الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد -27

منظمات المجتمع المدني أداة للإصلاح والتغيير أم وسيلة للإفساد؟ (3-3)

الفساد -27
علاء بكر
السبت ٠٧ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٨:٢٧ م
791

الفساد -27

منظمات المجتمع المدني أداة للإصلاح والتغيير أم وسيلة للإفساد؟ (3-3)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن منظمات المجتمع المدني هي جزء مِن ظاهرة العولمة، حيث يتعاظم دورها مع تقلص دور الدولة وانسحابها المتزايد مِن أداء بعض أدوارها الاقتصادية أو الاجتماعية في المجتمع، بإقلالها مِن تقديم الخدمات المجانية أو منخفضة التكاليف التي يحتاج إليها الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة، كما أن لهذه المنظمات أيضًا دورًا في التعامل مع الآثار السلبية للعولمة على المجتمع، وهي بعد ذلك يمكن أن تكون جزءًا مِن ثورة اجتماعية يقودها النخب تعقب لحظة انهيار النظم الشمولية والاستبدادية.   

وهذه المنظمات تلقى دعمًا وتأييدًا معنويًّا، بل وتتلقى تمويلًا ماديًّا جزئيًّا مِن قِبَل المنظمات والمؤسسات العالمية الاقتصادية خاصة التي تروج للعولمة والديمقراطية والخصخصة، وتوفِّر هذه المنظمات المشاركة الشعبية للأفراد لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولتحقيق الأمن للأفراد في مواجهة ظلم أو تسلط مؤسسات الدولة، وفهم المجتمع المدني مرتبط بتفهم العلاقة بين المواطن كفردٍ، والمجتمع ككل والدولة كسلطة.

الثقافة المدنية:

تمثِّل الثقافة المدنية واحدًا مِن أهم مقومات المجتمع المدني، فالمجتمع المدني لا ينشط فقط بوجود هياكله التنظيمية المستقلة عن الدولة، بل لابد أن يسبقها ويعززها ثقافة تشدد على -وتضغط في اتجاه- تقييد السلطات بحدود معينة في التعامل مع المواطنين، ومراعاة حقوقهم في التنظيم والتعبير، وفاعلية المجتمع المدني تتوقف على مدى وجود هذه الثقافة المدنية، المتمثلة في منظومة الأفكار والقيم والاتجاهات السائدة التي تؤثر على مدى فاعلية المجتمع المدني وقوته.

ومِن أهم مكونات مفهوم الثقافة المدنية:

1- الإدارة السلمية للخلافات والصراعات:

مِن خلال قيم التسامح وقبول التنوع والاختلاف، وإدارة هذه الاختلافات سلميًّا، وهى قيم تتناسب مع التحول الديمقراطي.

2- العمل التطوعي:

فمع غياب هدف الربح يتحول العمل إلى عمل يقدِّم فيه الأعضاء وقتهم وخبرتهم مِن أجل خدمة المجتمع وتحقيق أهداف ومصالح عامة معينة دون انتظار أي مقابل مادي.

3- الشفافية والمحاسبة:

وشفافية المؤسسات المدنية تعني المصداقية أمام الرأي العام والحكومة، والقطاع الخاص والمنظمات الدولية، مِن خلال الإعلان عن النشاط وأهدافه ومصادر تمويله، وكيفية إنفاقه، والانفتاح أمام المجتمع ككل.

والمحاسبة تتمثل في إمكانية محاسبة القيادات والمسئولين عن نشاطهم الوظيفي وأدائهم، ووجود هذه الشفافية وهذه المحاسبة يجنبان أي مؤسسة تهمة أي فساد مالي أو نشاط غير قانوني أمام أي جهات داخلية أو خارجية.

التوسع في المجتمع المدني:

شهدت مصر في العقود الثلاثة الأخيرة زيادة غير مسبوقة في تكوين الجمعيات والمؤسسات المدنية، حيث ارتفعت أعداد الجمعيات الأهلية بنسبة 5.5 % ما بين عامي: 2007 م و2010 م، ثم تزايدت زيادة أكبر بعد ثورة 25 يناير حيث تم تسجيل زيادة بلغت نسبتها 13 % في أعداد تأسيس الجمعيات الأهلية، علمًا بأن هذا التوسع في التسجيل تم في إطار قانون للجمعيات الأهلية وجِّه إليه الكثير مِن الانتقادات منذ صدوره، إذ كان يعده البعض عائقًا لإنشاء وتسجيل الجمعيات الأهلية؛ ولهذا فإن هناك الكثير من الجمعيات الأهلية غير مسجلة تم تكوينها خارج نطاق هذا القانون، وهناك الكثير من الشركات تعمل بدون ترخيص، ويبرر هؤلاء وهؤلاء عدم التسجيل أو عدم الحصول على الترخيص، أو عدم توفيق أوضاعهم قانونيًّا بسلبيات قانون الجمعيات الأهلية، وأيضًا: بسبب البيروقراطية المصاحبة له، ويعلقون تغيير موقفهم على تغيير القانون أو تعديله أو إلغائه، وأشهر مَن اتخذ هذا الموقف -بعد ثورة 25 يناير- جماعة الإخوان المسلمين التي رفضت توفيق أوضاع الجماعة طبقًا لقانون الجمعيات الأهلية، أي الاحتفاظ بازدواجية بقاء الجماعة تمارس نشاطها غير المسجل وغير المرخص إلى جانب بقاء حزبها السياسي الذي أسسته، حزب الحرية والعدالة.

ولا يخفى أن تكوين هذه الأعداد الكبيرة من الجمعيات الأهلية لا بد أن يكون مرتبطًا بأمور كثيرة يلزم توافرها من القدرات المالية والخبرات الفنية والتنظيمية، إلى جانب وجود ثقافة التطوع وروح العمل التطوعي والثقافة المدنية.

قدم العمل التطوعي في مصر:

إن العمل التطوعي -وهو جوهر عمل المجتمع المدني- قديم جدًّا في المجتمعات الإسلامية عامة والعربية خاصة، ومنها المجتمع المصري الذي كان دائمًا سباقًا في هذا المضمار، فالأوقاف الإسلامية سمة مِن سمات المجتمعات الإسلامية منذ ظهور الإسلام، وتكوين الروابط للطوائف المهنية مِن العمال والحرفيين قديم ومشهور تاريخيًّا، في شكل روابط من كبار التجار ومشايخ الحرفيين، الذين يتولون أمور وقضايا الدفاع عن مصالح وحقوق هذه الفئات خاصة في مقابلة مظالم السلطة الحاكمة أو تعنتها؛ لذا فإن نسبة الجمعيات الأهلية التي تعمل في المجال الخيري والخدمي في مصر تتعدى 80 % من عدد الجمعيات الأهلية؛ إذ إن هذه النوعية من الجمعيات هي الأسبق تاريخيًّا في الظهور، وهي الأغلب في جذب المتطوعين للمشاركة فيها من أفراد المجتمع.

التمويل الأجنبي للجمعيات المصرية:

عندما رأى البعض الحاجة إلى وجود منظمات حقوقية بدأ تأسيس العديد مِن هذه الجمعيات، خاصة بعد ظهور حركات احتجاجية أو مع الدخول في صدام مع السلطة الحاكمة، وما ترتب عليها مِن اعتقالات لمتظاهرين أو لنشطاء، ووجود معتقلين سياسيين، وحاجة أغلبهم إلى مساندة قانونية ودفاع، حيث تأسست أول جمعية حقوقية في مصر في الثمانينيات بعد تأسيس منظمة تضامن في بولندا، وهي المنظمة التي قادت التغيير السياسي في بولندا كما ذكرنا من قبل، ويعتبرها محللون غربيون وأمريكيون نموذجًا يجب على منظمات المجتمع المدني في الدول العربية الاقتداء به؛ لتحقيق الإصلاح السياسي وتحقيق الديمقراطية.

وقد ارتبط وجود هذه النوعية مِن الجمعيات بتشجيع ودعم وتمويل مالي خارجي من خلال قناعة عند الغرب بأهمية وجود ودعم هذه الجمعيات لدورها كآلية مِن آليات تحقيق الديمقراطية.

وآخر رصد لهذا النوع من الجمعيات يبيِّن أن عددها بلغ نحوًا مِن 237 جمعية، من بينها 170 جمعية مسجلة، منها 148 جمعية لحقوق الإنسان، و14 جمعية للتوعية بالحقوق الدستورية، و8 جمعيات للتنمية الديمقراطية، والباقي أي نحو 67 جمعية غير مرخصة أو مسجلة لدى وزارة الشئون الاجتماعية، بعضها مسجل كشركات في إطار قانون الشركات (راجع أسرى المال السياسي، ص 82 -86).

وجدير بالذكر أن هناك منظمات أجنبية تعمل في مصر بشكل قانوني بلغ عددها حتى نهاية عام 2011م نحو 800 منظمة، من بينها: 23 منظمة أمريكية، كما أن هناك منظمات أخرى أجنبية غير مسجلة، أي تعمل بشكل غير قانوني، في مقدمتها المنظمات الأمريكية الثلاث: المعهد الديمقراطي والمعهد الجمهوري وبيت الحرية، والتي قدمت بعض فروعها بالقاهرة للمحاكمة في فترة من الفترات (المصدر السابق، ص 22).

وهذه المنظمات الأهلية -المسجلة وغير المسجلة- الباب أمامها مفتوح للحصول على تمويل أجنبي، فمنها 158 جمعية أهلية حصلت على موافقات من وزارة الشئون الاجتماعية للحصول على أكثر من نصف مليار جنيه خلال عام 2011م، وقد سجلت تقارير وزارة التعاون الدولي تمويلًا أمريكيًّا لمنظمات المجتمع المدني المصرية والأجنبية بنحو 95 مليون دولار خلال نفس العام 2011م (المصدر السابق، ص 22).

يقول الكاتب عبد القادر شهيب في كتابه: (أسرى المال السياسي): "إن المال السياسي الذي تدفق علينا بغزارة بعد ثورة 25 يناير، في ظل وهم البعض أن الدولة المصرية تعاني وهنًا سيجعلها تغض الطرف عن ذلك، يضر المجتمع المدني المصري ولا يفيده، يضعفه ولا يقويه. أما التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني الذي يتم علنًا وتحت بصر الرأي العام وبمعرفة الجهات المختصة فهو لا غبار عليه، بل إنه مطلوب نظرًا؛ لعدم كفاية التمويل المحلي للجمعيات الأهلية في مصر، بينما التمويل السياسي الأجنبي يضع الجمعيات أو الجهات التي تتلقاه أسيرة لمن يمنحه لها؛ لذلك صرنا نرى جمعيات تغير نشاطها وفقًا لنوع التمويل، أو جمعيات تقدم معلومات مغلوطة وتقارير مضروبة تسوغ بها استمرار هذا التمويل، أو جمعيات لا تفعل أكثر من إعداد نشرات دعائية لتمجيد المانحين ومعوناتهم، أو جمعيات تتورط في فساد، وهي تنفق هذا المال الذي حصلت عليه سرًّا" (المصدر السابق، ص 73).

ويضيف: "المال السياسي يتعين أن نرفضه أيًّا كان مصدره"، "المال السياسي مرفوض مهما كانت جنسية مانحه... أمريكيًّا أو أوروبيًّا أو عربيًّا أو حتى إيرانيًّا، نحن لن نرقى بالمجتمع المدني في بلدنا الذي يعد ركيزة من ركائز الديمقراطية بالمال السياسي الأجنبي أو بالتمويل الأجنبي السري" (المصدر السابق بتصرف).

التمويل الأجنبي وأمن مصر:

قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني من القضايا الخطيرة بالنسبة لأمن الأمة المصرية في ظل الرغبة العارمة لدول أجنبية عديدة إقليمية وعالمية للتدخل في شئون مصر والقيام بأدوار فيها.

إن التمويل الخارجي للجمعيات والمنظمات غير الحكومية أمر غير مرفوض خاصة مع حاجة الكثير منها للدعم المالي والتمويل في ظل أنشطتها المتعددة وأدوارها الكبيرة، ولكن ذلك مشروط بضوابط في مقدمتها أن يكون هذا التمويل لمنظمات وجمعيات مسجلة بوزارة التضامن معلوم نشاطها ومصرح به، وأن يكون هذا التمويل تمويلًا علنيًّا، معلوم حجمه ووجهته، ولأنشطة معروفة ومصرح بها، مع خضوعها للرقابة والمتابعة -والمسائلة عند اللزوم- مِن الجهات الرقابية المختصة لضمان عدم حدوث أي فساد في الإنفاق.

أما المرفوض مِن التمويل الأجنبي فهو التمويل المقدم للجمعيات والمنظمات غير الحكومية غير المسجلة، والتي لا تصريح لها بممارسة أنشطة، أي لا يعلم على وجه الدقة حقيقة نشاطها، أو أن يكون تمويلها تمويلًا سريًّا غير معلن حجمه ووجهته، ولا يخضع للرقابة والمتابعة والمسائلة، مما يجعله عرضة للإنفاق في الفساد، أو في أنشطة سياسية غير مصرح بها لمنظمات المجتمع المدني، أو في أغراضٍ خفيةِ غير معلنة هي محل شك وريبة، وأسوأ مِن ذلك تقديم هذا الدعم المالي لمنظمات وهيئات أجنبية على أرض مصر، يديرها أجانب أو موالين لهم، وغير مسجلة رسميًّا، ولا يعلم تحديدًا الغرض مِن أنشطتها.

الصدام مع التمويل الأمريكي بعد ثورة 25 يناير:

لقد شهد الشهر الذي تنحى فيه مبارك عن الحكم إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية عن إعادة برمجة نحو 150 مليون دولار من برنامج المساعدات الاقتصادية الأمريكية السنوي لمصر لذات العام (2011م) لمساندة مصرفي تجاوز الخسائر الاقتصادية التي ألمت بها، ودعم عملية التحول الديمقراطي في مصر، ثم أعلنت بعدها وزارة الخارجية الأمريكية عن خطة لتوزيع هذا المبلغ على المدى القصير، ثم قامت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المعروفة مصريًّا بهيئة المساعدات الأمريكية، باتخاذ خطوات أحادية حيث قامت بالإعلان عن قبول طلبات التمويل للهيئات غير الحكومية، مع احتفاظ الوكالة بحق القبول أو الرفض، فتلقت نحوًا من 600 طلبًا مِن منظمات وجمعيات، وقدمت مساعدة لـ(49) منها، في إطار إعادة برمجة المساعدات، تم ذلك رغم الاتفاق المسبق بين الحكومتين المصرية والأمريكية على التنسيق المشترك مع الجهات المصرية المختصة، بما يشعر أن أمريكا قد رأت مصر في ظل حالة الاضطراب بعد ثورة 25 يناير مستباحة.

لقد كان التصرف الأمريكي وقتها مثيرًا للجدل، من خلال تضارب تصريحات السفيرة الأمريكية من جهة والمعلن من الوكالة الأمريكية من جهة أخرى حول كم هذه المساعدات وتفاصيلها، بما يفقدها الدقة، ويظهر الرغبة في عدم الإفصاح عن حقيقتها، وإضفاء السرية عليها، تارة بدعوى اجتياز هذه المنظمات للشروط الأمنية الأمريكية الخاصة بالتعامل مع منظمات المجتمع المدني، وعدم مسئولية أمريكا عن عدم تسجيل مصر هذه المنظمات رسميًّا، وتارة بدعوى رغبة تلك المنظمات الحاصلة على التمويل في إخفاء الأمر تجنبًا للملاحقة الأمنية، وقد تسبب ذلك في دخول القاهرة في معركة صامتة مع واشنطن في تلك الفترة الحرجة.

لقد "ظل الجانب الأمريكي على مدى خمسة أعوام يراوغ في تنفيذ القواعد المتفق عليها في تقديم المساعدات الأمريكية لمنظمات المجتمع المدني المصرية أو الأجنبية العاملة بمصر في إطار برنامج الديمقراطية والحكم" (المصدر السابق، ص 58).

وقع ذلك رغم "أن الولايات المتحدة ذاتها تلزم كل من يتلقى تمويلا أجنبيا بإبلاغ السلطات الأمريكية بحجم هذا التمويل والجهة المانحة له والغرض المستخدم فيه، كما تلزمه بتقديم تقارير دورية للسلطات الأمريكية عن إنفاق هذا التمويل" (راجع المصدر السابق، ص 57).

يقول الكاتب عبد القادر شهيب تعقيبًا على أحداث هذه الفترة: "وهكذا نحن إزاء سرية مركبة أو متعددة الجوانب في مسألة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني المصرية... سرية أولًا: مِن جانب المانحين لهذا التمويل، الذين يريدون إخفاء ما يقومون به من تمويل ويقدمونه مِن أموال لعددٍ مِن الجمعيات الأهلية وغير الحكومية في مصر... وإذا كان المانحون الأمريكيون يتسترون في ذلك ببرنامج المساعدات الأجنبية، وعدد مِن منظماتهم غير الحكومية لإخفاء هذا التمويل، فإن المانحين العرب اعتادوا أحيانًا على تقديم التمويل سائلًا، أو عبر وسائط تفاديًا لانكشاف أمره إذا ما تم عبر القنوات المصرفية، أو بشكل مباشر.

ولدينا سرية -ثانيا- مِن جانب الذين يحصلون على هذا التمويل الأجنبي نظرًا؛ لأن بعضًا مِن هذا التمويل يذهب لأغراض أخرى ذات طابع سياسي بالمخالفة للقانون، وهم لا يريدون كشف ذلك، بل إن الذين يحصلون على التمويل الأجنبي في إطار المجتمع المدني يمارسون إرهابا ضد كل من يتحدث أو يحذر من خطورة المال السياسي الذي يتدفق على مصر بغزارة، ويتهمون هؤلاء بأنهم معادون للمجتمع المدني، وتحديدًا المنظمات الحقوقية، وذلك لتظل عملية التمويل الأجنبي سرية ولا يتم كشف الأهداف والأبعاد الحقيقية للممولين الأجانب، ولا ما استفاد به شخصيًّا عدد محدود من الشخصيات مِن هذا التمويل الأجنبي، وما حدث من وقائع فساد يرتبط بهذا التمويل الأجنبي، والتي تلوكه ألسن عدد من المنتمين لمنظمات المجتمع المدني، مثل تقديم هدايا عينية للحصول على هذا التمويل، أو مثل إنفاق قدرًا مِن هذا التمويل في غير أغراضه المتفق عليها في اتفاقات التمويل الأجنبي، أو مثل ما طرأ من تغيرات في ثروات بعض المنتمين لمنظمات غير حكومية.

كما لدينا -ثالثًا- سرية في عملية إنفاق هذا التمويل الأجنبي، فالإفصاح نادر ومحدود في هذا الصدد، حتى في ظل متابعة ومراقبة المانحين إلى عملية الإنفاق، وإذا كان قد تم تحويل بعض المسئولين عن منظمات المجتمع المدني للتحقيق في مخالفات إنفاق التمويل الأجنبي"، "فإن ذلك حدث؛ لأن هذه المنظمات مسجلة لدى وزارة التضامن. أما المنظمات غير المسجلة والتي تحصل على التمويل الأجنبي سرًّا، فإن السرية تعوق مراقبة إنفاقها لهذا التمويل الأجنبي، مما يفتح الباب لحدوث فساد في إنفاق هذه الأموال، حيث كشفت دراسة ميدانية عن منظمات المجتمع المدني في مصر تركيز اتخاذ القرار داخل مجلس الإدارة، وخاصة الرئيس، وتهميش دور الجمعية العمومية، ويضاف إلى ذلك الإدارة الفردية للمنظمات الحقوقية، وهي المنظمات الأكثر استفادة من التمويل الأجنبي بين منظمات المجتمع المدني المصرية، وعدم إعلان ميزانيتها.

وقد ساعد على حدوث واستمرار هذه السرية التي حرصت عليها كل الأطراف سواء المانحون أو المستفيدون من التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني عدد مِن الأسباب، يأتي في مقدمتها: أن نسبة لا بأس بها من منظمات المجتمع المدني التي تحصل على تمويل أجنبي هي منظمات غير مسجلة رسميًّا لدى وزارة التضامن الاجتماعي سابقًا الشئون الاجتماعية حاليًا، فهذه المنظمات تحايلت في الحصول على الترخيص القانوني بالحصول على ترخيص شركة مدنية أو محاماة، وليس جمعية أهلية، لتتفادى صعوبة الحصول على ترخيص جمعية أهلية، وأيضًا لتتفادى الرقابة على إنفاق الأموال" (المصدر السابق، ص 65-67 بتصرف يسير).

الموافقة على قانون جديد للجمعيات الأهلية:

تناقلت الصحف المصرية خبر موافقة مجلس النواب (مجلس الشعب) المصري خلال شهر يوليو لعام 2019م على قانون الجمعيات الأهلية الجديد، والذي تضمن عند الكثيرين العديد من التعديات، ومنها:

أ- إلغاء عقوبة الحبس والعقوبات السالبة للحريات عند مخالفة نصوص هذا القانون، خلافا للقانون السابق، مع إقرار عقوبة الغرامة المالية بدلا منها.

ب- السماح بالحصول على التمويل الأجنبي مع تقنين ذلك من خلال اشتراط إخطار السلطات المصرية بالأمر، وعدم انتهاك أيًّا مِن القوانين القائمة.

ج- تخفيف القيود التي كانت موجودة في القانون السابق بشأن تأسيس الجمعيات، حيث يتضمن القانون الجديد السماح بتأسيس الجمعية الأهلية المصرية بمجرد الإخطار.

د- السماح للأجانب بعضوية الجمعيات الأهلية المصرية بنسبة لا تزيد عن 25 % من مجموع أعضائها.

هـ- إلغاء الجهاز الذي كان يشرف على عمل المنظمات الأجنبية في مصر، والذي كان يضم في تشكيله ممثلي أجهزة أمنية.

و- أجاز القانون للجاليات الأجنبية إنشاء جمعية تعني بشئون أعضائها.

ز - السماح بإنفاق أرباح الشركات وصناديق الاستثمار التي تنشئها الجمعيات الأهلية على العمل الخيري.

وقد علقت العديد مِن الجهات داخل مصر وخارجها على هذا القانون الجديد لما يتضمنه من نقلة نوعية في تاريخ العمل الأهلي في مصر، وقد تناولته العديد من وسائل الإعلام العالمية -كوكالة رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية وهيئة الإذاعة البريطانية- بالترحاب؛ لما فيه مِن إلغاء عقوبة السجن وتقنين التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية والسماح للأجانب بالعضوية فيها.

وجدير بالذكر: أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أعلن في نوفمبر 2018م أن قانون الجمعيات الأهلية بمصر بحاجة إلى أن يكون أكثر توازنًا (انظر في ذلك: جريدة الأهرام القاهرية في عددها الأسبوعي يوم الجمعة 16 من ذي القعدة عام 1440 هـ، الموافق يوم 19 يوليو عام 2019 م، ص 6).  

للاستزادة حول موضوع منظمات المجتمع المدني راجع:

(المجتمع المدني: النظرية والتطبيق السياسي)، تأليف: فرانك أدلوف - ترجمة: د. عبد السلام حيدر.

(الموسوعة العربية للمجتمع المدني)، إشراف: د. أماني قنديل.

(مفهوم المجتمع المدني: قراءة أولية)، تأليف: علي عبد الصادق.

(التحول في بنية المجتمع المدني بعد الثورات المصرية)، تحرير: د. يسري الغرباوي.

(أسرى المال السياسي: وثائق التمويل الأجنبي السري لمنظمات مصرية)، عبد القادر شهيب.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة