثم على مَن ضَيَّع حَقَّهُما.

وهو مِن أوضح الأدلة على ضرورة رعاية ضعف المرأة التي خَلَقَها اللهُ في القوة دون الرجل، كما قال -تعالى- عن المشركين: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف:17-18)، فهي لا تحسن الخصومة ولا تقدر على أخذ حقها، فهذا الضعف استوجب مزيدًا مِن الرعاية والعناية.

وقد اعتنى الإسلام بالمرأة؛ أُمًّا وزوجةً وبنتًا وأُختًا وقَريبةً، ففي كل أحوالها رَغَّبَ الشرعُ في أداء حقها، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (أَبُوكَ) (متفق عليه).  

وقد نَقَل العلماء الإجماعَ على تقديم الأم على الأب في البر، وكذلك تقديم مَن كان في جهتها على مَن كان في جهة الأب، فتُقَدَّم الخَالَةُ على العَمَّة، والخَالُ على العَمِّ، وتُقَدَّم الجَدَّاتُ مِن قِبَل الأم كذلك.

وسُئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: (زَوْجُهَا)، فسُئل: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: (أُمُّهُ) (أخرجه النسائي في السنن الكبرى والحاكم والبزار، وحسنه المنذري).

وعن عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (جَاءَتني مِسْكِينَةٌ تَحْمِل ابْنَتَيْن لَهَا، فَأَطعمتُهَا ثَلاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلى فِيها تَمْرةً لتَأكُلهَا، فَاسْتَطعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أَنْ تأْكُلهَا بيْنهُمَا، فأَعْجبني شَأْنها، فَذَكرْتُ الَّذي صنعَتْ لرسولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إنَّ اللَّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجنَّةَ، أَو أَعْتقَها بِهَا من النَّارِ) (رواه مسلم)، وذكره النووي في رياض الصالحين في باب مُلَاطَفَة اليتيم والبنات وسائر الضَّعْفَى، وعنها قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) (متفق عليه)، وهذا يشمل البنت الواحدة، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أمر الصلة: (أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ؛ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ) (رواه أبو داود، والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني)، فدَلَّ على تقديم الأخت على الأخ في الصلة؛ ومنه يؤخذ تقديم النساء عمومًا مِن الخَالَات والعَمَّات والجَدَّات، على غيرهن مِن الأقارب الرجال.

أفَبَعْدَ كُلِّ هذا يأتي زنديق ومنافق يُظْهِر النفاقَ الأكبر ويُبْطِلُ انتسابَه للإسلام؛ فيزعم أن الإسلام ظلم المرأة، وضَيَّعَ المساواةَ الواجبة بينها وبيْن الرجل في الميراث؟!

ويريد إلغاء القواعد الشرعية مِن القوامة والوِلَاية، ويبيح باسم الحرية كل الفواحش مِن زنا ولواط وسحاق، ويُلغي تجريمها ويسمونها الحرية الجنسية، وحقوق المثليين، وشرعوا لهم الزواج المدني -رجل برجل، وامرأة بامرأة!-؛ وما ذاك إلا لِعَمَى القلوب وطمس البصائر! نعوذ بالله مِن ذلك.

فمِن أظْلَمِ الظلم وأَبْيَنِ الجهل وأقبح القبيح وأعظم الوقاحة والجراءة: أن يَعترض مَن لا نسبة لِعِلْمِه إلى علوم الناس حوله، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما شرعه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وسَبَقَ به عِلْمُه، أو غير ما جرى به قَلَمُه -عَزَّ وَجَلَّ- في اللوح المحفوظ، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين؛ تنزيهًا لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله، عما لا يليق به مِن كُلِّ مَا نَسَبَه إليه الجاهلون الظالمون!

إن المُجَاهَرَة بهذا الكفر والنفاق، أو قبوله في مجالس المفاوضات مع الغرب، ومحاولات استجلاب رِضَا الغرب الكافر في هذه الأمور؛ مُحَادَّةٌ لله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا . وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:60-65)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:20-21)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:115)، وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44).

وإنكار المعلوم مِن الدين بالضرورة مِن أحكام الميراث أو تحريم الفواحش أو تحريم زواج المسلمة لغير المسلم؛ كفرٌ بواحٌ لا خفاء فيه، ولا يُعذَر أَحَدٌ بتأويلٍ يتأوله في ذلك، فإن التأويل المخالف للمعلوم مِن الدين بالضرورة لا يعد عذرًا في التكفير باتفاق أهل العلم، وقد يكون في بعض المسائل اختلاف في الزمان والمكان، لكن جمهرة هذه المسائل المعروضة على بلاد الإسلام ليستْ محل خلاف أو نزاع في شهرتها حتى عَلِمَها الخاص والعام والعالم والجاهل، ووالله قد امتلأت كتب أهل العلم في أبواب الرِدَّة بأمثلة أقَلّ مما يتكلم به زنادقة زماننا، حيث يعلنون الطعن في القرآن جملة وفي آياته صراحة ووقاحة، وكفرًا ونفاقًا، وأنهم لا دخل لهم بالشريعة ولا بمرجعيتها؛ فهذا كله ينتفي معه عذر الجهل والتأويل، وإذا صَدَر مِن أعلى السُّلطات والهيئات لم يُتَصَوَّر في ذلك الإكراه.

والواجب على كل مُسْلِمٍ أن يُعْلِن بَرَاءَتَه مِن ذلك، وإذا أصرت المجالس على إقرار الكفر وَجَبَ عليه ألا يَقْعُدَ معهم، قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء:140).

اللهم هَيِّئ لِأُمَّتِنَا أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ طَاعَتِك، ويُهْدَى فيه أهلُ مَعصِيَتِك، ويُذَلُّ فيه أهلُ الكفر والنفاق، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المُنْكَر؛ أَنْتَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوكيل.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة