الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (60) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (2-4)

دين الإسلام يختلف في مفهومه عن الأديان الأخرى

الفساد (60) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (2-4)
علاء بكر
السبت ٢٠ يونيو ٢٠٢٠ - ١٠:٤٣ ص
448

الفساد (60) ضرورة صبغ التعليم بصبغة عربية إسلامية (2-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اهتم المسلمون بالعلوم الكونية كاهتمامهم بالعلوم الدينية، فكان العالم منهم يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وهذه سمة مِن سمات التعليم في الإسلام، فترى العالم منهم هو الفقيه المفسِّر الأصولي، وهو البارع في الطب أو الفلك أو الهندسة أو البصريات.

جاء ذلك من خلال نظرة واسعة للحياة ترى في العلوم الكونية الأدلة على وجود الخالق وقدرته ووحدانيته، وتجد في الإلمام بهذه العلوم الكونية المتنوعة وسيلة للنهوض بالمسلمين والبشرية في مجالات الحياة المختلفة: كالزراعة، والصناعة، والتداوي، متأثرين في ذلك بالقرآن الكريم الذي نوَّه بفضل العلماء وقدرهم في ثنايا حديثه عن الكون وآياته، لافتًا النظر على تدبر العلماء لهذه الآيات الكونية واقتحامهم عالمها، (وذلك في موضعين من كتاب الله -تعالى-:

الأول: قول الحق -تبارك وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم:22).

والثاني: قول الحق -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:27-28).

ففي قوله -تعالى- في الموضع الأول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)، وفي قوله في الموضع الثاني: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)؛ وذلك في ثنايا الحديث عن آيات كونية ما ينوه بشأن العلماء في هذه المجالات، ويحض المسلمين -من جانب آخر- على أن يقتحموا هذه المجالات، وألا تقتصر جهودهم على معرفة الفقه والحديث والأصول دون غيرها.

لقد اعتبر الإسلام إلمام المسلمين بهذه العلوم من فروض الكفايات؛ لما يترتب عليها من تنامي قوتهم المادية وتلبية حاجاتهم المعيشية) (راجع: مدخل إلى التعليم في ضوء الإسلام، د. طلعت محمد عفيفي - ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - 1433 هـ - 2012 م، ص 36 -38).

وقد تنبَّه المسلمون مع ظهور الإسلام وانتشاره إلى هذه المعاني المرتبطة بالعلم والتعليم فجالوا وبرعوا في العلوم الكونية كما جالوا وبرعوا في العلوم الدينية، فكانوا سادة في الدين والدنيا معًا، وبنوا حضارة تجمع بين الإيمان والعلم.

قال الدكتور أحمد نسيم سوسة: (تمتاز الحضارة الإسلامية في كونها تخضع في معظم إنتاجها إلى التعاليم الإسلامية، فالقيام بالصناعات والأخذ بالعلوم متصل بروح الأمة وعقيدتها؛ لأن العمل بذلك في نظر الإسلام فرض على الأمة، وهذا نظام يربط الإنتاج البشري بالدين) (المصدر السابق، ص 43 نقلًا عن: قالوا عن الإسلام، للدكتور عماد الدين خليل، ص 371).

نتائج ربط العلم بالدين وعبادة الله -تعالى-:

لما كانت الغاية مِن التعليم في الإسلام هو ربط العلم والتعليم بتعريف الناس بخالقهم وتوثيق صلتهم به فقد عاد هذا الربط بين الإيمان والعلم على المسلمين فيما مضى وسيعود عليهم إذا عادوا إليه من جديدٍ في الحاضر بفوائد عظيمة، منها:

((أ) تهيئة الأجواء المناسبة لتطبيق تعاليم الإسلام على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وإزاحة التناقض بين ما يعتقده المسلم وما يتعلمه، بحيث ينمو الدارس على فطرة الإسلام، التأدب بآدابه، وإدراك تصورات الإسلام للحياة، وحلوله لمشكلاتها.

ومِن الملاحظ في هذا المجال: أن تفاعل الطلاب مع أساتذة العلوم التطبيقية والإنسانية وسائر العلوم عند ربطها بالإسلام وتوجيهاته يكون هذا التفاعل أكبر، والتأثر به أكثر مما لو اقتصر على زاوية ضيقة تعطَى للتربية الإسلامية (يعني تدريس الدين كمادة من المواد الدراسية).

(ب) تسخير العلم لخدمة الإنسانية، والبُعد به عن الزيغ والانحراف). فـ(حين يلتزم العلم بأخلاق الإسلام سنجد العلم يمدنا بما نحتاج إليه في كافة التخصصات، والخلق الإسلامي يحسن توجيهها، فعلى سبيل المثال: سيخرج لنا العلم الطبيب الماهر، ولكن الإسلام يعلمه الرحمة بالمرضى والشفقة عليهم، ويخرج لنا العلم الرجل المتخصص في علوم الذرة، ولكن في إطار تعاليم الإسلام يخضعها لخدمة الإنسانية، وليس في القضاء عليها، ويوجد لنا العلم رجل الاقتصاد الفاهم، ولكن الإسلام يربيه على الأمانة ونظافة اليد، ويحول بينه وبين التعدي على أموال الغير، وهكذا).

(ج) إقامة وحدة فكرية بين أبناء العالم الإسلامي تسهم في توحيد صفوف المسلمين، وتعمل على جمع شتاتهم.

(د) الاعتماد على مصدر متكامل للمعرفة، يوازن بين الجسد والروح، والدنيا والآخرة؛ لأنه وحي من الله يتمثل في كتاب الله، وهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

(ه) قطع الطريق على أعداء الإسلام الذين عقدوا العزم وبيتوا النية على إفساد المسلمين بإفساد منابع التعليم التي يستقون منها) (راجع: مدخل إلى التعليم، ص 43 - 44).

لا يكفي تدريس الإسلام كمادة دراسية:

قال د. طلعت عفيفي: (وقد يقول قائل: ألا يكفي أن يتم تدريس الدين من خلال مقرر دراسي يتم من خلاله تعريف الطالب بواجبه نحو خالقه وإعطاء لمحات عن الأخلاق والسيرة وسائر فروع الإسلامية، كما هو حادث الآن في معظم البلاد الإسلامية، دون حاجة إلى تطويع سائر المواد لتصب في إطار إسلامي يعين الطالب على معرفة خالقه، كما يطالب هذا البحث وأمثاله بذلك؟

ويجاب عن هذا بعدة أشياء نلخصها فيما يلي:

(أ) إن دين الإسلام يختلف في مفهومه عن الأديان الأخرى، فلئن كانت هذه الأديان تفصل بين الدين والحياة، فإن الإسلام كل متكامل، ليس فيه شيء لله وشيء لغيره، بل كل شيء لله، والمسلم يعلن هذه الحقيقة في كل يوم فيقول في مفتتح صلواته (يعني دعاء الاستفتاح في الصلاة) -كما في السنة-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163) (الحديث بتمامه أخرجه مسلم (1 / 534) كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه).

(ب) إن الاقتصار على تدريس الدين كمادة مثل سائر المواد دون أن تمتد ظلالها إلى سائر المواد يخرجها عن إطار كونها تربية، إلى مجرد ثقافة تؤهل الطالب للنجاح في الامتحان دون أن يكون لها أثر وقعي في حياته، بل تؤدي في الواقع إلى زيادة نفوره من الدين.

(ج) إن عدم التدخل في كل المواد لتطويعها بما يخدم قضية العقيدة والإبقاء على ما فيها مِن خرافات تتعارض مع الإسلام، يضعف -إن لم ينفِ- أي أثر يمكن أن تحدثه دروس التربية الإسلامية في نفوس الدارسين).

ويختم د. طلعت عفيفي كلامه في هذه القضية المهمة بقوله: (وعليه فلا مناص لمَن أراد أن يبني جيلًا مؤمنًا بالله متحمسًا لدينه، مِن صبغ كل المواد بصبغة الإسلام، مع العناية -في الوقت ذاته- بدروس التربية الإسلامية، والعمل على الارتقاء بها وبأساتذتها) (راجع المصدر السابق، ص 44 - 45).

مكانة المعلم في التعليم الإسلامي:

مما لا شك فيه: أن المعلم هو العمود الفقري في العملية التعليمية، وله -أو ينبغي أن يكون له- المنزلة والمكانة العليا في حياة الناس، خاصة في زماننا الحالي الذي أصبح التعليم فيه يشغل معظم عمر الإنسان عامة وكل سنين شبابه خاصة؛ مِن الحضانة ورياض الأطفال حتى التخرج من الجامعة، ثم سنوات الدراسات العليا والتخصص بعدها.

لقد أصبح تأثير المؤسسات التعليمية في العصر الحاضر أكثر قوة وعمقًا من تأثير غيرها من المؤسسات بما فيه الأسرة والوالدين، والمعلم هو ركيزة هذه المؤسسات التعليمية من الحضانة ورياض الأطفال إلى أعلى درجات العلم وسلم التخصص.

إن للمعلم -دون غيره من وسائل وآليات العملية التعليمية مهما تقدمت وتطورت- الدور الأول والأخير فبدونه تفقد العملية التعليمية مَن يبث فيها الروح ويجري في عروقها دم الحياة.

وتتضح مكانة المعلم من أمورٍ عديدةٍ، منها:

(1- إن المعلم هو النموذج الحي المتحرك في مقابل الوسائل الأخرى الصامتة.

2- إن المعلم يتغلغل في جميع الأوساط التعليمية، بدءًا من الحضانة وانتهاءً بالجامعة، والتي تعد الوسائل الأخرى في بعضها ثانوية.

3- إن المعلم عامل أساسي في العملية التعليمية لا يمكن الاستغناء عنه بحال، وبوجوده يمكن للعملية التعليمية أن تتم، وغيابه لا يمكن صنع شيء.

4- إن الوسائل التعليمية الأخرى أداة طيعة في يد المعلم، يمكنه بكفاءته أن يجعلها سهلة محببة إلى نفوس الدارسين، في حين أنها تهبط إلى الحضيض وتهدم ولا تبني إذا لم يكن المدرس على المستوى اللائق، ويمكن لأي شخص أن يلاحظ ذلك من خلال النظر إلى تعامل الدارسين مع أستاذ يحبونه، فإنه يرى انعكاس ذلك على ترقبهم لمحاضراته، وحبهم لمادته، وتفوقهم فيها، والعكس بالعكس) (المصدر السابق، ص 49).

والمعلم في كل مرحلة من مراحل التعليم على تدرجها وعلى تفاوتها هو العالم الذي يستقي منه تلاميذ وطلاب تلك المرحلة علمهم؛ كل في مادته التي تخصص فيها، وأتقن نقل ما يعلمه فيها إلى مَن هم تحت يده مِن طلاب المرحلة التي ارتبط بها، من الحضانة إلى الجامعة.

والعلاقة بين المعلم ومَن هم تحت يده هي في الإسلام ونظامه التعليمي علاقة العالم بالمتعلم، بكل ما ذكره علماء المسلمين من آداب هذه العلاقة من واجبات العالم وآدابه، ومن واجبات المتعلم وأدبه مع مَن يعلمه، فللمعلم في نظام التعليم الإسلامي نفس منزلة ومكانة العالم في الإسلام سواء في علوم الدين أو في غيرها من العلوم.

التعليم رسالة وأمانة وأجرها عند الله:

ينظر الإسلام على تعليم العالم لمن يحتاج إلى علمه على أنه رسالة هي في الأمة مِن فروض الكفايات، وعلى مَن كلف بها فرض عين، وهو مسئول عنها في الدنيا والآخرة.

(إن الإسلام يعتبر المعلم واقفًا على ثغرة من ثغور الإسلام، وأن الأمة قد دفعت إليه بفلذات أكبادها ليثقف عقولها ويزكي نفوسها، ويعد منهم رجالًا تعتمد عليهم الأمة في حاضرها ومستقبلها. وعلى هذا فالعمل في مجال التعليم ليس حرفة يتكسب منها الإنسان ما يكفيه أو يغنيه دون النظر إلى شيء آخر، ولكنه رسالة يحملها المعلم على عاتقه، فإن وفَّى بما عاقد عليه واتقى الله في أبناء المسلمين فنفع ولم يضر، وهدى ولم يضل، كان حريًّا أن ينال الأجر والمثوبة مِن الله الذي وعد، ووعده لا يتخلف (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف:170).

وإن أهمل تربية الدارسين ولم يكترث إلا بما يعود عليه من نفع ذاتي، فإن الله -تعالى- سائله ومحاسبه، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... ) (متفق عليه)، و(المعروف في ديننا الإسلامي أن بين العمل وبين الثواب تناسبًا طرديًّا؛ بمعنى: أن العمل كلما كان عظيمًا والأثر المترتب عليه عظيم كان الثواب على قدره عظيمًا) (المصدر السابق، ص 51 - 52).

إعداد المعلم في التعليم الإسلامي:

في نظام التعليم في الإسلام ينبغي أن يتم إعداد المعلم على الوجه المطلوب منه في القيام بمهمته السامية، فـ(يتحلى المعلم بإخلاص النية في عمله وتجرده لتحقيق مرضاة الله -تعالى-، يتفانى في أداء عمله ويجتهد في تجويده وإحسانه، ويبادر إلى مباشرة عمله بجدٍّ واجتهاد، وسعادة وشوق، وذلك كله دون نظر إلى رقابة عميد أو مفتش أو ناظر، فإن الرقابة الخارجية -مهم تنوعت أساليبها- تفشل في تحقيق النجاح المرجو، ما لم تكن لدى المعلم رقابة ذاتية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإخلاص) (المصدر السابق، ص 55).

ومِن تمام إعداد المعلم إعداده ليكون قدوة، (فإن المعلم الناجح هو مَن يقدم لطلابه نموذجًا صالحًا من نفسه، ولهذا قالوا: (المعلم يثقف العقول بعلمه ويربيهم بخلقه)، (إن المخاطبين يتفاوتون في درجات الفهم، ولكن الجميع يتساوون أمام الرؤية بالعين لعمل تربوي يلتزم به معلمهم.

يقول أبو حامد الغزالي: (العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر)، (إن القدوة الحسنة في المعلم هي السبيل الأمثل لإقناع المتعلم واستجابته، وهي في هذا الجانب أعمق تأثيرًا في النفس البشرية، والاستجابة لها أسرع مِن أي كلام نظري، وقد قيل في هذا المعنى: (مقام رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل)، (إن نفوس المتعلمين مفطورة على تقليد أساتذتهم والتشبه بهم، فإن التزم المعلم بالقدوة الحسنة في نفسه أجاد وأفاد).

(يقول الإمام علي رضي الله عنه: من نصب نفسه للناس إمامًا؛ فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) (المصدر السابق، ص 56- 57 بتصرفٍ).

ومِن تمام إعداد المعلم: أن يكون لديه الإلمام الواسع بالمادة التي يدرِّسها، والقدرة على إجادة عرضها، فيجذب الطلاب إليه ويشوقهم لما يدرسه لهم، ويبعد عنهم الملل والسأم.

(وينبغي ألا يقتصر المعلم -في هذا المجال- على العمق فيما تخصص فيه -وإن كانت لذلك الأولوية-، بل يعتني بتنمية معلوماته العامة في غير مجال التخصص، فإن ذلك من شأنه أن يكسبه ثقة طلابه ويمنحه حبهم، والقدرة على التأثير فيهم.

ومما يجود عمله في هذا المجال أيضًا: أن يكون على إلمام بطرق التدريس ليختار لكل مرحلة ولكل مادة الطريقة المناسبة لها، مثله مثل الطبيب الذي يصف لكل مريض ما يناسبه من الدواء، وإذا أهمل المعلم هذه الصفة أثَّر ذلك على أدائه كمعلم، وبات مجرد ملقن للدارسين ما لديه من المعارف القليلة، ومع قلة استفادة الطلاب منه ينزعون ثقتهم به ويقلون من احترامهم له، حين ينظرون إليه فيجدونه فارغًا).

(عن سفيان بن عيينة -رضي الله عنه- أنه قال يومًا لأصحابه: مَن أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قالوا: قل يا أبا محمد. قال: ليس أحد أحوج إلى طلب العلم مِن العالِم؛ لأنه ليس الجهل بأحدٍ أقبح به من العالِم) (المصدر السابق، ص 58 - 59 بتصرفٍ).

وينبغي إلى جانب ذلك: أن يراعي المعلم حسن مظهره ونظافة ملبسه في رجولة ووقار، لا إفراط فيه ولا تفريط، فذلك أدعى إلى قبول الطلاب والمتعاملين له؛ ولئلا ينفر منه الطلاب أو تتناوله الألسن بالكلام، (عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: (ما أعلم أني رأيت أحدًا أنظف ثوبًا، ولا أشد تعاهدًا لنفسه في شاربه وشعر رأسه، ولا أنقى ثوبًا وأشده بياضًا من أحمد بن حنبل). وعن يحيى بن محمد الشهيد قال: (ما رأيت محدثًا أورع من يحيى بن يحيى، ولا أحسن لباسًا منه) (راجع المصدر السابق، ص 59- 60).

كما ينبغي على المعلم أن يجعل علاقته بطلابه يشوبها الود والمحبة والترابط فيتعدهم ويتعرف على أحوالهم ويقدم لهم ما استطاع من مساعدة إذا احتاجوا إليها وقدر هو عليها، فينبغي أن يؤدي المعلم في حياة الطالب دورًا لا يقل عن دور الأب.

روى الإمام أبو يوسف عن نفسه أنه كان يطلب الحديث والفقه في مجالس الإمام أبي حنيفة، وهو مقلّ ورَثّ الحال، فدعاه أبوه إلى ترك مجلس أبي حنيفة والالتفات إلى معاشه الذي يحتاج إليه، يقول: (فقصرت عن كثيرٍ مِن الطلب، وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة -رضي الله عنه- وسأل عني، فجعلني أتعهد مجلسه، فلما كان أول يوم آتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي. فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلى صرة، وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة، وإذا فرغت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلى مائة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يُخبَر بنفادها حتى استغنيت وتمولت) (راجع المصدر السابق، ص 66 - 67 نقلًا عن وفيات الأعيان لابن خلكان (6 / 38) ط. دار صادر- بيروت المحققة).

دور المعلم في الربط بين التعليم والتربية الإسلامية:

يحتم الجانب التربوي من رسالة المعلم على ألا يقتصر دوره على حشد المعلومات وحشو الأذهان من خلال تدريس المقرر، ولكن ينبغي عليه العمل الجاد المستمر للارتقاء بسلوك طلابه وتربية قلوبهم من خلال المادة التي يدرسها (ويتحمل المعلم العبء الأكبر في تحقيق هذا الهدف؛ إذ إنه يلتقي في اليوم الواحد مع العديد من الطلاب، ولفتراتٍ تزيد على السنة أحيانًا، وكلهم -بين يديه- آذان صاغية وعقول واعية، وتأثرهم به واقع لا محالة، إن كان نفعًا أو ضارًا، وإن خيرًا أو شرًّا)، (هذا ولا يخلو علم مِن العلوم من إمكانية توجيهه لصالح التربية الإسلامية وخدمة قضايا الدعوة إذا وجد المدرس الكفء، وتجرد لخدمة الإسلام من خلال تخصصه).

(وأمامنا تجربة الغرب بشقيه: الرأسمالي والشيوعي، فقد نجحوا هناك في إخضاع كافة العلوم لتحقيق أهدافهم؛ ليس هذا فحسب، ولكنهم صدَّروا إلينا مناهجهم وطرائقهم في التعليم؛ مما أدَّى إلى نشأة أجيال مسلمة لا تعرف الإسلام، ولا تحب أن تتعرف عليه كما صرح بذلك زويمر زعيم المبشرين).

(وعلى سبيل التمثيل لإمكانية تطويع التعليم لخدمة الدعوة الإسلامية أسوق هذا المثل لأحد قادة الدعوة الإسلامية بالجزائر، وهو: الشيخ "عبد الحميد بن باديس" -رحمه الله-؛ فقد كان الشيخ حريصًا على سلامة اللسان العربي في الجزائر مِن محاولات المستعمرين الفرنسيين القضاء عليه واستبداله باللسان الفرنسي، فكان يدرس للناس في المساجد والزوايا علوم اللغة العربية، ومنها: علم النحو، وكان يشرح لهم ألفية ابن مالك، فكان يقف عند الكلمات والأمثلة، ويستخرج منها معاني تربوية، فإذا قال مثلًا:

كـلامـنا لـفـظ مفيد كاستـقـم              واسم وفعل ثم حرف الكلم

قال: (كلامنا) أي: نحن العرب المسلمين.

(لفظ مفيد) أي: لا مجال فيه للمهاترات، وتضييع الأوقات.

(كاستقم): فيطيل الكلام حول الاستقامة وأهميتها ومنزلتها من الدين، وهكذا... ثم يشرح القواعد.

ولئن استطاع الشيخ "عبد الحميد بن باديس" أن يخضع علم النحو لتحقيق أهداف تربوية تخدم الإسلام، فإن بإمكان أي معلم أن يخضع مادته لتحقيق نفس الأهداف إذا صدقت النوايا، وبدا في سلوك المعلم حرصه على هذا الأمر، وساعدته إدارة ومناهج للوصول إلى هذه الغاية) (المصدر السابق، ص 61 - 64 بتصرفٍ).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة