الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفة محاسبة في مطلع شهر الخير والبركات

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

وقفة محاسبة في مطلع شهر الخير والبركات
صلاح عبد المعبود
السبت ٠٤ مايو ٢٠١٩ - ١٨:٥٩ م
915

وقفة محاسبة في مطلع شهر الخير والبركات

كتبه/ صلاح عبد المعبود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمع مطلع شهر رمضان المبارك يبدأ المسلم عامًا إيمانيًّا جديدًا، يُحبّب إليه فيه الإيمان ويزين في قلبه، ويُكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وعندما يقدم شهر رمضان يكون معه تغير في حياة الإنسان عما تعوده، فهو شهر ليس كباقي الشهور، ومع هذا التغير يقف الإنسان ليجدد حياته ويجدد إيمانه، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

وإن المؤمن في هذه اللحظات ينظر في صحيفته ليعلم أين هو؟ وما مدى قربه من ربه، وهل هو على الطريق المستقيم أم أغواه الشيطان إلى سبله وحبائله، فعاش في التيه لا يدري كيف يعود؟!

وإن الناصح لنفسه تمر عليه الأوقات أو بعض المواقف فتكون موضع نظره ومحط فكره، بل ربما كانت سببًا في تغيير حياته، فلقد جاءه شهر رمضان، وكان معه في العام الماضي أناس يأكلون ويشربون ويتمتعون بالحياة، كما هو الآن، ولكنه لا يجدهم معه اليوم! قد صرعهم الموت وصاروا في ظلمة القبور تحت الثرى، وقد مُد له في أجله ليدرك رمضان آخر.

فهل مِن وقفة محاسبة للنفس؟!

فهو الآن بين عمرين: بين عمرٍ قد مضي وبين عمر قد بقي، وكم ممَن أمَّل أن يكون معنا الآن ليشهد هذا الموسم العظيم فخانه الأمل، فصار فيه إلى ظلمة القبر، وكم مِن مستقبل يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه، فيا أيها الغافل اعرف زمانك، يا كثير الحديث فيما يؤذي احفظ لسانك، يا مسئولًا عن أعماله: اعقل شأنك، يا متلونًا بالزلل اغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوبًا عليه كل قبيح تصفح ديوانك، حاسب نفسك قبل أن تحاسَب، واحذر أن تكون مع الهالكين، وانظر في صحائفك لتمحو هذه الذنوب، واشترِ نفسك ولا تبعها للهوى، واعرف قدر ما ضاع، وابكِ بكاء مَن يدري مقدار الفائت، واعلم أن محاسبة النفس هي طريق السالكين إلى ربهم، وزاد المؤمنين في آخرتهم، ورأس مال الفائزين في دنياهم ومعادهم، فما نجا مَن نجا يوم القيامة إلا بمحاسبة النفس ومخالفة الهوى، فمَن حاسب نفسه قبل يوم أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومَن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ مِن نفسه، وكانت المحاسبة من همته"، وقال أيضًا: "لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه".

وقال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة مِن الشريك لشريكه"، وقد جاء الأمر بمحاسبة النفس في القرآن الكريم في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم" (تفسير ابن كثير).

وقال -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8).

قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: "ثم ليسألنكم الله -عز وجل- عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ ومِن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم فيه؟".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فإذا كان العبد مسئولًا ومحاسَبًا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال -تعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء:36)، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب".

وها هو الغزالي -رحمه الله- يجري حديثًا رائعًا مع النفس يحاسبها فيقول: "يقول -أي العبد- للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر، ومتي فني فقد فني رأس المال، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنساني أجلي، وأنعم علي به، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يومًا واحدًا حتى أعمل صالحًا، فاحسبي أنك قد توفيت، ثم قد رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، فإن كل نفس مِن الأنفاس جوهرة، ويحك يا نفس إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وقلة حياءك... أتظنين أنك تطيقين عذابه؟ جربي إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسي في الشمس.... أو قربي أصبعك مِن النار.... ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت انفلت وتخلصت وهيهات.... أما تنظرين إلى أهل القبور، كيف كانوا جمعوا كثيرًا وبنوا مشيدًا وأملوا حميدًا، فأصبح جمعهم بورًا، وبنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا... ويحك يا نفس، أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين؟ هيهات هيهات ساء ما تتوهمين.... أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي؟ فانظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله وبأي لسان تجيبين؟ وأعدي للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، واعملي في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة، اعملي قبل ألا تعملي، وتقبلي هذه النصيحة، فإن مَن أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية" (إحياء علوم الدين).

واعلم أخي في الله، أنه كلما اجتهدت في محاسبة نفسك اليوم استرحت منها غدًا إذ صار الحساب إلى غيرك، وكلما أهملتها اليوم اشتد عليها الحساب غدًا.

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر"، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18).

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله -عز وجل-، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر مِن غير محاسبة".

وقال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل مِن زقومها، وأشرب صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لها: ما تشتهين؟ قالت: أشتهي أن أعود إلى الدنيا فأعمل صالحًا، فقلتُ لها: فأنتِ في الأمنية فاعملي".

ونحن جميعًا أيها الإخوة الأحباب في الأمنية نعمل، نحن في الأمنية التي يتمناها كل مفرط عند الموت، نحن في الأمنية التي يصرخ بها أهل النار في النار، نحن في الأمنية التي يتمناها كل مَن وقف أمام المليك الجبار، فهلا انتهينا ووقفنا مع أنفسنا وقفة محاسبة ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم، وبدأنا حياة جديدة، فحفظنا أبصارنا عن النظر إلى الأفلام والمسلسلات والمباريات، وحفظنا سمعنا عن سماع الأغاني والموسيقى، وحفظنا ألسنتنا عن الغيبة والنميمة والكذب والخوض في الباطل، والخوض في أعراض الناس، والكلام فيما لا يعني وفيما لا يفيد، وحفظنا جوارحنا عن سائر أنواع المحرمات والآفات قبل الفوات؟!

والله مِن وراء القصد.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com