الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

آيات الشتاء

ولا يقنط أحد مِن رحمته -تعالى- مهما اشتدت الأمور

آيات الشتاء
محمد سرحان
الأربعاء ١٩ فبراير ٢٠٢٠ - ٠٩:٥١ ص
537

آيات الشتاء

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالشتاء مظهر من مظاهر ربوبية الله -تعالى-، واستحقاقه العبودية، قال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)، فهو -سبحانه- الذي خلق، وهو الذي يسِّير هذا الكون وفق نظام دقيق بديع مبهر، وهو -سبحانه- الذي يدبر أموره وأمور مَن فيه.

وهو مظهر مِن مظاهر العظمة والقدرة وأن الله على كل شيء قدير، فبعد الحرِّ خريف، وبعد الشتاء ربيع مناسب لحياة المخلوقات على الأرض، ومَن يتأمل في تتابع الفصول وترتيبها لا يملك إلا أن يعظِّم ويسبِّح الخالق -سبحانه وتعالى-.

يغير الله أحوال الدنيا، فلا تستمر على نسق واحد لا تغيير فيه؛ وكذلك أحوال العباد لا ثبات لها؛ فلا يغتر أحد بقوة ولا بصحة، ولا بمال، ولا بملك ولا بسلطان: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26)، وقال -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140)، فالأيام دول والحياة غير، فيوم لك ويوم عليك، ويوم تساء ويوم تسر، وقال -سبحانه-: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)، يحيي ويميت ويرزق، يُسعد ويُشقي، يشفي ويمرض، يغني ويفقر، يعز ويذل، يرفع ويخفض، يعطي ويمنع، يغفر ويعاقب، يقيم دولًا ويزيل أخرى، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويجيب مضطرًّا، إلى ما لا يُحصَى مِن أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء -سبحانه وتعالى-.

ولا يقنط أحد مِن رحمته -تعالى- مهما اشتدت الأمور: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)، وفي الحديث: (عَجِبَ رَبُّنا مِن قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)، وفي رواية: "وقرب غِيَرِهِ": أي: وقرب تغييره للأمور والأحوال (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه شيخ الإسلام).

كم مر عليك من شتاء، بعدد الفصول التي مرت عليك عدد سنين عمرك، ربما يتذكر الإنسان ذكريات من سنين وكأنها أمس، فالعمر يمر سريعًا، فانتبه.

- الشتاء غنيمة العابدين كما قال عمر -رضي الله عنه-، ويوضحه قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مرحبًا بالشتاء، تنزل يه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، وقال الحسن -رحمه الله-: "نعم زمان المؤمن: الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه"، وقال معضد: "لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله".

وفي الحديث: (الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

ويتذكر المؤمن ببرد الشتاء: جهنم، ففي الحديث: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) (متفق عليه)، فأهل الإيمان يذكرهم ما في الدنيا بما في الآخرة.

ويذكر المؤمن وهو بين أولاده: إخوانه المسلمين في كل مكان، الذي تجمعه بهم رابطة الإيمان، فيتألم لآلامهم ويستشعر ما هم فيه: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)، فإن لم يستطع مساعدتهم فليس أقل من الدعاء لهم، ويحمد ربه على ما حباه من نعم وعافاه من بلاء.

ويتذكر إخوانه المسلمين الفقراء والمحتاجين وأصحاب الحاجات، فيعطي ولو قليلًا مما حباه الله؛ كان مِن السلف مَن يعول ألف أسرة، وكان الليث بن سعد -رحمه الله- يطعم الفقراء الأطعمة التي تقويهم على برد الشتاء.

ينزل المطر، فيحيي به الله الأرض بعد موتها، وكذا يحيي الله القلوب بعد مواتها، ويُلين القلوب بعد قسوتها، وتدبر ترتيب هاتين الآيتين: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا هاجت الريح اضطرب خوفًا أن يكون عذابًا؛ فقد أهلك الله بالريح أقوامًا: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) (الحاقة:6).

وللمؤمن في كل الأوقات والأحوال عبوديات، فلا يتكاسل عنها ولا يفرط، لشدة برد أو لحر صيف:

إذا كان يؤذيك حر المصيف       ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع        فأخذك للعلم قل لي: متى؟!

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك وخليلك محمد، وعلى آله وصحبه سلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً