الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نظرات في قوله -تعالى-: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)

رمضان وعشره الأواخر فرصة عظيمة لهذه التهيئة؛ فأدرِكوا ما تبقى منها

نظرات في قوله -تعالى-: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)
ياسر برهامي
الجمعة ٣١ مايو ٢٠١٩ - ١٥:٣٠ م
738

نظرات في قوله -تعالى-: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فموسى -عليه السلام- نبيٌّ رسولٌ، كليم الله، وهو في نفس الوقت قائد أمة ورئيس دولة له سلطان مبين (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا) (النساء:153)، وشخصية محورية لبني إسرائيل؛ كادوا يقتلون هارون -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لما نهاهم عن عبادة العجل، فلما رجع موسى حَرَّقَه ونَسَفه في اليم نسفًا واستجابوا له في ذلك، ولما أمرهم بقتل أنفسهم استجابوا، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54)؛ فوجود موسى -عليه السلام- في بني إسرائيل مِن أعظم أسباب نجاتهم؛ بدونه يفقدون هويتهم -حتى أصل الدين- ويعبدون غير الله؛ فأتفكَّر: فلماذا وعده الله أربعين ليلة يتركهم فيها ويغيب عنهم رغم أهمية وجوده فيهم؟!

لا شك أن هناك مصلحة أخرى أعظم وأهم، وهي التهيئة لتلقي التوراة في الألواح، وهذه المهمة التي بها بقاء التوحيد والإيمان أجيالًا وقرونًا بعد موسى وهارون والأنبياء مِن بعدهم.

وإلى نزول القرآن لم تزل كل رسالات بني إسرائيل مبنية على التوراة، حتى رسالة المسيح -عليه الصلاة والسلام- وما آتاه الله مِن الإنجيل، فإنه مبني على التوراة؛ ولذا قال مؤمنو الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأحقاف:30)، ولم يقولوا: "مِن بعد عيسى" أو "مِن بعد داود"؛ فإن وجود التوراة هو بقاء المِلَّة والشريعة حتى أنزل الله القرآن العظيم القائم بنفسه، الذي لا يفتقر إلى غيره مِن الكتب، وإن كان مصدقًا لها ومهيمنًا عليها، لكن فيه مِن التوحيد والإيمان والشريعة الكاملة والعمل الصالح وأحوال القلوب، وتنظيم أمور المجتمع والدولة أكمل وأتم وأعظم مِن كل الكتب السابقة، بل جمع الله فيه كل ما يحتاجه الناس مِن الكتب السابقة، وزاد عليه من أنواع البراهين والحجج والبيانات والفصل، ويكفي أن سورة واحدة منه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، فاتحة الكتاب، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أعظم سورة في كتاب الله.

وعلم الكتب المنزلة وفهمها والعمل بها والدعوة إليها والدعوة بها ليس لكل أحد؛ بل للمصطفَين من عباد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر:32)؛ ولذا فلا بد من إعدادٍ وتهيئةٍ للقلب لتلقي كتاب الله والقيام به، وإذا كان الأنبياء يحتاجون لهذه التهيئة مع عصمتهم ومنزلتهم وعطاء الله لهم ما لم يعطِ غيرهم -مِن شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر وتيسير الأمر-؛ فحاجةُ مَن بعدهم إلى هذه التهيئة بالعبادة والقرب حاجة عظيمة، لكي يكون الواحد منهم -والطائفة- أهلًا لتلقي ما في الكتاب مِن العلوم والإرادات والأعمال.

فكانت الأربعون ليلة التي وعد الله موسى -يصوم نهارها ويقوم ليلها- ضرورية، حتى ولو ترك بني إسرائيل، وهو -عَزَّ وَجَلَّ- يعلم أنهم يعبدون العجل، ما أدراك ما قيام الأنبياء، وما أدراك ما صيام وقيام كليم الله موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- المصطفى مِن بين الناس برسالات الله وكلامه، وكانت عبادة في الخلوة بعيدًا عن الناس، بعد جهادٍ طويلٍ ودعوة إلى الله عظيمة وصبرٍ عجيب، وفتن وملاحم ومعاناة مع الفراعنة، ومع بني إسرائيل، وأحداث جِسام فوق طاقة البشرية إلا مَن قَوَّاهُ الله لذلك، فبعد هذا كله كانت هناك حاجة لإعدادٍ أتم لتلقي التوراة.

وقد وصل بموسى الشوق إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- والحب في هذه الليالي مبلغًا عظيمًا، بعد أن سمع كلامه، قال -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) (الأعراف:143)، أيّ حبٍّ وشوقٍ ورغبةٍ في لقاء الله وُجد في قلب موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بعد هذا التعبد العظيم حتى سأل الله أن ينظر إليه شوقًا وحبًا؟! وإن كانت البنية الإنسانية في الدنيا لا تحتمل ذلك؛ فلذلك لم تقع الرؤية في الدنيا، وإنما هي مؤخَّرة ليوم القيامة.

الغرض المقصود: أن الدعوة إلى الله لا بد معها مِن عبادةٍ وتهيئةٍ؛ أمَا سمعنا قول الله لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أوائل ما نزل عليه من القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) (المزمل:1-6)؛ أين نصيبنا مِن ذلك؟ ومِن قربنا مِن كتاب الله لنعلمه ونفهمه ونتدبره ونقوم به وندعو إليه وندعو به ونعالج أمر رسولنا؟ ونأخذ نصيبنا مِن الفضل والرحمة والهدى والفرح؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:57-58).

إن مواجهة الفتن العظيمة التي تتزايد مع اقتراب الساعة -والتي تتميز بعنفوان سلطان الكفر والنفاق وظن السيطرة على العالم- تحتاج إلى علمٍ بالقرآن وعملٍ به وقيامٍ به، والسُنَّة موضِّحة لذلك أتم توضيح؛ أما أن نطمع في المنازل العالية دون أن نرتفع إليها ونحن مخلدون إلى الأرض فهيهات؛ إنما يرفعنا الله بآياته.

ودورنا أن نترك الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى، والتخلص من الروابط الأرضية والعوائق الطينية، والعَقَبات الشيطانية، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:175-176)

رمضان وعشره الأواخر فرصة عظيمة لهذه التهيئة؛ فأدرِكوا ما تبقى منها، بارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة