الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

قصة المتصدق على زانية وسارق وغني

صدقة السر من علامات الإخلاص العظيمة

قصة المتصدق على زانية وسارق وغني
سعيد محمود
الخميس ١٩ مارس ٢٠٢٠ - ١٠:٣٦ ص
621

قصة المتصدق على زانية وسارق وغني

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- قصة مِن نماذج الإيمان الراقية: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللهُمَّ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللهُمَّ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللهُمَّ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ) (متفق عليه).  

- شرح مجمل للقصة مع الإشارة إلى أن الأحداث وقعت في قرية صغيرة فيما يظهر؛ ولذلك كان الخبر ينتشر بسرعة.

(1) فضل صدقة السر:

- الإشارة إلى الشاهد من القصة، وهو إصرار الرجل على إخراجها في الليل حتى لا يراه أحد: (لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ).

- صدقة السر من علامات الإخلاص العظيمة: "كان زين العابدين بن علي بن الحسين لا يخرج الصدقة إلا ليلًا، وكان يتلثم عند خروجه، ولم يدرِ الناس بذلك إلا بعد موته، حين ما فقد الفقراء ذلك، ووجدوا أثر الجوال في كتفه -رحمه الله-".

- وقد جاء الترغيب في الصدقة بعمومها: قال الله -تعالى-: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ? وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ) (متفق عليه).

- وجاء التنبيه إلى النوعين والإشارة إلى تفضيل أحدهما: قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:274)، وقال: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة:271)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

- فالأصل أفضلية صدقة السر، ما لم تكن مصلحة في الجهر(1): جاء عثمان -رضي الله عنه- يوم تجهيز جيش العسرة بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، مائة بعد مائة، وجعل يأتي بالزيادة كلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرِّض الناس على التصدق، حتى بلغت صدقته 900 بعير ومائة فرس، ثم جاء قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه وهو في المسجد، فنثر في حجرة ألف دينار، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقلبها وهو يقول: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

(2) فضل النية الصالحة:

- الإشارة إلى الشاهد من القصة: (أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ).  

- لقد حصل الأجر على رغم وقوع الصدقة في غير موضعها، بسبب النية الصالحة: عن معن بن يزيد قال: َكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) (رواه البخاري)(2).

- بل قد يعجز عن العمل (ضعف - مرض - سفر - موت) مع ذلك يكتب له الأجر بسبب النية الصالحة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم).

(3) فضل الرؤيا الصالحة:

- الشاهد من القصة: (فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ):

- الرؤيا الصالحة للصالحين؛ لأنها من النبوة، فإنهم إذا ضاقت بهم آفاق الدنيا، وسع الله لهم ذلك في منامهم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا اقتَربَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الُمؤْمن تَكذبُ، وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ منْ ستَّةٍ وَأرْبَعيَنَ جُزْءًا مِنَ النُبُوةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ) قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) (رواه البخاري)(3).

(4) أمور تعين على صدق الرؤيا:

1- التزام الصدق في الأقوال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا) (رواه مسلم).

2- تقوى الله في أمره كله: قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس:63-64)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

3- مراعاة آداب النوم: (النوم على طهارة - النوم على توبة - النوم على جنبه الأيمن).

4- أن يحرز نفسه من الشيطان، ويعرضها لرحمة الرحمن بتلاوة أذكار النوم وتعويذاته: (المعوذات - آية الكرسي - الأدعية الموظفة).

5- سؤال الله أن يرزقه رؤيا صالحة(4): روى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أسألُكَ رُؤْيا صَالِحَةً، صَادِقَة غَيْرَ كاذِبَةً، نافِعَةً غَيْرَ ضَارَّةٍ" (رواه النووي في كتاب الأذكار).

خاتمة:

- هذا الرجل الصالح تعلمنا من خلال قصته فضائل كثيرة، ومن أعظمها فضل الصدقة في السر، والنية الصالحة، وكيف كان الجزاء من الله: قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة:143)، وقال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود:115)، وقال: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60).

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو ظاهر من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ).

(2) ولعل يزيد كان يظن أن الصدقة لا تحل لابنه. قال الحافظ -رحمه الله-: "واستدل به على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع". وقال النووي في تبويبه على مسلم للحديث: "باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في غير أهلها".

 (3) لأن الرؤيا الصالحة تخبر بشيء من الغيب، وهو ما حظى به الأنبياء -عليهم السلام-.

(4) الأدلة العامة في فضل الدعاء تدل على ذلك أيضًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة