الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

رصيد الداعية يورث النجاح

الرصيد عند الناس محل الدعوة على اختلاف الطبقات والأجناس

رصيد الداعية يورث النجاح
حسن حسونة
الاثنين ٠٦ أبريل ٢٠٢٠ - ٠٤:٣٢ ص
604

رصيد الداعية يورث النجاح

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالدعوة إلى الله أشرف وظيفة وأطيب عمل؛ إذ هي وظيفة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36)، وأخبر الله عن الدعاة المخلصين كصاحب يس في سورة يس ومؤمن آل فرعون، وجاء إن أبا بكر الصديق أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة في اليوم الذي آمن فيه وغيره من المخلصين.

وكذلك الدعوة وظيفة الرهط من الجن الذين سمعوا القرآن من في النبي -صلى الله عليه وسلم- غضًّا طريًّا قالوا: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) (الأحقاف:31)، وبالجملة فإن الدعوة إلى الله شرف؛ لأنها متعلقة بإله الوجود، فأنت تدل الناس على الله وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فأنت منتسب إلى الله -جل في علاه-، وهو أشرف نسب وأعلى مقدار (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "هذا حبيب الله، هذا صفي الله، هذا خيرة الله من خلقه". 

وهذه الدعوة تحتاج إلى مقومات ووسائل لنجاحها: منها ما يتعلق بالداعي، ومنها ما يتعلق بالمدعو، ومنها ما يتعلق بالوسائل، ومنها ما يتعلق بوقت الدعوة نفسه مما يراعى فيه المصلحة والمفسدة، ورعاية المآلات وغير ذلك.

ومما يتعلق بالداعية نفسه الشخص الذي يقوم بالدعوة: فلا شك أنه إن انشغل بالدعوة فقد اصطفاه الله واختاره لهذه الوظيفة السامية، فلابد أن يتهيأ لها تمامًا، ويكون عنده من الرصيد ليكون على قدر المسئولية لدعوته، ولك أن تتخيل معي أيها الداعية المبارك من خلال هذه الأمثلة لتعرف ماذا أريد أن أوصله لك من كلامي هذا.

لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خديجة يرجف فؤاده، وأخبرها عن رؤيته لجبريل -عليه السلام-، وأنه قد خشي على نفسه الهلاك، فماذا قالت له أمنا خديجة -رضي الله عنها-؟ لقد قالت له: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا".

ولسائل أن يسأل: ولماذا أنتِ متأكدة من هذا؟!

الإجابة: لوجود الرصيد لدي الأهل والجيران، وأهل الحي، وأهل البلد جميعًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (الضعيف)، وتكسب المعدوم (الفقير الذي لا يجد)، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

هذا الذي استدلت به أمنا خديجة من رصيد لدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لا تخف على نفسك أبدًا، لن يخزيك الله أبدًا.

وتدبر أيضًا الرصيد عند الناس محل الدعوة على اختلاف الطبقات والأجناس، وكان عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة وثلاثين عامًا، وقد حضر بنيان الكعبة لما تصدع واختلفوا من يضع الحجر الأسود، واشتد بهم الخلاف، فقالوا: نحكِّم أول داخل إلينا، فكان هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: رضينا به الصادق الأمين؛ هذا قبل المبعث فما بالهم بحاله بعد المبعث؟!

تأمل أيها الداعية الرصيد الذي لك يجعلك مقبولًا لدى الناس، فحتى لو أراد أن يشوه صورتك مَن أراد؛ إلا أن الرصيد يسمو بك ويخيب سعيهم، ويبدد آمالهم، فأنت تتعامل من منطلق شرعي ديني، وهم يتعاملون لإطفاء نور الله، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

الرصيد يعطي ملامح على وجهك يعرفها البعيد قبل القريب، والعدو قبل الصديق؛ لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وانطلق الناس ليستقبلوه ومن جملتهم عبد الله بن سلام الذي كان حبرًا من أحبار اليهود فأسلم قال: "فلما رأيته -أي النبي صلى الله عليه وسلم- عرفت أنه ليس بوجه كذاب" بدا على الوجه وظهرت الصورة واضحة على صدقه، فصدقه وآمن به.

الرصيد يا أصحاب الدعوة... ومن العجيب مما تقرأه ذلك الموقف الذي وقع لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما أوذي في مكة واتجه مهاجرًا، لقيه سيد الأحابيش ابن الدغنة فقال: إلى أين؟ قال: أخرجني قومي، فقال: يا أبا بكر، إن مثلك لا يخرج، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، واستدل بما استدلت به أمنا خديجة برصيد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم تربوا على يديه فخرج ذلك الجيل الذي لم يتكرر، ولن يتكرر؛ لأنهم أهل اصطفاء واختيار لصحبة الحبيب.

الرصيد يا اصحاب الدعوة في العقيدة والعبادة والسلوك، والمعاملات والأخلاق.

- ففي العقيدة: فلابد من سلامتها وتحقيق الرصيد في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ سلامة العقيدة في ربوبية الله وألوهيته واسمائه وصفاته بما تحويها من المعاني والتعبد لله من خلالها.

- الرصيد في العبادة: أن تحافظ على الفروض، وتتبعها بالنوافل، وتتعاهدها من سنن وقيام ليل، وصيام نوافل، وورد القرآن وأذكار واوراد، وتسبيح واستغفار، وصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك، فلا يصلح من الداعية التفريط والكسل في هذا الباب.

- الرصيد في المعاملات: لابد عليه أن يكون ورعًا خائفًا من الله، فيحسن في معاملة الناس ويجتنب باب الشبهات ليستبرئ لدينه فلا ينظر إلى ما في أيدي الناس، ويحسن معاملة والديه فيبرهما ويحسن معاملة الزوجة والأولاد، ويكن وصالا للأرحام ويحسن إلى جيرانه وأصدقائه وزملائه.

فجانب المعاملة جانب مهم في حياة الناس؛ وإلا فقد ثبت أن عمر -رضي الله عنه- شهد عنده رجل، فقال عمر له: أنا لا أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك؛ فأتني بمن يعرفك. فقال له رجل من الحضور: أنا أزكيه يا أمير المؤمنين، وأشهد له. قال: بمَ تشهد. قال: بالعدل والتقى. قال له عمر: أنت جاره الأقرب فتعرف مدخله من مخرجه، وليله من نهاره، قال: لا، قال: هل عاملته بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع.

قال: لا، قال: فهل سافرت معه سفرًا؛ الذي يُستدل به على كمال الأخلاق. قال: لا، قال: إذا أنت لا تعرفه!

الرصيد أيها الداعية في جانب المعاملات مهم جدًّا في نجاح دعوتك.

- الرصيد في الأخلاق: أن تكون صادقًا أمينًا حكيمًا، متواضعًا رحيمًا رقيقًا، بعيدًا عن الكذب والخيانة والكبر والرياء والعجب وغيرها من الأمراض التي تفسد على الداعية دعوته، وتجعله يخسر ساحته، وبخاصة أن قدوته هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أثنى عليه الله -سبحانه وتعالى-.

- الرصيد في السلوك: فلا يري الناس منه عيب ولا شبهة في سلوكه، بل هو بعيد كل البعد عن موارد الشبهات، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اعتكف في المسجد وجاءته أمنا صفية تكلمه فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقلبها إلى بيتها فمر به اثنان من الصحابة، فلما رأياه أسرعا الخطى فقال: (عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) (متفق عليه)، ثم بيَّن لهما النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الشيطان يجري مجري الدم من العروق، فخشي أن يقذف في قلبيهما شيئًا فيهلكا.

وبالجملة فينبغي على الداعية إلى الله أن يكون بعيدًا كل البُعد عن موارد الشبهات في معاملاته وسلوكه وأخلاقه، ويكون عنده من الرصيد الكافي ليكون على قدر المسئولية لما اصطفاه الله له مِن العمل في هذه الوظيفة السامية العالية.

ففتش أيها الداعية عن نفسك وراجع أحوالك في هذه النقاط؛ فإن وجدتها فاحمد الله على ذلك، وسدد وقارب واستقيم على ذلك، فإن لم تجد الرصيد اشحنه، وعاهد نفسك وقلبك وجوارحك، وراقب الله في أخلاقك ومعاملاتك وسلوكك؛ فالشين كل الشين أن تؤتى الدعوة من قِبَلك، ولا يسلم إخوانك من ألسنة الناس بسببك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويتحقق فيك حينها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ) (متفق عليه)، عياذًا بالله.

فأوجد الرصيد، تنعم بدنياك قبل أخراك.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة