السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (16)

قصة بناء الكعبة (14)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (16)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٣ أبريل ٢٠٢١ - ١٠:١٠ ص
309

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (16)

قصة بناء الكعبة (14)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستكمل ما في قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل -عليهما السلام- مكة المكرمة، من فوائد:

الفائدة الخامسة:

قوله: (فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:??)، فيه: أن أعظم الأسباب بعد التوكل على الله الدعاء والتضرع إليه -سبحانه-، وفيه رفع اليدين في الدعاء واستقبال القبلة؛ حتى ولو لم يوجد بناء للكعبة، وفيه التوسل إلى الله -سبحانه وتعالى- باسم الربوبية (ربنا، ربي)، وهذا أكثر أنواع الأدعية القرآنية والنبوية، ومثله التوسل إلى الله باسم الألوهية (اللهم)، وهذان الاسمان -الرب والإله؛ ومنه اشتُق اسم الله- أعظم ما يتوسل به العبد لله -عز وجل-؛ خاصة إذا اسحضر بقلبه مظاهر الربوبية من الخلق والرزق والتدبير، ومِلْك الضر والنفع، والحياة والموت والنشور، والمِلْك والمُلْك، والأمر والنهي والسيادة في جميع الوجود، واستحضر بقلبه مظاهر الألوهية من حاجة العباد إلى محبته والانقياد له، وذلهم وفقرهم وحاجتهم إلى هذه العبودية، وليس فقط إلى رزقهم واستمرار حياتهم، بل هم يحتاجون إلى حبه والانقياد لأمره وشرعه والخضوع له.

وقد جعل الله -عز وجل- لذة المحبة له يدركها ويجدها المؤمنون العابدون دون غيرهم، وجعلها -سبحانه وتعالى- عندهم أعظم نعيم الدنيا وأعظم فرح فيها، كما قال -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهُنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ ممَّا سِواهُمَا ... ) (متفق عليه).

وفي قوله: (إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): توسل إلى الله بحال الفقر والحاجة، فهم ذرية؛ رضيع صغير وأمه التي لا تستطيع شيئًا. وقال: (ذُرِّيَّتِي) وهاجر ليست من ذريته؛ إما تغليبًا لأن إسماعيل هو المقصود وذريته مِن بعده، وإما لأن الذرية من هاجر -رضي الله عنها- وهي سبب نسل إسماعيل -عليه السلام- الذين عمَّروا مكة وعبدوا الله عند الكعبة المشرفة قرونًا عديدية على التوحيد، قبل أن يقع الشرك فيهم زمن عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي.

وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- عند ذكر هاجر -رضي الله عنها- يقول: "فهذه أمكم يا بني ماء السماء"، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه برعاية قومها المصريين بعد آلاف السنين من رحيلها؛ رعايةً لرحمها -رضي الله عنها- فقال: (إِنَّكُم سَتَفْتَحُون مِصْرَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيرَاطُ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِها خَيْرًا فَإِنَّ لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا) (رواه مسلم)، وهي رحم لا يصل مثلها إلا الأنبياء.

وفي قوله: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ): تضرع بالفقر إلى الله في أمر الرزق، فكما أنهم ذرية ضعفاء، فالوادي ليس فيه زرع ولا ماء ولا أنيس، وهذا الذي بحثت عنه هاجر أولًا؛ حين قالت: (إلى مَنْ تَتْرُكُنَا في هذا الوادِي الذي لَيْسَ فِيه أَنِيْسٌ ولا شَيْءٌ؟)، فهي تحب الأنس وتنظر إلى الأنيس أولًا، وهذا الوادي ليس فيه شيء على الإطلاق، ولا يصلح للسكنى؛ إلا بما أنبع الله فيه من زمزم، فسبحان الله! أرض أودية مكة أغلبها صخرية، وحولها جبال لا تصلح للزراعة، ولا للحركة، ولا للاستقرار؛ بل ولا للحياة أصلًا؛ ولذا لم تُسْكَن قبل إسماعيل وأمه، فسبحان الله جعلها الله أكثر بقعة تعجُّ بالبشر! لا يوجد مكان في العالم أزحم من هذه البقعة على مدار الأيام والليالي، وقلوب الخلق تهوي إلى هذه البقعة؛ مَن شاء الله منهم يهوون حجَّها، وطائفة يهوون السكنى فيها.

 وقوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ): يعني مكانه الذي سيكون فيه البناء؛ وذلك أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الذي كان فيه البيت قبل أن يُرفع؛ وإن كانت الآثار في رفعه عند الطوفان لم تصح، وهذا على القول بأن الملائكة التي بنته، أو آدم الذي بناه أول مرة، أو غير ذلك، وكلها آثار لم تصح، والله أعلم.

وقوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ): فيه بيان السبب الذي مِن أجله سافر إبراهيم بولده وأم ولده هذه المسافة الهائلة -آلاف الأميال-، إلى هذه البقعة التي لا توجد فيها أسباب الحياة، وهو إقامة الصلاة في هذا المكان الذي عظمه الله وشرفه وضاعف فيه أجر الصلاة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)

ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شدِّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، أعظمها: المسجد الحرام؛ بل لا يجب شد الرحال والسفر إلى مسجدٍ منها إلا المسجد الحرام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِي هذا، والمَسْجِدِ الأَقْصى) (متفق عليه)، وفي رواية: (إنَّما يُسافَرُ إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِياءَ) (رواه مسلم).

فلم تكن العلة في هذه الرحلة العظيمة مجرد الغيرة التي وقعت بين سارة وهاجر، وطلب سارة أن يذهب بهاجر بعيدًا عنها كما في بعض الروايات؛ بل السبب الذي لم يذكر إبراهيمُ -عليه السلام غيره هو إقام الصلاة، وتعمير هذه البقعة المباركة، وتكوين البلدة الحرام.

وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ): فيه دليل على خَلْق الله لأفعال العباد، وإرادتهم وأهوائهم، فالله الذي جعل الأفئدة تهوي إلى الحج إلى مكة، وإلى السكنى فيها على القولين في التفسير، وفي هذا لمَن تأمله أوضح الرد على مَن زعم أن معنى خلق الله لأفعال العباد وإرادتهم هو جعلهم مريدين شائين، ولا يلزم إرادة ومشيئة منه -سبحانه- لكلِّ فِعْلٍ مِن أفعال العباد وإرادة من إراداتهم! بل هذا التفصيل لهم كالنهر الذي يجري في مجرى مُعَيَّن لا يلزم إرادة لكل قطرة! وهو قول باطل مُخَالِف لظَاهِر الكتاب والسُّنة، قال -تعالى-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (الإنسان:30)، أَيْ: أَيُّ مشيئة؛ فهذا اللفظ عام يشمل كل مشيئة، فلابد لأي مشيئة للعباد أن يشاء الله وجودها، وهو الذي يخلقها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي والحاكم، وحسنه الألباني).

فكل حركة وسكنة وإرادة وهوى للعباد، فالله خالقه وجاعله تفصيلًا، وهذه الآية صريحة في ذلك؛ لأن حُبَّ مَن شاء الله له الذهاب إلى مكة، وهواهم أن يسكنوا فيها، ويحجوا إليها -رغم المشقة البالغة في السفر وفي الحياة- هو مشيئة تفصيلية، والله هو الذي جعله فيهم، كما دعا به إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وليس معنى ذلك الجبر كما يقوله الجبرية؛ بل الله يجعل ويخلق، والعباد يفعلون ويكسبون بإرادتهم المخلوقة، وهذا القَدْرُ مِن كسبهم وفعلهم هو الذي يُحَاسَبون عليه كسائر الأهواء والرغبات، التي إنما توجد في الإنسان قبل أن يدرك منافعها ومقاصدها، ولكنه يجدها في نفسه فيفعلها، فأول ذلك النَّفَس عند أول ولادته، ثم الطعام والشراب وهو رضيع، ثم حب التَّمَلُّك وهو ابن نحو السنة والسنتين، وكذا التواصل مع البشر حوله، والكلام والحركة، واستكشاف ما حوله، ثم الرغبة الجنسية بعد ذلك، وكلها يجدها الإنسان قد وُجِدت في نفسه، لكنه الذي يفعل تفاصيلها، والله خالقه وخالق هواه وإرادته وأفعاله الاختيارية والاضطرارية معًا؛ فله الحمد، وله المُلك -سبحانه وتعالى-.

ونقول في المَثَل المضروب -مَثَلُ النَّهْر-: بل كل قطرة، الله خالقها وخالق حركتها تفصيلًا؛ فلابد مِن مشيئته -سبحانه- في تحركها في هذا الاتجاه، ثم أعظم رغبة وهوىً يجعله الله في قلب العبد هي الرغبة في العبودية له، ومحبته -سبحانه-، ومحبة أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بحبه وقربه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة