الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أسباب الحرج المُهلِك!

فإن أظلم القلب وخلا من النور، ضاق الصدر بالأمر والنهي، وتخلَّفت الاستجابة لله ورسوله

أسباب الحرج المُهلِك!
نور الدين عيد
الاثنين ١٦ نوفمبر ٢٠٢٠ - ١٥:٣٢ م
471

أسباب الحرج المُهلِك!

كتبه/ نور الدين عيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيتلخص الحرج الذي يقع في صدر الإنسان في عوامل خارجية لها تأثير في داخله، وداخلية لها تأثير في خارجه؛ فهذا الضيق الذي يخنقه بداخله بادٍ على وجهه ونطقه، يلخصه عند تمامه قول الله -تعالى-: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر:45). (اشْمَأَزَّتْ) أي: انقبضت.

قال صاحب "الكشاف": "وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه، فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية".

ومِن جملة أسباب هذا الضيق في الصدر:

- ظلمة المحل:

فإن أظلم القلب وخلا من النور، ضاق الصدر بالأمر والنهي، وتخلَّفت الاستجابة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصار شأنه كمثل الميت أو مَن يكابد الموت؛ لأن استجابته سبب حياته، وتخلفه سبب موته وشقائه في دوره الثلاث، قال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24)، فالكافر خرب القلب، له وحشة وكآبة تعصر فؤاده، ولولا سعيه للشهوات وتحصيلها لمات كمدًا، فهو يسعى نحو السراب الذي يعكس أمانيه، وسعيه مهدف لا يزاحم بغيره، فلا يقبل له شريكًا؛ لأنه لم يذق بعد ذاك الذي أذاب كل الكروب والمحن في جميل مذاقه، فإذا ورد عليه الصفو دافعه المحل العكر، وإذا صادف ساعة فتصدر بقلبه لهذا النور تحول عن حاله كالمقذوف من شاهق.

عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه-: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي فِدَى بَدْرٍ، وَمَا أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ عَنْ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ" (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ)، وعند البخاري في صحيحه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:35-37)، قَالَ: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ".

فهذا الانزعاج مبدد للشكوك، مذهب للظلمة، موجِد للأمن، مفتت لكل هم وصارف؛ فهذا السبب الأعظم في ضيق صدور الكفرة والمنافقين، والظلمة المجرمين مِن شرع الله؛ ولذا فهم يحاربونه، فمَن تحوَّل عن هذه الأوبئة والأدناس لرحاب الشريعة وحسنها، زال عنه هذا الضيق بذكرها، وهذا يتفاوت حسب إيمانه ومعصيته.

- كثرة الضغوط :

وهذا يحدث لضعف الإيمان أو بعض شعبه: كالعلم، فيتعرض للهجوم الكاسح من الشكوك، ولا يجد ما يدافعه فيقع الحرج منه، وهذا قد يبدو ضحية معذورًا، والصحيح أنه توعد كما توعد المنتحر الذي يقبل على الهلاك ولا يحمل زاد المدافعة؛ لذلك اتفق السلف على ذم الجدال والمناظرات والتشكيك خاصة للجاهل غير المتقن.

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "مَن جعل دينه غرضًا للخصومات، أكثر التنقل".

وعن معمر قال: "كنت عند ابن طاوس وعنده ابن له، إذ أتاه رجل يقال له: صالح يتكلم في القدر، فتكلم بشيء فتنبه، فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع مِن قوله شيئًا، فإن القلب ضعيف"، قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "أكثر أئمة السلف على هذا التحذير؛ يرون أن القلوب ضعيفة، والشُّبَه خطَّافة".

وذكر ابن القيم -رحمه الله- عن شيخه هذا البيان فقال: "قَالَ لي شيخ الإسلام -رضي الله عَنهُ- وَقد جعلتُ أورد عَلَيْهِ إيرادًا بعد إِيرَاد: لا تجعل قَلْبك للإيرادات والشُّبُهات مثل السفنجة؛ فيتشربها فَلَا ينضح إلا بهَا، وَلَكِن اجْعَلْهُ كالزجاجة المصمتة تمر الشُّبُهَات بظاهرها وَلَا تَسْتَقِر فِيهَا، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وَإِلَّا فإذا أشربت قَلْبك كل شُبْهَة تمر عَلَيْهَا صَار مقرًّا للشبهات!" (مفتاح دار السعادة).

ومَن يعتبر بذلك ينجو، فهناك مَن كان يسعى لخدمة الدين، وتحكيم شرعة رب العالمين مع قلة علم في ترتيب الأولويات، والثوابت والمتغيرات، وفقه واقعه؛ فانقلب على عقبيه ينكر المجمع عليه، ويولي ظهره للقطعيات تحت أوهام ظنها مصالح، أو بات يظنها شرعًا بالتأويل! وإذا انقلب العبد فصار خلف هذه الشواذ من الآراء؛ ضعف قلبه، وتحوَّل فكره، وخَاطَر بآخرته في أمواج متلاطمة، وهؤلاء أشق شيء عليهم أن يبصروا، فاعتبر بقلبك مفتقرًا، واسأل الذي دلك أولًا أن يثبتك حتى تلقاه.

إلى الله نشكو ضعفنا، وببابه ننزل حاجتنا، والله المستعان.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com