الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (88) فوضى المقابر وانتهاك حرمة الموتى (2-2)

الفساد (88) فوضى المقابر وانتهاك حرمة الموتى (2-2)
علاء بكر
الخميس ١١ مارس ٢٠٢١ - ١٠:٠١ ص
376

الفساد (88) فوضى المقابر وانتهاك حرمة الموتى (2-2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فترتبط نظرة الإنسان إلى الموت والموتى بعقيدته المتعلقة باليوم الآخِر، ومن هنا؛ فإن المسلم يستمد نظرته إلى الموت مِن خلال الإيمان باليوم الآخر كما ورد في الكتاب والسُّنة، وفي ضوء أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بذلك.

فالحياة تمر عند المسلم بثلاث مراحل:

- حياة الإنسان الدنيوية على ظهر الأرض: مِن ميلاده إلى وفاته، وهي الحياة التي نعرفها ونعيشها وتعودنا عليها، وصبغنا فكرنا وفهمنا وتصوراتنا بها، فهي ليست غريبة علينا.

- حياة الإنسان في القبر في باطن الأرض: من بعد دفنه بعد الموت إلى بعثه يوم القيامة للحساب والجزاء، وهي حياة لها مواصفات أخرى تختلف تمامًا عن مقاييسنا في الدنيا، فقد نظن أن الميت في سكون دائم، لا يتعرض لأي أحداث، وقد نظن أنه إن تحلل وصار ترابًا فقد انتهى وصار أشبه بالعدم، والحقيقة غير ذلك؛ إذ إن في القبر حياة أخرى أخبرنا الشرع ببعض مواصفاتها مما لا نستطيع إدراكها بعقولنا، أو رؤيتها بعيوننا، أو سماعها بأذاننا؛ ففي الحديث المرفوع: (لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) (رواه مسلم).

والميت يأتيه ملكان فيسألانه، والقبر قد يكون روضة مِن رياض الجنة ينعم فيها الميت، وقد تكون حفرة مِن حفر النيران -والعياذ بالله- يعذَّب فيها الميت، فالقبر مدخل للآخرة وجزء منها، بل هو بدايتها، فليس القبر بالمثوى الأخير للإنسان، لكن القبر برزخ يمر بعده الإنسان إلى حياته الأخرى التي هي حياته الأبدية.

حياة الإنسان الأبدية في الجنة أو النار: وهي حياة أيضًا ليست كحياتنا في الدنيا؛ إذ لها مواصفات أخرى فوق ما قدرات تصورنا، ففي الجنة ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر، وفي النار عذاب دائم لا يطاق يعرض مَن يتعرض له إلى الموت، ولكن لا يموت به، فيأتيه الموت مع العذاب مِن كل مكان، ولو كان في الدنيا لمات به، لكنه في الحياة الآخرة لا يموت به؛ فهي حياة لا يموت فيها المرء ولا يحيا، قال الله -تعالى-: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) (فاطر:36)، وقال -تعالى-: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى . ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) (الأعلى:11-13). والمراد بيان اختلاف حياة الإنسان على ظهر الأرض، وحياته بعد الدفن في باطن الأرض، وحياته بعد البعث في الجنة أو النار، ولا تقاس حياة منها على أخرى، فلكل منها خصوصياتها الخاصة بها، وما غاب عنا منها وورد الشرع به نؤمن به ونعمل بمقتضاه، وندع التفكر في كيفيته إلى أن نلقاه.

ومِن خلال الإيمان باليوم الآخر وأهمية هذا الإيمان، فإن هناك أمورًا لها رهبة -أو ينبغي أن تكون لها رهبة- في حياة المسلم، بل هي تميز المسلم عن غير المسلم في النظرة لها، فمنها:

- رهبة لحظة الموت: فهو مدخل لمنازل الآخرة، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) (الأنعام:93)، وفي الحديث المرفوع: (إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ) (رواه البخاري).

وفي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّت به جنازة فقام -أي: وقف لها-، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) (متفق عليه)، وفي رواية عند البيهقي: (إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ)، وكذا لمسلم من وجه آخر.

قال الشوكاني -رحمه الله-: "قال القرطبي: معناه: أن الموت يفزع. قال البيضاوي: وهو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة أو فيه تقدير، أي: الموت ذو فزع، ويؤيد ذلك: ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: (إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا). واختلاف العلماء في حكم القيام للجنازة: هل هو واجب أم منسوخ أم مندوب لا ينافي بقاء حكمة ذلك، وهو تذكر الموت وفزعه.       

- رهبة القبر: ففيه حياة البرزخية، لا تخلو مِن نعيم أو عذاب وإن كان بكيفية لا نعرفها، قال -تعالى-: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، أي: في القبر (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:45-46). وفي الحديث المرفوع: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) (متفق عليه)

- احترام الموتى: فهم ليسوا جمادًا ولا أصنامًا، وهم ينعمون أو يعذبون، لكنهم في حياة لا ندرك حقيقتها إلا في حدود ما أخبرنا الشرع به؛ ولهذا فمما لا يليق في التعامل مع المقابر: ترك الميت فلا يدفن، أو أن ينبش قبره بعد الدفن بلا حاجة معتبرة تستدعي ذلك، أو أن يكسر عظمه أو يهتك ستره أو يسرق كفنه.

دعاء الموتى والتبرك بهم:

مِن أشنع المخالفات عند القبور ما يفعله كثير من العوام والمتصوفة مِن توجيه العبادات لأصحاب القبور ممن يظنون فيهم الولاية والصلاح، حيث يكثر هؤلاء مِن التردد على أضرحة الصالحين والأولياء وعلى المساجد المقامة على أضرحتهم في مواسم وموالد وأزمنة لكل منها، وفي غيرها، حيث يتوجهون لهذه القبور بالدعاء والتوسل الشركي بهم والنذر والذبح لهم، والتبرك بالأضرحة والقباب والمشاهد، وهم في ذلك كله يعتقدون في قدرة هؤلاء الموتى على جلب النفع لهم، وتحقيق مطالبهم، وإشفاء مريضهم، ودفع الضر عنهم، ونحو ذلك مما لا يملكه إلا الله -تعالى- وحده، وكل هذه أمور تعبدية لا يجوز صرفها لغير الله -سبحاته-؛ فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وفاعلها ممن يشركون بالله -عز وجل- الشرك الأكبر المخرج مِن دائرة الإسلام.

وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خَرَجَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ، وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً) (الأعراف:138)، إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)

وفي النهي عن بناء المساجد على قبور وأضرحة الصالحين، جاء في الصحيح عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ، أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) (متفق عليه).

وقال -تعالى- في شأن دعاء غير الله -تعالى-: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن:18)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف:5-6)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:13 -14)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (يونس:106)، وفي الحديث المرفوع: (مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ) (رواه البخاري).

وقال -تعالى- في شأن التوسل الشركي: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء :56-57).

وقال -تعالى- في كون النذر عبادة يتقرب بها لله -تعالى-: (ثم ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29)، وقال -تعالى-: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) (الإنسان:7).

وفي الحديث: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ -اسم لمكان- فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: (هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟)، قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وفي كون النحر والذبح عبادة لا تكون إلا لله وحده، قال -تعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2).  

ولا يخفى أن الغلو في الصالحين هو عين ما كان عليه أهل الشرك وعُبَّاد الأصنام مِن قوم نوح -عليه السلام- إلى مشركي مكة، ففي شأن قوم نوح ورد في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح:23)، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت، أما كفار مكة فقالوا في شأن الأصنام التي كانوا يعبدونها كما حكى الله عنهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر:3)

وخلاصة الأمر: أن زيارة القبور؛ إما أن تكون زيارة شرعية، وإما أن تكون زيارة بدعية، وإما أن زيارة شركية.

فالزيارة الشرعية للقبور: المقصود منها: السلام على الميت، والدعاء له، وطلب المغفرة له، وفيها تذكر الآخرة وذكر الموت، وهي مستحبة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر زيارة القبور، ويعلِّم أصحابه كيفية الزيارة والسلام والدعاء للموتى.

والزيارة البدعية للقبور: هي الزيارة التي يصحبها الإتيان بأعمال أو أقوال محرمة، وتكون وسيلة وذريعة إلى الغلو في الموتى ممَّن يظن فيهم الصلاح: كإقامة الوالد عند أضرحتهم، والتوسل بذواتهم أو جاههم، أو الصلاة عندها، أو البناء عليها، إلى غير ذلك مِن مظاهر الغلو التي لا تبلغ صرف عبادة من العبادات لها من دون الله -تعالى-، وهي زيارة محرمة، وهي ذريعة إلى الغلو في الصالحين من الموتى، ومخالفة لهديه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- في زيارة القبور.

والزيارة الشركية: هي الزيارة التي تتضمن أفعالًا أو أقوالًا كفرية: كدعاء الصالحين من المقبورين والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، والذبح والنذر لهم، والطواف حولهم، وتعلق القلب بهم خوفًا وطمعًا ورجاءً، واعتقاد قدرتهم على جلب النفع أو دفع الضر وإجابة الدعاء، وهي من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام -والعياذ بالله تعالى-.

والناس في معاملة مَن يظنون فيهم الصلاح على ثلاثة أقسام:

- أهل جفاء: وهم مَن يهضمون حقوق الصالحين، ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة والاحترام.

- أهل غلو: وهم مَن يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، ويجاوزون الحد المشروع في احترامهم وتبجليهم.

أهل الحق: وهم الذين يحبون الصالحين ويوالونهم ويقومون بحقوقهم، ولكنهم لا يغالون فيهم.

ومبنى ذلك على الخلط بين حقين: حق خاص لله -تعالى-، وهو عبادته وحده لا شريك له، وحق خاص بالصالحين، وفي مقدمتهم: الرسل والأنبياء وهو تبجيلهم واحترامهم وموالاتهم دون الغلو فيهم، وسبب الغلو هو: إعطاء الحقوق الخاصة بالله -تعالى- لغيره مِن الرسل والأنبياء أو الصالحين.

وأبرز مظاهر الغلو في الصالحين، بل والوقوع في الشركيات نراها في الموالد التي تُقام حول أضرحة وقبور الصالحين، وهذه الموالد بدعية لم تعرف في قرون الخيرية ولم تكن من فعل السلف الصالح.

يقول الشيخ علي محفوظ -رحمه الله- في كتابه: "الإبداع في مضار الابتداع" مبينًا أول مَن ابتدع بدع الموالد: (قيل: أول مَن أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون في القرن الرابع -أي: الهجري- فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي -رضي الله عنه-، ومولد السيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-، ومولد الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، ومولد الخليفة الحاضر -أي: الخليفة الفاطمي الذي يحكم الدولة-، وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل ابن أمير الجيوش، ثم أعيدت في خلافة الآمر بأحكام الله في سنة أربع وعشرين و خمسمائة بعد ما كاد الناس ينسونها).

وقال المقريزي: "وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي مواسم: رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد الحسن والحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد الخليفة الحاض، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركويات" (الخطط، ص1/ 490 وما بعدها).

وفي هذه الموالد يكون إنفاق الأموال الكثيرة؛ فتقام السرادقات الكبيرة، وتوقد الأنوار الكثيرة، وتقدم أنواع من الحلوى والمأكولات، والمشروبات على جموع الناس، ويتنافس الأغنياء والوجهاء بما لا يخلو من رياء وسمعة، ويجتمع المحتفلون ومعهم آلات غناء، وتُقام حلقات ذكر جماعي على طريقة المتصوفة، فيعم الضجيج والصياح والغناء لساعاتٍ وساعاتٍ، وينشغلون بذلك عن واجبات للدين وسننه، بل شأنهم تقديم ذلك عليها.

ومن بدعهم فيها: الطواف بمواكب مزينة في الشوارع، بين مغنيين ومنشدين وراقصين، في جموع سمتها الاختلاط حتى تنتهي إلى أضرحة الصالحين، فتنشد الأشعار وتتلى المدائح النبوية التي لا تخلو من غلو في النبي -صلى الله عليه وسلم- يصل إلى الشرك -والعياذ بالله تعالى-، ومِن أشهرها: بردة البوصيري، ومِن أبياتها التي يخاطب فيها البوصيري النبي -صلى الله عليه وسلم-:

فـإن من جـودك الدنيا وضرتها          ومن علومك علم اللوح والقلم

ومنها أيضًا:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ            به سـواك فـي الحـادث العمم

ومِن ذلك قول آخر مخاطبًا النبي -صلى الله عليه وسلم-:

مـولاي مـولاي فـرِّج كل مـعـضـلة     عني فقد أثقلت ظـهري الخـطـيات

واعطف علي وخذ يا سيدي بيدي       إذا داهـمتـني الـملـمات المهـمات

السحر في المقابر:

ومِن شرِّ الأعمال: خلط بعض السحرة أعمال سحرهم بالمقابر، حيث يفضل بعض السحرة القبور لأعمالهم السحرية؛ لصعوبة الوصول إليها، وتحديد مكانها لإبطالها، وربما استغل بعض التربية أو المغسلين للموتى ذلك لتمرير أعمال هؤلاء السحرة من خلال التعدي على المقابر والأموات مقابل الحصول على عائد مادي كبير نظير ذلك من خلال دفن الأعمال السحرية مع الموتى أو في أكفانهم، أو نبش القبر لأخذ سنة من أسنان ميت لوضعها في حجاب ساحر أو دجال و نحوه، أو غرس أحجبة بدبابيس بين القبور (كما أن سحر الغسل معروف في جميع أنحاء العالم العربي، وهو ما يستخدم فيه السحرة أدوات غسل الميت وماء الغسل، وهو من أنواع السحر الأسود المنتشرة، وغالبًا ما يُستخدم هذا النوع بهدف التفريق بين الأزواج أو العقم أو تعطيل الزواج، وأحيانًا بهدف أن يكون الزوج منصاعًا لزوجته ولا يعارض في تصرفاتها، وفيما يخص السحر بعظام الميت؛ فنجد السحرة ينبشون القبور للوصول إلى عظام الميت، ويكتبون عليها التعاويذ والطلاسم، ثم يعيدون العظام مرة أخرى إلى القبر لدفن السحر، ويستخدم هذا السحر لأغراضٍ كثيرةٍ، منها: سحر الجلب، وسحر الانتقام. ولعظام الميت استخدام آخر في السحر حيث تستخدم العظام كبخور، والذي اشتهر باسم بخور عظم اليهودي) (انظر: تحقيق (بيزنس الموتى) جريدة (صوت الأمة ) عدد 16 مارس 2019 م، ص 6)

عرض موميات قدماء المصريين:

من القضايا التي أثيرت هذه الأيام: دعوة البعض إلى دفن موميات قدماء المصريين، وكذلك الدعوة إلى منع عرض هذه الموميات في المتاحف المختلفة، وهي دعوة ليست بجديدة فقد أثيرت في أزمنة ماضية، فقد سبق أن قام الرئيس الراحل أنور السادات بإغلاق غرفة الموميات بالمتحف المصري بميدان التحرير، ومِن قبله قام الملك فؤاد بذلك، ولشيخ الأزهر جاد الحق فتوى في منع عرض الموميات في المتاحف؛ خاصة وقد مَرَّ نحو قرن من الزمان على اكتشاف مومياء توت عنخ أمون، أشهر مومياء مصرية قديمة، ولكن الدعوة  للأسف لم تجد أي استجابة؛ إذ مضى الأمر على تقديم المنافع السياحية والدراسة التاريخية على ما هو أولى "وهو دفن هذه الموميات"؛ إذ هي جثامين لبشر ليست بحجارة أو أصنام.

ودفن الموتى هو دأب البشرية مِن زمن آدم -عليه السلام- إلى اليوم، وقد بيَّن القرآن الكريم هذا الأمر وأكَّد عليه، وعليه تستقيم الحياة، وتُحفظ كرامة الإنسان؛ فظاهر الأرض للأحياء، وباطنها للأموات:

- قال الله -تعالى- في قصة ابني آدم: قابيل وهابيل، وقتل قابيل لأخبه هابيل -وهو أول قتيل على الأرض-:  (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة:31).

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "بعث الله الغراب حكمة؛ ليري ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (عبس:21)، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضًا على جميع الناس على الكفاية، ومن فعله منهم سقط فرضه عن الباقين، وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين. وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: (اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا، حَتَّى تَأْتِيَنِي) فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي. (رواه أبو داود، وصححه الألباني).  

- وقال -تعالى-: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) أي: مِن الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض. (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) أي: وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)" (تفسير ابن كثير).

وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) (نوح:17-18).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) أي: إذا متم، (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) أي: يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة" (تفسير ابن كثير).

- وقال -تعالى-: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا . أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) (المرسلات:25-26).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال ابن عباس: (كِفَاتًا) كُنَّا. وقال مجاهد وقتادة: يكفت الميت؛ فلا يُرى منه شيء. وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم، وكذا قال مجاهد وقتادة" (تفسير ابن كثير).

- وقال -تعالى-: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ . ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ . ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ . ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) (عبس:17-22).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي: أنه بعد خلقه له أماته فأقبره، أي: جعله ذا قبر" (تفسير ابن كثير).  

وظاهر هذه الآيات وكلام المفسرين فيها أنها عامة تشمل دفن الموتى من المسلمين، وغير المسلمين.

وفي السُّنة النبوية ورد أن مِن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن الكفار؛ إذ أمر علي بن أبي طالب بدفن أبي طالب لما تُوفي، وكان قد مات على غير الإسلام، وقد ورد كذلك مواراته -صلى الله عليه وسلم- قتلى المشركين من قريش بعد مقتلهم في غزوة بدر في قليب -أي: بئر-، ولم يتركهم -على كفرهم- بلا مواراة.

وقبور الأمم السابقة من غير المسلمين والتي أهلكها الله لها معاملة خاصة دون غيرها، فقد ورد في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما قال: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْحِجْرِ -يعني: ديار ثمود أصحاب الحجر-، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ) ثُمَّ زَجَرَ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا. (متفق عليه). وفي رواية: (لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) (متفق عليه)؛ فهذا في دخول مساكنهم؛ فكيف بدخول مقابرهم؟!

وتدل الآثار الموجودة في مقابر هذه الموميات أنهم كانوا على الشرك والوثنية؛ يعبدون آلهة متعددة مِن دون الله -تعالى-، فلا نأمن أن يكونوا يعذبون في قبورهم بما لا نعلم كيفيته، فلندعهم لشأنهم فيها.

ومصر تمتلك ثروة ضخمة مِن الآثار بما يغني عن التمسُّك بعرض هذه الموميات، وإن أصر البعض على التعرض لها بالبحث فيها ودراستها -ولا نرضى به- فلتدفن بعدها لا أن تُعرض.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة