الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الحسد آفة عظيمة

ومن المعلوم أن الحسد أول ذنب عصي به الله في السماء بعد الكبر والعلو

الحسد آفة عظيمة
حسن حسونة
الثلاثاء ٣١ ديسمبر ٢٠١٩ - ١٨:١٣ م
1043

الحسد آفة عظيمة

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالحسد آفة خطيرة، وداء عظيم؛ إذ لو أصيب به المرء يحلق دينه كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فلا يجتمع الإيمان في قلب العبد ومعه الحسد، فإذا حل الحسد ارتفع الإيمان وتجرد قلب العبد من الإيمان؛ لأن قلبه سيمتلئ حقدًا وبغضًا وكراهية لمن يحسده! فكم من بيت يشتكي، وإنسان يمرض ويتعب، وكم من أسرة تفككت وتشرذمت؛ بسبب عين الحاسد، والمشتكي لا يدري مِن أين العلة!  

إنسان رقيق الدين والإيمان، رأى فلانًا هذا وسَّع الله له وآتاه الله من فضله في مالٍ أو ولد، أو زوجة أو صحة وعافية، فلم يعجبه ذلك، ولو يقنع بما آتاه الله ولم يومن بقدر الله، فأخذ ينظر إلى هذا المسكين نظرة حقد وحسد على ما آتاه الله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:54)، (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) (القلم:51)

لقد رفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في الرزق والعطاء، والصحة والولد، ولا يظلم الله الناس شيئًا، فهو الحكيم الخبير، حكيم في تصرفه، خبير بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، فمِن الناس مَن لا يصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر، ومنهم من لا يصلحه إلا الصحة، ومنهم من لا يصلحه إلا المرض (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (النحل:71)، فالواجب علي المسلم أن يحقق كمال الرضا بالله وعن الله، ويقنع بما آتاه الله، ولا ينظر إلى نعم الله على عباده خشية أن يزدري نعمة الله عليه.

ثم هل الناس سيعيدون قسمة الله بين عباده؟! (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (الزخرف:32)؛ فهذا تقسيم الخبير العليم -جل وعلا-، فما على العباد إلا الانقياد والتسليم، والإذعان والقبول.

ومن المعلوم أن الحسد أول ذنب عصي به الله في السماء بعد الكبر والعلو، وذلك حينما حسد اللعين إبليس آدم -عليه السلام- حينما أمر الله من في السماء بالسجود لآدم، فسجدوا إلا إبليس قال حينها: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف:12)، فمسخه ولعنه وطرده من رحمته.

ويزداد الأمر خطرًا إذا علمت بأن ابن آدم الأول حسد أخاه، وأدى به الحسد أن يحمل الأخ على قتل أخيه (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:30)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ) (متفق عليه)؛ ذلك هو الخسران المبين، فالأمر صعب وخطير أن ينتشر هذا الداء بين الإخوة والأخوات، بين الأحبة والأصدقاء، بين الزملاء في الأعمال والأشغال .

ومع ذلك الخطر، يزداد خطرًا إذا علمت بأن الداء خلق للأمة الغضبية اليهود، فقد أخبر الله عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (البقرة:109)، يفعلون ذلك لأجل الحسد الذي في قلوبهم تجاه نبينا -صلى الله عليه وسلم- وتجاه أمتنا؛ أمة الإسلام خير الأمم وأفضلها وأزكاها، يحسدون الأمة على اجتماعها يوم الجمعة الذي هدانا الله له، ويحسدوننا على قولنا: "آمين" وراء الإمام، ويحسدوننا على صيامنا وحجنا! ألا لعنة الله على الظالمين.

فالحسد آفة ابليسية، وآفة يهودية، وأول ذنب عصي الله به في الأرض، فالأمر ليس بالهين ولا بالسهل حينما يتمنى إنسان زوال نعمة أنعم الله بها على فلان أو علان؛ فهذا قلب عليل، ليس به صفاء ولا نقاء.

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحسد وبيَّن خطره، فقال: (لَا تَحَاسَدُوا) (رواه مسلم)، وقال:  (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) (رواه مسلم)، وقال: (الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ) (أخرجه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني)، أي تتسبب في ذلك بتقدير الله السابق له، وكل شيء خلقناه بقدر.

وإذا أردت أن تقف على أسباب الحسد، فأقول لك:

أولًا: عدم الرضا بقضاء الله وبقدره من الرجل الحاسد، فإنه لم يقنع بما آتاه الله؛ فينظر إلى الآخرين نظرة حقد وحسد وتمني لزوال هذه النعم، وعلاجها كامن في الرضا بالقدر والقناعة بما آتاه الله، فيكن سليم القلب لإخوانه وأحبابه.

الثاني: قد تكون عداوة بينه وبين فلان أو علان، فنال منصبًا أو علاوة أو غير ذلك، فحمله العدوان على حسده، وعلاجه: أن يكون المسلم سليم القلب للمسلمين، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، وتحقيق معاني الأخوة الإيمانية التي لا تكتمل حتي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.

الثالث: قد يكون منا نحن السبب، وهو أن نستجلب لأنفسنا الحسد بقصدٍ أو بغيره، حينما ينشر البعض منا أخباره وأحواله، وصور أولاده وبيته على السوشيال ميديا -الفيس والانستجرام والوتس، وغير ذلك-، فيجعلها عرضة لجميع الخلق، فهناك مَن يحبونك، وكثير في قلوبهم مرض، فربما يكون هذا بسبب الحرمان، فالتزم: (اسْتَعِينُوا عَلَى إنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ) (أخرجه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني)، ولربما لسبب آخر منا، وهو تفضيل بعض الأولاد علي البعض الآخر، فيخصه بالرفق واللين والعطاء عن باقي إخوته، فيحمله ذلك الباقين على حسد ذلك الولد، (قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف:8)، فحملهم ذلك للبحث عن وسيلة للتخلص من يوسف -عليه السلام-، وعلاج ذلك: العدل والتسوية بين الاولاد عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ) (متفق عليه)، كما في قصة النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.

فالحاسد لن يغير من قدر، لكنه أساء الأدب مع مولاه؛ لأنه لم يرضَ بتقسيم الله، فلا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا، فإذا تحاسدوا أفسدوا ما بينهم من العلاقات الحميدة، ولقد كان اصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سليمي القلب والصدر بعضهم لبعض، (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) (الحشر:9)، وسلامة القلب من أسباب دخول الجنة (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89)، سليم من الشرك والكفر، والحقد والبغض والشحناء.

ودليل ذلك أيضًا: ما رواه أحمد في شأن الرجل الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أيام متتالية انه من اهل الجنة، وفي ختام الحديث قال لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ". فَقَالَ عَبْدُ اللهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ" (رواه أحمد، وصححه الألباني)

وأخيرًا: هناك من الأمور التي تعين علي علاج الحسد:

منها: تقوى الله والمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، فإنه مَن اتقى الله وقاه الله من كل سوء وآفة، وفي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ومنها: الدعاء والتضرع إلى الله، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)، فبالدعاء يكشف الله ما وقع للعبد، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من العين إلى أن نزلت: "قل هو الله أحد، والمعوذات: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس"، فأخذها وكان يقرأها أدبار الصلوات، وقبل النوم، وفي أذكار الصباح والمساء.

ومنها: أن نتعاهد أولادنا كذلك بالرقية والدعاء، فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرقي الحسن والحسين بهذه الكلمات: (أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ) وَكَانَ يَقُولُ: (كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَبِي يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فليحافظ المسلم منا على أوراده وأذكاره، وكذا لأولاده وزوجاته.   

ومنها: أن المسلم إذا رأى نعمة من الله على أخيه المسلم، فليبارك عليها، أي يقول: "بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك"، فهذه تذهب أي شر يكون في العين، ويذكر أن عامر بن ربيعة مرَّ علي سهل بن حنيف وهو يغتسل وكان سهل جميلًا وجلده حسن، فقال عامر: ما احسن هذا الجلد فمرض سهل مرضا شديدا فعرف بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لعامر: (عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟! إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).  

وتأمل أخي الحبيب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟!)؛ إذ سماه بفعله هذا أنه يقتل، فهو سم قاتل يقتل به المسلم إخوانه، فنعوذ بالله من ذلك.

ومِن العلاج النبوي لذلك: أنه إذا أصيب أحد بذلك وعرف الحاسد، فيطلب منه أن يتوضأ ويقوم هو بالاغتسال من ذلك الماء المتساقط من أعضائه، ففي الحديث السابق أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: دَعَا بِمَاءٍ، فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ" (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

والحسد داء عضال انتشر بين المسلمين، وقد حذَّر الله منه، وكذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فليحرص المسلم على نفسه وعلى أولاده وأحبابه من ذاك الداء. 

نسأل الله أن يحفظنا وإياكم، وأحبابنا وإخواننا، وجميع المسلمين والمسلمات مِن كل سوءٍ. 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة