الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس من قصة السحابة التي أُمرت أن تسقي حديقة الرجل الصالح (موعظة الأسبوع)

رعاية الله وحفظه للصالحين من عباده الذين يستقيمون على أمره- فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله- فضل العمل والسعي في طلب الأرزاق...

دروس من قصة السحابة التي أُمرت أن تسقي حديقة الرجل الصالح (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الخميس ٢٧ أغسطس ٢٠٢٠ - ١٧:٣٧ م
739

دروس من قصة السحابة التي أُمرت أن تسقي حديقة الرجل الصالح (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- مِن وسائل التربية النبوية القصص: قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111).

- ومن ذلك: قصة الرجل المزارع الصالح، الذى أمر الله السحاب بسقي مزرعته مِن بين مزارع الناس مِن حوله؛ لاستقامته على أمر الله: روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ) (رواه مسلم).

شرح مجمل للقصة، ثم التعرض لذكر الدروس والفوائد:

(1) رعاية الله وحفظه للصالحين من عباده الذين يستقيمون على أمره:

- إذا رضي الله عن العبد، سخَّر له ما يشاء، وغيَّر له نواميس الكون: ففي القصة: (اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ)(1)، وفي قصة الرجل الأمين والخشبة: (فرَمى بها في البحرِ حتَّى وَلَجَتْ فيه، ثمَّ انصَرَفَ) (رواه البخاري)، وفي آخر القصة: (قالَ: فإنَّ اللَّهَ قدْ أَدَّى عَنْكَ الذي بَعَثْتَ في الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بالألْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا) (رواه البخاري)(2).

- وقفات تأمل: تظهر كيف غير الله للصالحين نواميس الكون: (هاجر أم إسماعيل -عليها السلام- وقصة بئر زمزم - مريم -عليها السلام- وتوفر الرزق في محرابها - جريج العابد وإنطاق الله لرضيع المرأة البغي - ... )، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق:2-3).

(2) فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله:

- الصدقة تحفظ المال وتزكيه وتباركه: ففي القصة: (أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ)، وفي رواية: (وَأَجْعَلُ ثُلُثًا فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ) (رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثةٌ أقسِمُ عليْهنَّ، وأحدِّثُكم حديثًا فاحفظوهُ، قالَ: ما نقصَ مالُ عبدٍ من صدقةٍ، ولا ظلِمَ عبدٌ مظلمةً فصبرَ عليْها إلَّا زادَهُ اللَّهُ عزًّا، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلَّا فتحَ اللَّهُ عليْهِ بابَ فقرٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

- البخل والإمساك يذهب المال وبركته، ويعرِّض للعقوبة: قال الله -تعالى- عن أصحاب المزرعة البخلاء: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ . فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (القلم:17-24).

- المتصدق في زيادة وسعادة، والبخيل في نقص وضيق وغم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ البَخِيلِ والمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عليهما جُبَّتانِ مِن حَدِيدٍ مِن ثُدِيِّهِما إلى تَراقِيهِما، فأمَّا المُنْفِقُ فلا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَتْ أوْ وفَرَتْ علَى جِلْدِهِ، حتَّى تُخْفِيَ بَنانَهُ وتَعْفُوَ أثَرَهُ، وأَمَّا البَخِيلُ فلا يُرِيدُ أنْ يُنْفِقَ شيئًا إلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكانَها، فَهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعُ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (رواه البخاري ومسلم).

(3) فضل العمل والسعي في طلب الأرزاق:

- كان صاحب القصة يعمل بالزراعة، ويأكل من كسب يده: ففي القصة: (فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ).

- العمل في طلب الأرزاق أفضل من قبول الهدايا والعطايا، فضلًا عن سؤال الناس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ -عليه السلام- كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ)(3) (رواه البخاري)، وروى عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: "كانَ داودُ زرَّادًا، وَكانَ آدمُ حرَّاثًا، وَكانَ نوحٌ نجَّارًا، وَكانَ إدريسُ خيَّاطًا، وَكانَ موسى راعيًا" (رواه الحاكم في المستدرك). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ فَيَحْمِلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَأْكُلَ أَوْ يَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا أَغْنَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) (رواه أحمد في مسنده بسندٍ صحيحٍ).

(4) فضل الوسطية والاعتدال:

- كان صاحب القصة مثالًا للعامل المسلم، فهو يعرف لكل ذي حق حقه: ففي القصة: (فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ)، ومن ذلك توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الثُّلثُ والثُّلثُ كثيرٌ) (رواه البخاري).

- وقفة مهمة: التحذير من المغالاة في جانب من الثلاثة على حساب الجوانب الأخرى بأمثلة:

1- المغالاة في جانب العمل والسعي في طلب الرزق على حساب الجوانب الأخرى: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ) (رواه البخاري، وابن ماجه واللفظ له).

2- المغالاة في جانب الأهل على حساب الجوانب الأخرى(4): قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون:9-10)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن:14).

3- المغالاة في جانب العبادة على حساب الجوانب الأخرى: عن أنس -رضي الله عنه-: أنَّ نفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، وقال بعضُهم: أصومُ فلا أُفطِرُ، فبلَغ ذلكَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: (ما بالُ أقوامٍ يقولونَ كذا وكذا، لكنِّي أُصلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس منِّي) (متفق عليه).  

- خير الأمور الوسط: قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة:143)، وعن عائشة -رضي الله عنها-قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه)، وقال سلمان لأبي الدرداء: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صَدَقَ سَلْمَانُ) (رواه البخاري).

خاتمة:

- تذكير بالقصة والإشارة إلى فضل الاستقامة على دين الله -سبحانه وتعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أي: دون سائر المزارع من حولها، وهذا أمر عجيب!

(2) إشارة الى رعاية الله لهذا الرجل الصالح من خلال مشاهد: (كيف سخَّر الله البحر لحمل الخشبة، وتوجيهها الى جهة معينة، وعدم غرقها، أو أخذها من بعض السفن، وكيف سخر صاحب المال للخروج في وقت وصول الخشبة، وكيف سخره لأخذها، ونشرها، و...  و... ).

(3) والحكمة في تخصيص داود بالذكر: أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص:26).

(4) إن الحكايات المأسوية في هذا المعنى لا تُحصى. ومِن ذلك: قصة الرجل الذي كان معي في المخيم في الحج، وكان موظفًا كبيرًا في إحدى شركات البترول، فلما بلغ سن المعاش تغيرت معاملة زوجته وأولاده، واحتالوا عليه حتى كتب لهم أكثر ممتلكاته ثم أخرجوه من المنزل في مواقف مؤلمة، ثم شاء الله له خيرًا من أهله وولده، فتزوج من امرأة صالحة رضيت بحاله، أغناه الله معها، حيث عاد إلى عمله مستشارًا، فتحسنت أحواله المادية مرة أخرى وخرج مع هذه الزوجة للحج شكرًا لله -عز وجل-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة