الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (89) الصناعة ودورها في الاقتصاد المصري (1)

الصناعة عبر التاريخ ترمز إلى التقدم العلمي

الفساد (89) الصناعة ودورها في الاقتصاد المصري (1)
علاء بكر
الاثنين ١٥ مارس ٢٠٢١ - ١٧:٥٩ م
287

الفساد (89) الصناعة ودورها في الاقتصاد المصري (1)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد عرفت مصر الزراعة والصناعة منذ قديم الزمان، وأقامت عليهما حضارة عريقة بقيتْ آثارها على جدران المعابد تشهد على ما كان عليه المصريون القدماء من عمران وأبنية ومدن، شمالًا وجنوبًا، وآلات للزراعة وشق للترع، وربط للنيل بالبحر الأحمر، وصناعة أسلحة للقتال وعجلات حربية، ومراكب كبيرة جالت النيل، ثم البحر الأحمر إلى بلاد بونت (الصومال حاليًا)، وغيرها.

ومعلوم أنه لا حضارة بلا صناعةٍ، فالصناعة عبر التاريخ ترمز إلى التقدم العلمي، بينما الاقتصار على الزراعة وحدها أصبح يرمز عبر التاريخ إلى التخلف.

ومعلوم أن عصر النهضة في أوروبا ارتبط بالآلة والتقدم الصناعي، والتحول بالتالي من مرحلة الزراعة وما ارتبط بها من إقطاع، إلى مرحلة الصناعة والاتجاه إلى الرأسمالية.

الصناعة عند قدماء المصريين:

استعمل المصريون القدماء نوعين من الحجارة:

إحداهما: الأحجار الكريمة، والتي كانت تُحفظ في أكياس صغيرة، وكانت تأتي من المناجم الشرقية: كما في الفيروز والزمرد، ومِن النوبة: كما في العقيق الأحمر والامتست، ومِن آسيا مثل: اللازرود.

وقد استعملت هذه الأحجار الكريمة وشبه الكريمة في تطعيم الخشب والذهب، وصنع التمائم؛ قام بذلك عمال في غاية المهارة.

وثانيهما: الكتل الصلبة من الحجارة، والتي توافرت في مصر القديمة؛ فقد استعملها النحاتون والبناؤن؛ لا سيما الحجر الجيري.

وقد استغلت الأحجار الخشنة في بناء الجدران الداخلية ونوايا الأبنية، واستخدمت الأحجار الجميلة لزخرفة الحوائط الرئيسية، وفي تشييد المعابد الفخمة، وكانت هذه الأحجار تقطع بعناية خاصة من محاجر معينة.

وقد جلب المصريون القدماء الحجر الرملي الأصفر من جبل السلسلة، والحجر الجيري الأبيض من طرة، والجرانيت الرمادي أو الأحمر من أسوان، والكوارتزيت الأحمر من الجبل الأحمر، والمرمر من مصر الوسطى، ويضم معبد رمسيس الثاني كل هذه الأنواع، وهو خير معرض لشتى الأحجار الجديرة بأن يراها الزائرون مِن المعجبين بالفن المصري.

كما استعمل المصريون القدماء البازالت كثيرًا في رصف الطرق، وفي بناء المداميك السفلى، وصناعة التماثيل والأواني، كما استعملوا الديوريت والرخام، وحجر الحية، والسماق، والديوريت المتحول، ومنه صنع تمثال خفرع الشهير، كما صنعت الجعارين الكثيرة وبعض التحف من الاستياتيت الرخو. وكان لدى قدماء المصريين أزاميل قوية من النحاس الأحمر، ومن البرونز، نحتوا بها الحجر الجيري وشكَّلوا أصلب الـحجارة ونقشوا عليها الحروف الهيروغليفية، وقبل ذلك في عام 4000 ق . م صنع أسلافهم من العصر الحجري الحديث أوانٍ جميلة مِن تلك الأحجار؛ نحتوها بأيديهم بأدوات بسيطة، وإلى اليوم لم يحاول أي خبير أن يقوم بمثل تلك الأعمال بدون سبائك ومثاقيب دوارة بالغة السرعة (راجع في ذلك: "معجم الحضارة المصرية القديمة" ترجمة أمين سلامة - مكتبة الأسرة - الهيئة المصرية للكتاب - ط. الثانية عام 1996م، ص 14- 15).

وقد ظهر النحاس في مصر في نهاية عصر ما قبل التاريخ، وبدأ استعمال البرونز حوالي عام 2000 ق. م. أما الحديد فأدخل في الصناعات المصرية بين عامي 1000 و600 ق. م. وقد صنع المصريون القدماء من المعادن كثيرًا مِن الأشياء الجميلة الدقيقة من النحاس. ومن البرونز أسلحة القتال وأدوات النجارين وأزميل قطع الأحجار والتماثيل الكبيرة، وأشرفت الحكومة على صناعة المعادن، ويعد مصنع الأسلحة بمدينة منف أقدم مصنع جماعي في العالم.

وشاركت المعابد أيضًا في الصناعات المعدنية كما في صانعي معادن (آمون) وصاهري معادن (بتاح)، ويمكن التعرف على صناعة المعادن في مصر القديمة بمساعدة النصوص، وفحص المصنوعات، وصور صُنَّاع المعادن، وكانوا يقومون بتنقية النحاس في منجمه، أما البرونز فكان يرد جاهزًا من آسيا، وقد خلط الصناع النحاس بالقصدير، وكانوا يستعملون آتونًا صغيرًا مِن الطين لصهر المعادن، ويستخدمون الفحم النباتي وقودًا (راجع في ذلك المصدر السابق، ص 205 - 206).

الصناعة في مصر في عهد "محمد علي" وأولاده:

كانت مصر بإسهاماتها في المجالات المختلفة جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية عبر قرون طويلة، وفي عهد محمد علي باشا شهدت مصر نهضة صناعية كبيرة، بإدخال صناعات جديدة لم تكن موجودة من قبل في ظل اهتمام محمد علي بالتعليم؛ حيث أنشأ المدارس الكثيرة في شتى المجالات، منها: المدارس الصناعية إلى جانب مدرسة للهندسة ومدرسة للطب، وجعل لمصر جيشًا قويًّا، وأسطولًا بحريًّا؛ لتحقيق طموحاته في الاستقلال بمصر أو أن يحكمها ويحكمها أولاده من بعد.

ولكن في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر تعمَّد الاحتلال تكريس فكرة: أن مصر دولة زراعية، وليست صناعية؛ بغرض استغلال مصر في الحصول منها على الخامات الزراعية؛ خاصة القطن لتصنيعها في إنجلترا ثم استغلال السوق المصري في تسويق ما ينتجه الاحتلال، وهو ما دفع طلعت حرب إلى إدخال صناعة الغزل والنسيج وغيرها في مصر من خلال إنشاء بنك مصر لمحو هذه الفكرة.

الصناعة بعد ثورة يوليو:

أما في عهد ثورة يوليو 1952م فقد نهضت الصناعة الوطنية بشكلٍ ملحوظٍ، حيث تم إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي في سبتمبر 1952م، الذي قام بإصدار خطة طموحة للاستثمارات العامة تضمنت بناء مشروعات الصناعات الثقيلة: كالحديد والصلب، وشركة (كيما) للأسمدة، ومصنع إطارات السيارات الكاوتشوك، ومصانع عربات السكك الحديدية (سيماف)، ومصانع الكابلات الكهربائية.

وقد تم تمويل بعض هذه المصانع وقطع الغيار بواسطة جزءٍ مِن الغطاء الذهبي لمصر، وفي الستينيات تم مد خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية، كما تم بناء المناجم في أسوان والواحات البحرية، وقد تم تمويل كل هذه المشروعات ذاتيًّا.

وقامت شركات مصرية بإنتاج مئات الألوف من البدل والقمصان، والملابس الحريمي، وأحذية (باتا)، والقماش الكستور، والبيجامات، وقامت المصانع الحربية بتوفير البوتاجازات والثلاجات والمراوح التي دخلت البيوت المصرية من خلال بيعها بالتقسيط المريح لموظفي الحكومة والقطاع الخاص معًا.

وقد شهدت مصر خلال الفترة من 1957م إلى 1967 م ارتفاعًا في معدلات التنمية، وحققت تلك الإجراءات نسبة نمو بلغت ما يقرب من 7 %، وقامت مصر في تلك السنوات العشر بتحقيق تنمية تماثِل أربعة أضعاف ما حققته خلال الأربعين سنة السابقة على عصر الثورة (راجع في ذلك مقال: "عبد الناصر أبو الصناعة الوطنية" جريدة الفجر عدد الخميس 15 أكتوبر 2020 م، ص 14).

ثم جاءت هزيمة مصر في حرب يونيو 1967 م وما بعدها لتكون نقطة تحول في مسيرة التنمية والتقدم في مصر، ورغم انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973م ثم استعادتها لشبه جزيرة سيناء وتوقيعها معاهدة للسلام مع إسرائيل؛ فإن مصر لم تستعد قدرتها على تحقيق التنمية المطلوبة منها، بل شهدت تأخرًا صناعيًّا وزراعيًّا جعلها تفتقر إلى الاكتفاء الذاتي، وتعتمد على الاستيراد لاستيفاء احتياجاتها الأساسية.

التجربة الكورية الجنوبية:

شهدت دولٌ عديدة تقدمًا اقتصاديًّا كبيرًا، وتنمية بشرية مرتفعة بعد أن كانت تتشابه مع مصر في أحوالها الاقتصادية خلال فترة الستينيات من القرن العشرين، بل كان هناك دول منها أقل مِن مصر اقتصاديًّا، ومِن هذه الدول كوريا الجنوبية والبرازيل والهند وتركيا وماليزيا، ولعل أقربها شبهًا بمصر هي كوريا الجنوبية؛ فكيف تقدمت كوريا الجنوبية اقتصاديًّا في وقتٍ تجمدت فيه مصر تقريبًا اقتصاديًّا؟!

لعل الإجابة تشير إلى بعض ما يمكن الاستفادة منه في فهم ما آلت إليه الأحوال في مصر: (بدأت كوريا الجنوبية مسيرتها التنموية في وقتٍ مقاربٍ لمسيرة التنمية في مصر؛ غير أنها استطاعت تحقيق طفرة، بل معجزة تنموية، في حين تجمدت مسيرة التنمية في مصر؛ ففي بداية الستينيات كانت أوضاع كوريا الجنوبية مشابهة لمصر من حيث الموارد والمؤشرات التنموية، والأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ فقد تأثر اقتصاد كلٍّ مِن: كوريا الجنوبية ومصر بالإنفاق العسكري الهائل؛ نظرًا لوجود عدو على الحدود، ولم تختلف الأنظمة السياسية الحاكمة كثيرًا حيث حكم كلا البلدين نظامٌ شبه دكتاتوري، يصاحبه رقابة صارمة، ونظام شرطة سري وقمعي!

وعلى الرغم مِن التقدم الاقتصادي الذي استطاعت مصر أن تحرزه خلال الفترة الماضية؛ فإن التنمية الاقتصادية التي شهدتها كوريا الجنوبية كانت أكبر بكثيرٍ؛ الأمر الذي أعقبه تباعد كبير في المؤشرات التنموية بين الدولتين حتى يومنا هذا، وتقدُّم كوريا الجنوبية عن مصر في مجالات التنمية المختلفة منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فقد أصبحت كوريا الجنوبية اليوم قوة صناعية قائدة ومبدعة تكنولوجيًّا، وتتمتع بنظام ديمقراطي حيوي) (راجع: "كيف تنهض الأمم؟ تجارب تنموية ودروس مستفادة" د. نسرين اللحام - كتاب الجمهورية - ديسمبر 2014 م، 44 - 45).

(استطاعت كوريا الجنوبية تحقيق ما يمكن تسميته: المعجزة الاقتصادية الكورية؛ نظرًا للفترة القصيرة التي استغرقتها عملية التحول من دولة نامية فقيرة إلى دولة صناعية متطورة، وهي 26 عامًا (1962م - 1988م)؛ فقد تحول الاقتصاد الكوري خلال تلك الفترة من اقتصاد زراعي متخلف إلى اقتصاد صناعي متطور يقوم على المعرفة التكنولوجية، وأعطت الحكومة الأولوية لتطوير الصناعات التحويلية مما انعكس على الصادرات الكورية بالإيجاب بشكلٍ كبيرٍ، وأسهم في نقل كوريا الجنوبية من إحدى أفقر دول العالم إلى أكثر قواها الصناعية الواعدة.

وعندما بدأت مسيرة التنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية عام 1962م كانت تعاني من التخلف وارتفاع نسبة الأمية وندرة الموارد الطبيعية، والموارد اللازمة للتنمية، وهو ما جعلها ثالث أفقر دولة في آسيا) (المصدر السابق، ص 43).

(وقد حققت كوريا الجنوبية نجاحات باهرة رغم تعرضها لعدة نكسات خلال مسيرتها التنموية، وظلت تنمو بمعدلات تزيد على 8 % سنويًّا، ولم يكن تحقيق هذا القدر من النمو ممكنًا دون العمل الدؤوب والانفتاح على الأسواق العالمية والعلاقات القوية مع الدول الرأسمالية، والدعم الأمريكي الذي وفر الانطلاقة الأولى للاقتصاد الكوري، وساعد على ذلك توفر المناخ الاستثماري المناسب والسياسات الاقتصادية الملائمة، والإصلاح في كل الميادين بخاصة في القطاعات المالية والشركات والقطاع العام، كما كان لتوفير المناخ الديمقراطي بالمعنى السياسي والاجتماعي أكبر الأثر في توفير البيئة الصحية التي يمكن للمشاريع الاقتصادية أن تنمو وتزدهر من خلالها، وإيجاد المناخ الصحي لإطلاق عملية تنموية حقيقية) (المصدر السابق، ص 44).

(وتبيِّن المؤشرات التالية مدى التطور الذي تمكنت كوريا الجنوبية من تحقيقه خلال العقود الماضية؛ فقد واصل اقتصاد كوريا الجنوبية نموه السنوي، فبينما بلغ معدل النمو في عام 1980 م نحو 5و1 %، ارتفع إلى 2و9% عام 1995 م لينخفض إلى 3و6 % عام 2010م.

- ارتفع إجمالي الدخل القومي من 3و2 مليار دولار عام 1962 م إلى 447 مليار دولار عام 2002م، واستمر في الزيادة حتى وصل إلى 1126 مليار دولار عام 2011 م، وأصبحت كوريا الجنوبية واحدة من أكبر عشر اقتصاديات في العالم.

- بلغ احتياطي البلاد من العملة الأجنبية 8و3 بلايين دولار في نهاية عام 1997 م، وارتفع إلى 325و155 مليار دولار في نهاية عام 2003 م، وتمكنت البلاد من دفع قروض الطوارئ البالغة 5و13 مليار دولار.

في عام 1996 م أصبحت كوريا الجنوبية العضو التاسع والعشرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

- ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 5864 دولارًا عام 1980 م إلى 28226 دولارًا عام 2012م.

- دخلت كوريا الجنوبية ضمن مجموعة الدول العشرين الاقتصادية الكبرى، واحتلت المرتبة الحادية عشرة بين أكبر اقتصاديات العالم، والمركز السابع عالميًّا من حيث حجم التجارة، حيث بلغ حجم تجارة كوريا الجنوبية مع العالم نحو تريليون دولار عام 2012م، وبلغ الإجمالي السنوي للصادرات 8و512 مليار دولار في العام نفسه.

- ارتفعت قيمة الصادرات الصناعية من 1و85 مليار دولار عام 1990 م إلى 4و252 مليار دولار عام 2001م، وتحتل كوريا الجنوبية المرتبة الثانية بعد الصين من حيث نصيبها من صادرات المواد المصنعة، حيث تمثِّل هذه النسبة 12% مقابل 16 % في الصين) (المصدر السابق، ص 46 - 47).

- (تطورت المكانة العالمية للصناعة الكورية حيث تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الأولى عالميًّا في صناعة السفن، والمرتبة الثالثة في صناعة الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، والخامسة في صناعة الصلب، والسادسة في إنتاج السيارات (هيونداي - كيا) حيث تنتج سنويًّا أكثر من 3 ملايين سيارة.

- بلغت الاستثمارات الأجنبية مستوى قياسيًّا؛ إذ وصلت إلى 991 بليون دولار في نهاية عام 2013م مقارنة مع 532 بليون دولار في1985م.

- تحسن مؤشر التنمية البشرية من64و0 في عام 1980 م إلى 909 و0 في عام 2012 م لتحقق كوريا الجنوبية المرتبة رقم 12 عالميًّا ضمن الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدًّا. ويحظى التعليم بنحو 21 % من إجمالي الموازنة العامة للدولة).

(وتحتل كوريا الجنوبية المرتبة الأولى عالميًّا من حيث عدد طلاب المدارس الذين يلتحقون بالجامعات حيث تلتحق نسبة تناهز 66 % من طلاب المدارس بالجامعة، ويعتبر التعليم المعيار الوحيد الذي يمكِّن الفرد من الطبقة الدنيا من الانتقال إلى الطبقة المتوسطة أو العليا، حيث لا توجد أي فروق اجتماعية في كوريا إلا من خلال التعليم.

- ارتفعت نسبة تغطية التأمين الصحي من 5و29 % في عام 1980 م إلى97و96 % عام 2002 م، مع استطاعة النسبة المتبقية الحصول على معونات صحية مباشرة) (المصدر السابق، ص 46 -47).

وقد مرت كوريا الجنوبية بثلاث مراحل رئيسية للتنمية:

المرحلة الأولى (1962 م - 1980 م):

(تنمية قائمة على التصنيع):

في بداية الستينيات طوَّرت كوريا الجنوبية نموذجًا تنمويًّا، جمع بين نظام اقتصاد التخطيط المركزي ونظام اقتصاد السوق، وبعد أن كانت قبل ذلك واحدة من أكثر المجتمعات الزراعية فقرًا اعتمدت كوريا الجنوبية التصنيع كإستراتيجية لتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة، وإحلال الواردات كمرحلة أولى لإشباع الطلب المحلي، وقد ركزت الخطة الخمسية الأولى للتنمية (1962م - 1966م) على وضع أسس التصنيع، ونجحت الخطة في تهيئة البناء الصناعي لدولة تعتمد على الموارد الزراعية، وتحويلها إلى دولة تقوم على التصنيع الحديث والتصدير.

أما الخطة الخمسية الثانية للتنمية (1967م - 1971م) فقد تبنت سياسة التصنيع الموجه للتصدير، وفي الخطة الخمسية الثالثة للتنمية (1972م - 1976م) تم تطوير الصناعات الثقيلة والصناعات الكيماوية وزيادة مساهمتها في السلع التصديرية، وخلال عملية التنمية الاقتصادية هذه قامت كوريا بتنفيذ نشاط صناعي شامل، ولعب القطاع الصناعي دورًا كبيرًا في تعظيم الناتج المحلي الإجمالي، حيث اعتمد النمو الاقتصادي في بداياته على الصناعات الخفيفة ذات الكثافة العمالية، والقيمة المضافة المتدنية، كصناعة النسيج والمواد الغذائية والجلود.

المرحلة الثانية (1981 م - 1998 م):

(تنمية قائمة على اقتصاد كثيف رأس المال):

في هذه المرحلة اكتملت عملية التصنيع المخططة، وتم اعتماد إستراتيجية التصنيع من أجل التصدير، وبدأ استبدال الصناعات الخفيفة تدريجيًّا لتحل محلها الصناعات الثقيلة والكيماويات كثيفة رأس المال وذات القيمة المضافة العالية، والتي تمثِّل أكثر مِن نصف إجمالي الإنتاج الصناعي، وقد كان التصدير محركًا رئيسيًّا لنمو الاقتصاد الكوري؛ خاصة في الصناعات الثقيلة، مع منح مختلف الحوافز لصناعات إحلال الواردات وتشجيع الصادرات.

وفي بداية التسعينيات أصبحت كوريا الجنوبية من أهم المنتجين للصلب في العالم، كما وصلت صناعة السفن والسيارات إلى أعلى مستوياتها، وفي عام 1996م أصبحت كوريا الجنوبية العضو التاسع والعشرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية).

وقد تأثرت كوريا الجنوبية في عامي: 1997 م و1988 م بالأزمة الاقتصادية الآسيوية التي ضربت النمور الآسيوية، فانخفض الدخل القومي؛ بسبب تذبذب معدلات الصرف الأجنبي، كما انخفضت نسبة النمو من 7 % إلى - 7%.

وفي عام 1988م جددت الحكومة الكورية التزاماتها في العمل مع صندوق النقد الدولي والتطبيق الكامل للإجراءات الإصلاحية، وصممت على تبني الإصلاحات الصارمة بهدف تجاوزها لأزمتها الاقتصادية، وفي المرحلة الأولى من الإصلاح قامت الحكومة بإعادة هيكلة القطاع المالي والرقابة الصارمة على أعمال البنوك وتحرير وزيادة أسواق رأس المال، وتخفي أعداد البنوك من خلال الدمج أو التأميم أو الإغلاق.

المرحلة الثالثة (1999م - 2010 م):

(تنمية قائمة على اقتصاد المعرفة):

في عام 1999م تم حل الأزمة الاقتصادية بالكامل وارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 7 و10 %، وذلك من خلال تطوير الإصلاح في جميع الميادين؛ خاصة في القطاعات المالية والشركات، والقطاع العام والعمال؛ بهدف إعادة كسب ثقة المستثمرين الأجانب، وتم حفظ معدل الديون الكورية لتكون بمثابة أساس للاستثمار، كما تم استحداث سياسات لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والالتزام بمبادئ السوق الحر، وإعادة هيكلة الشركات الكورية الكبيرة، وزيادة المرونة في سوق العمال.

وفي المرحلة الثانية من الإصلاح في أواخر عام 2000م ومع إنشاء الشركات المالية القابضة قامت الحكومة بضخ 40 تريليون (ون) في قطاع البنوك، وشجَّعت على الاندماج بين البنوك ذات الأداء الجيد لزيادة حجمها وتقوية قدرتها التنافسية.

وفي هذه المرحلة تم التحول إلى الاقتصاد القائم على المعرفة والتركيز على صناعات التقنيات العالية، كما تم تخصيص استثمارات في البحث والابتكار وتطوير التكنولوجيا، وإرسال آلاف العمال المهرة في المصانع الكبيرة لدول أوروبا واليابان؛ لكسب العلوم التقنية التطبيقية، والتكنولوجيا المتقدمة، وإتقان العمل (المصدر السابق، ص 48- 49).

التجربة الماليزية:

استطاعت ماليزيا تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة خلال العقود الأربعة الأخيرة مع التوفيق بين الاندماج في اقتصادات العولمة من جهة، والاحتفاظ بنهج مستقل للاقتصاد الوطني من جهة أخرى، وقامت فلسفة التنمية في ماليزيا على أن النمو الاقتصادي لا بد أن يرتبط بالعدالة في توزيع الدخل، وأن مكاسب التطور الاقتصادي يجب أن تنعكس إيجابيا على تحسين نوعية حياة المواطنين.

(وخلال عشرين عامًا تحولت ماليزيا مِن بلدٍ زراعي يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على تصدير بعض المواد الزراعية الأولية: كالمطاط، والأخشاب، وزيت النخيل إلى بلدٍ صناعي متقدِّم يصدِّر السلع الصناعية في مجالات المعدات، والآلات الكهربائية والإلكترونيات، والتي تحقق دخلًا سنويًّا يقدِّر بنحو 59 مليار دولار سنويًّا، وأصبحت ماليزيا رائدة في صناعة السيارات، وأصبح القطاع الصناعي والخدمي يمثِّل 90 % من اقتصادها) (المصدر السابق، ص 69).

وقد مرت تجربة التنمية في ماليزيا بأربع مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى (1960 م - 1970م):

(تنمية قائمة على التصنيع):

هذه مرحلة بداية تصنيع من أجل إحلال الواردات، مِن خلال اقتصاد يعتمد على الموارد؛ حيث اتجهت ماليزيا بعد الاستقلال عام 1958م (إلى سياسة الإحلال محل الواردات في مجال الصناعات الاستهلاكية، والتي كانت تسيطر عليها الشركات الأجنبية قبل الاستقلال، وعلى أساسها قامت صناعات صغيرة الحجم وأخرى لإنتاج السلع التي تحل مخل السلع المستوردة، كصناعة الأغذية ومواد البناء والتبغ والطباعة والبلاستيك والكيميائيات، وتم إصدار قانون تشجيع الاستثمار عام 1968م؛ لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى تلك المجالات، وفي هذه الفترة كان الاعتماد على القطاع العام بشكل كبير).

المرحلة الثانية (1971 م - 1980م):

(تنمية قائمة على الصناعات التصديرية):

وهي مرحلة اقتصاد تم فيها إعادة الهيكلة الاقتصادية، من خلال تصنيع كثيف العمالة يقوم على الاستثمار والتصنيع الموجه للتصدير، فـ(في مطلع السبعينيات بدأت مرحلة الصناعات التصديرية حيث صدر قانون التجارة الحرة في عام 1971 م بهدف إتاحة المزيد من الحوافز الخاصة بالصناعات الموجهة نحو التصدير، وبناءً على ذلك: شجعت الحكومة دخول الاستثمارات الأجنبية في مجال الإلكترونيات، وصناعة النسيج، من خلال توفير العمالة الرخيصة والحوافز الضريبية المغرية، وإصدار التراخيص لمنتجات أجنبية، وإنشاء مناطق تجارة حرة، وعملت الحكومة على استضافة الشركات متعددة الجنسيات لتشغيل خطوط إنتاجية في ماليزيا، وسمحت للشركات الأجنبية التي تنتج سلعا للتصدير بالملكية التامة دون اشتراط المساهمة المحلية.

وفي هذه المرحلة حدث تحول جذري من سياسة إحلال الواردات إلى سياسة التصنيع الموجه إلى التصدير والصناعات كثيفة العمالة، كالصناعات الإلكترونية والنسيج، كما كان هناك تركيز على الصناعات المعتمدة على الموارد الطبيعية الماليزية: كزيت النخيل، والأخشاب، والمطاط).

المرحلة الثالثة (1981م - 1990):

(تنمية قائمة على التصنيع الثقيل):

وهي مرحلة اقتصاد محلي كثيف رأس المال يعتمد على الموارد المحلية، ويهدف إلى التصنيع الثقيل ويقوم على القطاع العام، فـ(في بداية الثمانينات شجعت الحكومة الماليزية على قيام الصناعات المعتمدة على الموارد الطبيعية، ومِن ثَمَّ قامت بتشجيع التصنيع الثقيل، وتصنيع السيارات الماليزية الوطنية (ىبريتون)، كما تم التوسع في صناعات الأسمنت والحديد والصلب، والتركيز على صناعة الإلكترونيات والنسيج التي أصبحت تسهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي وتستوعب 40% من العمالة.

ويلاحظ في هذه الفترة تمتع الصناعات الوطنية بالحماية الحكومية، ودخول الدولة في مشروعات كثيرة تغطي جميع النشاطات الاقتصادية الحيوية، حيث تم تنفيذ الخطة الماليزية الرابعة، والتي ركَّزت على محورين، هما: موجة جديدة من الصناعات التي تقوم بعمليات الإحلال محل الواردات، والصناعات الثقيلة في إطار ملكية القطاع العام.

المرحلة الرابعة (1991 م - 2010 م):

(تنمية قائمة على التصنيع عالي التقنية):

وهي مرحلة اقتصاد عالمي ومتنوع يقوم على الابتكار من خلال اقتصاد كثيف المعرفة، وتصنيع عالي التقنية، فـ(في التسعينيات بدأت الدولة الماليزية بتشجيع الصناعات عالية التقنية وذات القيمة المضافة وكثيفة استخدام رأس المال، وذلك من أجل زيادة تنافسية المنتجات الماليزية، وتوسيع دائرة سوقها المحلية.

وقد شهدت هذه الفترة تنفيذ ثلاث خطط خمسية استهدفت تحقيق مجموعة من السياسات لتنشيط عمليات النمو الصناعي، وتعميق التوجه التصديري في عمليات التصنيع، وأيضًا تحديث البنية الأساسية للاقتصاد الماليزي، وكذلك وجود مزيدٍ مِن التعاون الاقتصادي الإقليمي في إطار مجموعة بلدان كتلة (الآسيان). وأخيرًا: ظهور طبقة من رجال الأعمال الماليزيين من ذوي الأصول المالاوية) (راجع في ذلك: المصدر السابق، ص 71- 73).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة