الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد -22

هل الديمقراطية ديمقراطية؟ (1-4)

الفساد -22
علاء بكر
السبت ٢٧ يوليو ٢٠١٩ - ٢١:٣٩ م
718

الفساد -22

هل الديمقراطية ديمقراطية؟ (1-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالدولة الأوروبية المدنية الحديثة دولة علمانية ديمقراطية قومية، تقوم على فصل الدين عن الدولة، وحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، مع النظرة القائمة على الوطنية والقومية.

وهذه المفاهيم للدولة الحديثة في أوروبا هي نتاج لرفض ما عانى منه الأوروبيون في العصور الوسطى -عصور التخلف والاستبداد عندهم- مِن:

1- الاستبداد الديني المتمثل في تسلط الكنيسة التي حرفت النصرانية، وحولتها إلى صكوك غفران وعقوبات بالحرمان، وتعاليم مفروضة يمتلكها البابا ورجال الكنيسة، وأعطت الكنيسة لنفسها حق معاقبة كل مَن يخالف تعاليمها المحرفة مِن خلال محاكم تفتيش تمادت في التعذيب والتنكيل والقتل، بما يعجز اللسان عن وصف بشاعته، وترتجف القلوب والأبدان عند سماع تفاصيله، وحاربت العلم والعلماء فضلًا عن غيرهم، فتسلطت الكنيسة على العباد تحليلًا وتحريمًا، متهمة كل مَن يخالفها في رأي أو معتقد بالهرطقة والتجديف، فجعلوا أنفسهم أربابًا مع الله -تعالى-، وهو ما جاء القرآن الكريم ببيانه والتنبيه إليه، منذ قرونٍ طويلةٍ، قال -تعالى- في شأنهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:13)، وفي الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم وكان نصرانيًّا فأسلم: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟) قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وهو دينهم الذي ما زالوا عليه، وإن تفاوتت درجة عبادتهم.

2- الاستبداد السياسي المتمثل في تسلط قلةٍ مِن الأباطرة والملوك مِن أسر تتوارث حكمًا مطلقًا يتحكمون به في رقاب العباد، بمباركة البابا والكنيسة؛ لا يملك أحدٌ أن يراجعهم فيه.

3- الاستبداد الإقطاعي الذي تمثَّل في سيطرة الإقطاعيين وهم قلة مِن الأمراء والنبلاء وكبار رجال الدولة والأغنياء على الأراضي الزراعية ومَن عليها؛ إذ إن الغالبية كانت معدومة وبمنزلة العبيد، لا يتمتعون بأي حقوق، ليس أمامهم إلا الطاعة والانقياد والتعب والشقاء في مقابل الفتات.

جاءت الثورة الصناعية في أوروبا، وظهرت نهضة علمية وفكرية متأثرة بالتقدم العلمي للكبير للحضارة الإسلامية المزدهرة وقتها، لتحمل أوروبا إلى عالمٍ جديدٍ، ثم جاءت الثورة الفرنسية والتطورات الكبيرة بعدها لتحمل أوروبا إلى استبعاد دور الدين في تسيير أمور المجتمع، وتقضي على الحكم المطلق للملوك والأباطرة، وتفتح الباب للحريات في كل المجالات، من خلال العلمانية المادية والديمقراطية السياسية، في إطار قومي.

العودة إلى الجذور اليونانية:

عندما سعت أوروبا للنهضة تمثلت ما كانت عليه الحضارة الرومانية القديمة المادية، مِن خلال فكر فلاسفتها القدامى، لتجدده في صورة جديدة، وقد أعماها الصراع الديني مع المسلمين عن الاهتداء إلى الإسلام -الدين الحق- بعد نبذها للكنيسة المحرفة، وأبعدها الحقد الدفين عن الأخذ بما كانت عليه المجتمعات الإسلامية من حرية في التملك والتنقل، والرأي والفكر بدرجة سمحت بالاختلاف والتعدد، سواء تعدد الفرق في مسائل الاعتقاد، أو تعدد المدارس في الفقه، بشكلٍ باهرٍ لا تخطئه العين، لم تكن تعرفه أوروبا ولا تحلم به في ظل ما عانت مِن استبداد، هذا رغم تعدد صور الاحتكاك والتعامل مع المسلمين خلال الحروب الصليبية المتتالية، والتبادل التجاري، وتلقي العلم على أيدي العلماء المسلمين في شتى فروع العلم، خاصة في الأندلس، وفي شرق أوروبا وجنوبها.

ما المراد بالديمقراطية؟

هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فيتخذ قراراته فيما يتعلق بشئونه مِن خلال ما تذهب إليه الأغلبية، بعيدًا عن استبداد فئة أو قلة أو فرد بشئون الحكم، وقد عرَّفها (مونتسكيو) بأنها: "حينما يكون الشعب في مجموعه السلطة السيادية العليا"، ويعرف (مارسيل بريلو) النظام الديمقراطي بأنه: "هو ذلك النظام الذي يحقق مشاركة غالبية الشعب فينشئون السلطة العليا على نحو فعال وحقيقي بحيث تكون للشعب الكلمة العليا"، بينما عرَّفها الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن) عام 1863م بأنها: "هي حكم حكومة الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب" (انظر: "الديموكتاتورية ومدى ديمقراطية الديمقراطية: دراسة سياسية"، تأليف د. علي الباز أستاذ القانون العام - ط. دار السفير المنشية، ط. أولى 2014 م - 1435 هـ، ص 27).

الديمقراطية القديمة يونانية الأصل:

تُنسب الديمقراطية القديمة إلى الإغريق، وعندهم مصطلح الديمقراطية يتكون مِن مقطعين (ديموس): وتعني الشعب، و(كراتوس): وتعنى حكم، فيكون معناها: حكم الشعب.

وقد ظهر هذا المصطلح في القرن الخامس قبل الميلاد؛ إذ كان الشعب في المدن -خاصة أثينا- يحكم نفسه بنفسه مباشرة، مِن خلال أفراد يتمتعون بصفة (المواطنة) يجتمعون للبت في أمورهم مباشرة، فيما يُعرف باسم: (جمعية الشعب)، وقد كان مِن شروط هؤلاء المواطنين عندهم: أن يكون مِن الأثينيين لا مِن الأجانب، ومن الأحرار لا من الأرقاء، ومن الذكور لا من الإناث، وأن لا يقل عمره عن عشرين سنة.

هل كانت الديمقراطية الأثينية ديمقراطية؟

إذا كانت الديمقراطية هي مشاركة الشعب والأخذ برأي الأغلبية، فهذا لم يكن متوفرًا في ديمقراطية أثينا، قال د."علي الباز" الأستاذ في القانون العام: "ولم يكن يتجاوز عدد المواطنين -بالشروط السابقة- عشرين ألفًا، أي 10 % مِن سكان المدينة، أما الأغلبية الساحقة في المدينة فكانوا من الأجانب، ومن العبيد الأرقاء، والعجيب: أن أرسطو كان يرى أن نظام الرق كان شرطًا ضروريًّا لقيام تلك الديمقراطية المباشرة! حتى يتيح للمواطنين الوقت الكافي لمزاولة واجبهم الديمقراطي في جمعية الشعب. وإذا كانت الديمقراطية الأثينية بهذه الصورة التي يتحكم فيها القلة في الكثرة، فإنها إذًا لم تكن حكمًا للشعب ولا لأغلبية الشعب، كما أنها كانت ديمقراطية جوفاء لا حرية فيها، إلا الحرية السياسية للمواطنين، أما الحريات الفردية كالحرية الشخصية وحرية التملك، إلخ، فلم تكن موجودة، لا للمواطنين ولا لغير المواطنين، وسلطة الدولة كانت مطلقة" (راجع: "الديموكتاتورية ومدى ديمقراطية الديمقراطية: دراسة سياسية"، تأليف د.علي الباز، ص 39).

الديمقراطية الغربية:

يمكن اعتبار قيام الثورة الفرنسية عام 1789م بداية الديمقراطية الغربية، حيث صاحب ذلك الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، وتضمنت الدساتير الفرنسية بعد الثورة العديد مِن المبادئ المرتبطة بالديمقراطية، والتي انتقلت منها إلى غيرها من الدول الأخرى.

ويذهب بعض الباحثين أن انتشار الديمقراطية في العالم تم على أربع موجات:

الأولى: في أعقاب الثورتين: الفرنسية والأمريكية، وصاحبها بداية التحول للديمقراطية في أوروبا في معظم القرن التاسع عشر الميلادي، وأول عقدين في القرن العشرين، وكان محصلتها نحو 29 دولة ديمقراطية.

الثانية: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، والتي شهدت إعادة انتشار الديمقراطية في غرب أوروبا واليابان والهند، وبعض الدول المستقلة حديثًا، وبلغت ذروتها مع مطلع الستينيات، وبلغ فيها عدد الدول الديمقراطية 36 دولة.

الثالثة: في أوائل السبعينيات وحتى عام 1990م، التي شهدت ثورة للديمقراطية شملت ما لا يقل عن ثلاثين دولة، منها دول في جنوب أوروبا وأسبانيا والبرتغال، ودول في أمريكا الوسطى والجنوبية، والكثير من الدول الإفريقية.

الرابعة: بعد عام 1990م وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، الذي شهدت أخذ العديد من دول أوروبا الشرقية بالديمقراطية، مثل: سلوفاكيا وكرواتيا وصربيا وأوكرانيا.

وقد تخلل ذلك موجتان من الردة عن الديمقراطية:

الأولى: مع وصول موسوليني للسلطة في إيطاليا عام 1922م، وفيها تقلص عدد الدول الديمقراطية في العالم من 29 دولة إلى 12 دولة بحلول عام 1942م.

الثانية: في الفترة بين عام 1960م وعام 1975م، وفيها تقلص العدد من 36 دولة إلى 30 دولة.

وتختلف الديمقراطية الغربية عن الديمقراطية القديمة في أمر مهم، هو ارتباط الديمقراطية الغربية باحترام وكفالة حقوق وحريات الأفراد، وهو ما لم تشترطه الديمقراطية القديمة في أثينا، فالديمقراطية في العصر الحديث مذهب سياسي فلسفي ظهر في كتابات الفلاسفة والمفكرين، مثل: (جون لوك) في إنجلترا، و(جان جاك روسو) في كتابه: (العقد الاجتماعي)، و(مونتسكيو) في فرنسا في كتابه: (روح القوانين)، يقوم على محاربة الحكم الاستبدادي المطلق الذي كان سائدًا في أوروبا وقتها، خاصة في فرنسا وإنجلترا.

قال د. علي الباز: "وقد قال: (جون لوك) في القرن السابع عشر بأنه ليس من حق الملك أن يزعم أن سلطانه مستمد من الله؛ إذ هو مستمد مِن الشعب، ويلزم مِن ذلك: أن يكون سلطانه نسبيًّا وليس سلطانًا مطلقًا، كما قال (لوك): إن الفوضى ليست البديل الوحيد للاستبداد، فهناك الحكم الدستوري المقيد الذي يمنع الفوضى والاستبداد معًا، وأن المواطنين يتنازلون عن جزءٍ مِن حريتهم للحكام مِن أجل حفظ الأمن ورعاية المصالح المشتركة في إطار ديمقراطي، وأن هذا التنازل عن بعض الحريات الفردية للسلطة مقيد بعقدٍ متفق عليه بين المواطنين والحكام، أن شرعية الحكام ليس لها مكان إذ لم يوجد مثل هذا العقد. وقد أثرت أفكار لوك على القادة الأمريكيين: مثل: (توماس جيفرسون: 1743م - 1826 م) ثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان له دور في الثورة الأمريكية ضد التاج البريطاني في عام 1776م.

ففكرة العقد الاجتماعي كان لها الأثر الكبير في الانتقال للنظام الديمقراطي، تلك الفكرة الموغلة في القدم، والتي تطورت وظهرت بمفهومها الحديث في كتابات القرنين: السابع عشر والثامن عشر، خاصة في كتابات (توماس هوبز) و(جون لوك) و(جان جاك روسو) وغيرهم، ونتيجة لكتاباتهم سادت نظرية العقد الاجتماعي، ونجحت في أن تؤثر تأثيرًا بالغًا في كلٍّ مِن انجلترا وفرنسا وأمريكا، فتطورت النظم الديمقراطية في هذه الدول وغيرها، وتحول هذا المذهب الفلسفي إلى واقع، ودخل مرحلة التطبيق كنظام للحكم في كلٍّ مِن أمريكا في دستورها الاتحادي 1787م، وفي فرنسا بعد ثورتها 1789م، وفي إنجلترا في ثورتها على الملكية المطلقة فيها" (راجع: الديموكتاتورية، ص25 - 26)، و"الديمقراطية وإن كانت تعني حكم غالبية الشعب فإنها تعني أيضًا: حق المعارضة -وهي الأقلية- وشرعيتها كذلك، فللقلة حق المعارضة، وعلى حكم الأغلبية أن يحترم رأي القلة، وأن يوفِّر لها السبل إلى تكوين الهيئات والأحزاب التي تعبِّر بها عن رأيها، وكذلك أن يحترم ويصون حريتها في التعبير، واحترام هذه الحريات تأتي تجسيدًا لفلسفة الديمقراطية التي تكمن في الحقوق الطبيعية للأفراد، فالديمقراطية مذهب فردي نشا منذ بدايته لكي يعلي مِن قيمة الفرد، ويسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المزايا له، وصيانة حقوقه وحرياته، وأن الفرد هو غاية الجماعة" (المصدر السابق، ص 31 بتصرف).

صور الديمقراطية:

للديمقراطية ثلاث صور:

1- الديمقراطية المباشرة:

ومثالها الشهير ما كان في المدن الإغريقية خاصة أثينا، ويعتبرها (روسو) -وهو مِن أكبر أنصارها- الصورة الوحيدة للديمقراطية، إذ كان (روسو) يرفض النظام النيابي في إنجلترا، ويرى أن نواب الشعب بعد انتهاء الانتخابات لا يعدون ممثلين حقيقيين للشعب، فهم بعد انتهاء الانتخابات لا سلطان للشعب عليهم، فلا يتقيدون بمراعاة توجهات وآراء مَن اختاروهم.

وكيفية الديمقراطية المباشرة: أن يجتمع أفراد الشعب كلهم فيما يسمَّى: بـ(جمعية الشعب)؛ للنظر في التشريعات والأمور.

ويؤخذ على تطبيق هذه الصورة:

1- أن جمعية الشعب كان تقتصر تقريبًا على 10% مِن السكان، متمثلة في الذكور الأحرار فوق عمر العشرين مِن السكان لا الأجانب، مع تغيب البعض للانشغال بأعمالهم، فهي لا تمثِّل الغالبية.

2- عدم نضج كل هؤلاء الأفراد للنظر في أمور الحكم والسياسة.

3- وجود بعض الأمور التي تمس المصالح العليا للبلاد، تتطلب السرية في بحثها ومناقشتها، ولا يمكن عرضها على كل أفراد الشعب في اجتماعاته العلنية.

4- استحالة تطبيق ذلك في العصر الحديث؛ نظرًا لزيادة أعداد سكان الدول بحيث يستحيل -أو يصعب جدًّا- اجتماعهم جميعًا في مكانٍ واحدٍ -أو عدة أمكنة- عددًا معينًا مِن المرات للنظر في أمرٍ مِن الأمور المهمة كأمور الحرب والسلام والمعاهدات، أو وضع قوانين وتشريعات تطبق، أو مراقبة عمل الهيئات المسيرة للدولة.

قال د."علي الباز": "قد توصف حكومة أثينا والحكم فيها بما يطلق عليه الفقهاء الحكومة الاستبدادية أو الحكومة المطلقة أو حكومة القلة، ذلك أن القلة كانت هي التي تتحكم في الأغلبية، بل وتستبد بها وبحريتها... إلا أنه لا يمكن إطلاقًا أن نصف هذا النظام الأثيني بأنه ديمقراطية أو ديمقراطية مباشرة" (المصدر السابق، ص 37 بتصرفٍ يسيرٍ).

والخلاصة أنه: "إذا كانت الديمقراطية المباشرة هي أكثر النظم كمالًا مِن الناحية النظرية، فإنها أشدها عسرًا مِن الناحية العملية" (المصدر السابق، ص 36).

2- الديمقراطية غير المباشرة:

بدأ تطبيق هذه الصورة في إنجلترا، وتتمثل في اختيار -أو انتخاب- الشعب نوابًا -أو ممثلين- عنه لكي يكوِّنوا المجلس النيابي: (مجلس نواب أو مجلس شعب أو برلمان)، وهو الذي يتولى لمدة فترة زمنية محددة، أعمال التشريع والرقابة، فالشعب -مصدر السلطات- لا يتولى حكم نفسه بنفسه، بل بواسطة النواب الذين يختارهم.

علاقة النائب بمَن اختاره نائبًا عنه:

رغم الاختلاف حول تكييف العلاقة التي تربط بين الناخب والنائب الذي اختاره: هل هي وكالة إلزامية أم وكالة عامة أم مجرد اختيار؟ فإن الواقع العملي: أن النائب يمثِّل الأمة كلها وليس دائرته، والبرلمان في مجموعه وكيل عن الأمة، وهو لا يتقيد بالناخبين، وليس ملزمًا بتقديم حساب عن أعماله لهم، ويبقى أن للناخبين إعادة انتخاب نفس النائب في الانتخابات التالية أو لا؟ أي أن مهمة الناخبين تنتهي بمجرد اختيارهم للنواب، ويتمتع النواب بعد ذلك بالاستقلال التام عن الناخبين!

فمدار النظام النيابي: على أن أعضاء البرلمان غالبيتهم منتخبون بواسطة الشعب، مع إمكانية تعيين أعضاء في البرلمان بنسبة قليلة غير مؤثِّرة؛ لسد حاجة البرلمان من المتخصصين وأصحاب الخبرات ممن لم يتقدموا بالترشح لدخول البرلمان، وهذا البرلمان له سلطات حقيقية مؤثرة في ممارسة الدور التشريعي والسياسي والرقابي، فليس المجلس مجلسًا استشاريًّا لا تأثير فعال له، وقد استقر الأمر على أن عضو البرلمان يمثل الأمة كلها، فقد انقضى العهد الذي كان فيه النائب يمثِّل دائرته الانتخابية بالوكالة، أي مِن حق الناخبين إلزام النائب بتعليمات، أو مِن حقهم عزله متى شاءوا، فلا مجال حاليًا للقول بالوكالة الإلزامية، فالنائب بعد انتخابه أصبح ممثلًا للأمة بأسرها يراعي مصالحها كلها، والبرلمان يمارس مهامه بصورة مستقلة، وأعضاء البرلمان ليسوا ملزمين -من الناحية الدستورية والقانونية- بأن يعودوا للشعب للتعرف على إراداته ورغباته في كل ما يتقرر في البرلمان، وإن أوجبت عليهم الاعتبارات السياسية استمرار صلاتهم بالشعب للتعرف على اتجاهات الشعب الحقيقية تجاه القضايا الوطنية المختلفة. والبرلمان المنتخب له مدة زمنية محددة يتم بعدها إعادة انتخاب أعضاء البرلمان من جديد؛ مما يعطي الفرصة للشعب لتجديد أو لعدم التجديد لعضوية البرلمان إعمالًا لرقابة الشعب على مَن يمثله، ومنعًا لمظنة الاستبداد.

هل تضمن هذه الصورة تحقيق الديمقراطية؟

الواقع العملي يشير إلى:

1- أن نسب مشاركة الشعب في العملية الانتخابية نسب ليست كبيرة: فهي غالبًا تقل عن نصف عدد المسموح لهم بالانتخاب، والفائز فيها يحصل على نسبة منها لا كلها، أي أن نسبة الأصوات التي حصل عليها لا تمثل أغلبية مجموع أصوات الشعب، وهذا لا يتناسب مع زعم أن نتائج الانتخابات تدل على رأي الأغلبية وتعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية.

2- إن هذه الانتخابات قد تفتقد ضمانات السلامة: لغياب الوعي السياسي، والإخلاص الوطني عند البعض، مما يجعل مِن اليسير على بعض المرشحين التأثير على عواطف الكثير مِن جماهير الناخبين

- ولسيطرة الشخصيات القيادية التي تتمتع بالحضور الجماهيري على العامة، وبالتالي: القدرة على توجيههم في اختيار مرشحين دون تفكير أو تمحيص.

- لافتقاد العملية الانتخابية للسلامة والنزاهة، خاصة في دول العالم الثالث، التي لا تخلو من تدخلات عديدة للتأثير على نتائج هذه الانتخابات، بدءًا مِن التلاعب في تحديد الدوائر الانتخابية وتوزيعها، إلى التلاعب في كشوفات الناخبين، إلى استخدام محترفي الانتخابات لأساليب ملتوية لكسب الأصوات ولو بالشراء بالمال.

- لافتقاد الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية من أولها إلى آخرها رسميًّا أو واقعيًّا.

- لعدم حيدة الحكومة؛ خاصة إذا كانت هي الوجه التنفيذي للحزب الحاكم، فتتدخل في العملية الانتخابية لصالح جهة أو حزب أو أفراد بأساليب ووسائل مختلفة، وبإغراءات ووعود مادية ومعنوية عاجلة أو آجلة لها تأثير على العملية الانتخابية بصورة سرية أو علنية، وهي أمور لا تخلو منها حتى الدول الغربية بصورة سرية، فإذا انكشفت تحولت إلى فضيحة سياسية، كما في فضيحة (ووترجيت) في أمريكا، والتي أجبرت الرئيس الأمريكي المنتخب على التنحي عن الحكم، وآخرها ما أثير حول تدخلات غير قانونية في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وفوز الرئيس الأمريكي (ترامب) فيها.

- للدور الإعلامي غير النزيه المؤثر على العملية الانتخابية بوسائله المختلفة مِن إذاعة وتليفزيون، وجرائد ومجلات، ووسائل إعلان واتصال إلكترونية مختلفة ومتنوعة، حكومية أو حزبية أو مملوكة لأفراد، ومعلوم كم أدت هذه الوسائل الإعلامية مِن أدوار مشبوهة في الانتخابات في دول العالم بلا استثناء.

ويلاحظ فوق ذلك:

إن استقلال النائب قد يجعله يمثِّل مصالحه أو مصالح حزبه أو جماعته دون قدرة على محاسبته، مما يجعل النائب يترك قرارًا يطمئن إليه كممثل عن الأمة لموافقة توجه حزبه الذي ينتمي إليه، إذ يمكن أن يحاسب داخل حزبه على مخالفة توجه الحزب في مجلس النواب.

- إن الأحزاب السياسية يسيطر عليها شخصيات قيادية تفرض توجهاتها على الحزب، وبالتالي على مَن يمثله مِن نواب في البرلمان، فيصبح البرلمان منفذًا لتوجهات قلة حزبية تتحكم في الأمور.

3- الديمقراطية شبه المباشرة:

نظرًا لأن الديمقراطية النيابية لا تسمح للشعب بالتدخل في أعمال المجالس النيابية بعد انتخابها، فإن بعض الأنظمة تسمح بصور متفاوتة من مشاركة الشعب في الحكم بعد الانتخاب، منها: الاستفتاء الشعبي، والاعتراض الشعبي، وحق إقالة النائب، وحق عزل رئيس الجمهورية، من خلال وسائل وآليات في الدستور والقانون، ووجود مظهر واحد منها يكفي لوصف النظام بالديمقراطية شبه المباشرة.

إن العديد من المفكرين الغربيين يرون أن نتائج الانتخابات في النظام الديمقراطي لم تعد تمثِّل الشعوب تمثيلًا صادقًا، بل حوَّلت هذه الانتخابات الحكم إلى حكم أقلية لا أكثرية، إذ صارت تمثل قلة مِن قيادات سياسية أو حزبية، ولكن يرون مع ذلك أن الديمقراطية واقع لا مفر منه، ولا بديل عنه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة