الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أنواع الوفاء (1)

أنواع الوفاء (1)
حسن حسونة
الخميس ٠١ أبريل ٢٠٢١ - ١٧:٠٨ م
445

أنواع الوفاء (1)

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فالوفاء أَدَب رباني حميد، وخُلُق نبوي كريم، وسلوك إسلامي نبيل، دَعَت له الشرائع الربانية مِن أول نوح -عليه السلام- إلى نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجعله الله صفة لعباده الصالحين لينالوا به جنات النعيم.

فأمر الله بالوفاء ووعد بالايفاء، فقال -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40)، أي: أوفوا بعهد الله الذي هو توحيده وعبادته يوفي لكم بعهده، وهو الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: (فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه)، وهذا أحقه الله على نفسه؛ إذ لا مكره لله، ولا معقِّب لحكمه، ولا راد لقضائه.

وأهل الوفاء هم أهل الجنة، هم أهل الفردوس الأعلى، فقال الله في سورة المؤمنون في معرض ذكر صفات عباد الله المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8)، ثم ختمت الآيات: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:10-11)، وفي سورة المعارج: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (المعارج:35)، فأهل الوفاء هم أهل الفردوس، هم أهل الاصطفاء من الله.

أمر الله بالوفاء في مواضع من القرآن وبيَّن أنه صفة للأنبياء والمرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90)، فأخبر عن خليله إبراهيم: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، وَفَّى في كل ما أمر به: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة:124)، أي: قام بهن على خير تمام.

أمر بذبح وحيده وقتها وقرة فؤاده، وفلذة كبده الذي رُزق إياه على حين الكبر، فاستجاب ووفَّى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (الصافات:103-105)، الوفاء يمنح العطاء (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات:107).

ابتلي بالإلقاء في النار فصبر ووفى، وقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) (آل عمران:173). (رواه البخاري).

أمر أن يترك هاجر زوجته وابنه إسماعيل في وادٍ لا زرع فيه ولا ماء، فوفى وقالت هاجر: "آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا" (رواه البخاري)، فهذا من حسن التوكل على الله والثقة واليقين إن الله لا يضيع أوليائه.

وقال الله عن إسماعيل -عليه السلام- والولد من سعي والده وكسبه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم:54).

وقد ذكر ابن جرير -رحمه الله- أن إسماعيل -عليه السلام- واعد رجلًا في مكان، فجاء إسماعيل ونسي الرجل، فظل في المكان إلى أن بات فيه فجاءه من الغد، فقال له الرجل: "ما برحت مكانك؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح إلى أن تأتيني"؛ فلهذا قال -تعالى-: (صَادِقَ الْوَعْدِ).

وحكي الله عن وفاء نبي الله موسي مع الرجل الصالح شعيب حينما التقى به وحكى له قصته، قال: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص:25)، وأراد الرجل أن يزوجه ابنته فشرط عليه العمل عنده في رعي الغنم ثمان حجج أو عشر، فأوفى موسى الكليم -عليه السلام- أوفى الاجلين وأكملهما، كما ذكر ابن عباس ذلك لسعيد بن جبير لما سأل يهودي من الحيرة سعيدَ بن جبير: ماذا أوفى موسى؟ قال: لا أعرف حتى أسأل حبر الأمة، فركب لابن عباس فسأله، فقال: أوفى وأكمل الأجلين؛ إن رسول الله إذا وعد أوفى"، فلما كان الوفاء منحه الله العطاء، وأعطاه النبوة، ثم لما وقع في الشدائد أنجاه الله كما في قصته.

وأوفى الأوفياء وأتقى الأتقياء هو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كانت دعوته وفاء، ورسالته دعوة لسمو الأخلاق؛ سال هرقل أبا سفيان في الفترة التي ماد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفار قريش عن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ" (متفق عليه).

فأوفى الأوفياء هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفَّى مع دعوته ورسالته، فبلَّغ ما أوحاه الله إليه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة:67)؛ ما كتم شيئًا ولا خان سرًّا، ولا خان وحيًّا، قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (الأحزاب:37).

بل استشهد أكبر مجمع التقى بهم من الصحابة في حجة الوداع، فشهدوا له -صلى الله عليه وسلم- أنه بَلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة.

أوفى مع أمته، فما مِن شيء يقربهم إلى الله إلا ودلهم عليه، وما من شيء يباعدهم عن الله إلا وحذرهم منه، حتى قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "لَقَدْ تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا" (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).

ووفَّى -صلى الله عليه وسلم- حتى مع أعدائه المحاربين له، المحادين لله؛ فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- وكان ذلك قبل غزوة بدر حينما أخذهما المشركون، وشرطوا عليهما ألا يشاركا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المعركة رغم أنهم كفار ومحاربون؛ إلا أن سيد الأوفياء لما ذكر له حذيفة ذلك، قال: (انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ) (رواه مسلم)، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8).

فالوفاء أدب رباني، وخلق نبوي، وسلوك إسلامي رشيد، فإذا علمنا فضل الوفاء، فما أنواعه؟!

هذا ما نتناوله في مقال قادم -بإذن الله-.

وصلِّ اللهم على عبدك ونبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة