الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

قوقعة العزلة

هذه القاعدة التي وضعها عمر -رضي الله عنه- ما زالت متبعة حتى اليوم في أرقى الدول

قوقعة العزلة
كتبه/ عصام زهران
الأربعاء ٠٤ سبتمبر ٢٠١٩ - ٢١:٤١ م
697

قوقعة العزلة

كتبه/ عصام زهران

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال ابن القيم -رحمه الله- في باب معرفة الناس في "إعلام الموقعين": "فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المُفتي والحاكم؛ فإن لم يكن فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح؛ فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر، له معرفة بالناس، تصوَّرَ له الظالمُ بصورة المظلوم وعكسه، والمُحقُّ بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصوَّرَ له الزنديق في صورة الصدِّيق، والكاذبُ في صُورة الصادق، ولبس كل مُبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يُميِّز هذا من هذا، بل يَنبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخِداعهم واحتيالهم، وعوائدهم وعُرفياتهم؛ فإن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، والعوائد والأحوال، وذلك كله مِن دين الله".

وقد أرسلتُ عدة رسائل لأحد الأفاضل عن رؤيتنا في الأحداث الجارية، وكيف يمكر الناس بعضهم ببعض؛ حتى يكون على دراية حقيقية بما يحدث، فإذا به يقول لي: "أخي الحبيب، لا ترسل لي بمثل هذه الرسائل؛ فإن قلبي يضيق بها ذرعًا؛ فأنا أهتم بالقرآن... ".

والعجيب: أن هناك عددًا مِن الأفاضل لا يريد أن يسمع عن تفاصيل اختياراتنا ولا سياساتنا في القضايا المعاصرة شيئًا، ثم إذا به ينطلق انطلاقًا غاشمًا، كالذي يطأ على أولاده إذا سقط أحد أركان بيته، فتراه يُصرح في كل قضية بغير علم ولا دراية بمآلات الأمور -والمقصود بالعلم ليس العلم الشرعي فحسب-، وإنما العلم بالوقائع الصحيحة الصادقة مِن مصدرها الحقيقي؛ دون تأثير مِن إعلام مضل أو عاطفة.

إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا اجتمع إليه جيش مِن أهل الإيمان أمَّر عليهم رجلًا مِن أهل الفقه والعلم، وكان عمر يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، وكان التفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر كانوا أفضل دينًا، وأكثر ورعًا، وأكرم أخلاقًا، ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم؛ فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معًا.

وهذه القاعدة التي وضعها عمر -رضي الله عنه- ما زالت متبعة حتى اليوم في أرقى الدول؛ ذلك بأن المتدين الورع الخلوق إذا لم تكن له بصيرة في شئون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء المضللين، أما المحنك المجرب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ وما وراء الألفاظ من معانٍ، وهذا هو السبب الذي دعا عمر بن الخطاب لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملًا فقيل له: "إِن فُلانًا لا يَعْرِف الشَر. فقال: ذلك أحْرَى أن يَقَع فيه" (العقد الفريد).  

وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة، والعلم والكفاية، وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الحكم والإدارة، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سماه عمر بن الخطاب: "البصر بالعمل".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة