الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أيام الحج... شعائر ومشاعر وعِبَر

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) الإسلام الحقيقي هو الاستسلام لأمر الله والرضا والقيام به، فقد صار الأمر

أيام الحج... شعائر ومشاعر وعِبَر
سعيد محمود
الأربعاء ٠١ أكتوبر ٢٠١٤ - ٠٦:١٣ ص
2089

أيام الحج... شعائر ومشاعر وعِبَر (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الغرض مِن هذه الموعظة إثارة المشاعر الإيمانية في القلوب تجاه بعض الشعائر المقترنة بأيام الحج.

فإن أيام الحج أيام فاضلة عظيمة: "التروية - عرفة - النحر - التشريق": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ). قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟! قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وهذه الأيام تحمل مِن الشعائر ما يثير مشاعر الحب والشوق في قلوب المؤمنين: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).

1- يوم التروية:

- شعائر: لأنه اليوم الذي يبدأ فيه الحجيج بالإهلال، وسُمي بالتروية؛ لكثرة مَن يرتون الماء فيه ويجمعونه (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) (إبراهيم:37).

- مشاعر حب وإيمان وموالاة "عطش هاجر - بركة زمزم": عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ-، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا).

فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ-، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا) قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ) (رواه البخاري).

عِبَر حول المشاعر:

1- عظيم انقياد إبراهيم -عليه السلام-: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124)، (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:131).

2- عظيم توكل أم إسماعيل -عليها السلام-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:2-3).

3- الجزاء من جنس العمل: ذكر لا يتوقف بالسعي والرَّمَل في الصفا والمروة - الشرب سنة بعد الطواف مِن بئر لا تنفد، قال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وعن عروة بن الزبير قال: "كَانَتْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَحْمِلُ مَاءَ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَحْمِلُهُ فِي الأَدَاوِي وَالْقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ" (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

2- يوم عرفة:

- من الشعائر، بل أعظمها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَجُّ عَرَفَةُ) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني).

- مشاعر تعظيم الرجاء واستمطار الرحمات: قيل: "كان جبريل يعلم إبراهيم المناسك ويقول له: عرفتَ؟ فيقول: عرفتُ، فسمي عرفات".

- يوم الحجيج المنتظر: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟) (رواه مسلم).

- يوم الدعاء الأكبر: قال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- آثاره لغير الحجيج: قال -صلى الله عليه وسلم-: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ) (رواه مسلم).

صور مِن مشاعر أهل الموقف في هذا اليوم: "خوف ورجاء":

- كان مطرف بن عبد الله -رحمه الله- يقول: "اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي".

- روي عن الفضيل لما نظر إلى بكاء الناس وتسبيحهم قال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل، فسألوه دانقًا -سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق".

عِبَر حول المشعر:

- تذكر يوم الحشر ويوم الحساب والقضاء: قال الله -تعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (آل عمران:125).

- تذكر الخروج من الدنيا وترك متاعها ودنو الشمس من الرؤوس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ... ) (متفق عليه).

- تذكر سوق الناس إلى دار القرار بالدفع إلى المزدلفة ثم إلى منى للقرار: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:199).

3- يوم النحر:

- شعائر: "وجوب الهدي للتحلل - الأضحية عند غير المحرمين": (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة:196).

- فضله: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، فَقَالَ: (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

- مشاعر حب وولاء وتوقير لأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-: قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ . سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات:102-112).

عِبَر من قصة الذبح:

إبراهيم -عليه السلام-، الشيخ الكبير الذي انقطع من أهله وقرابته، المهاجر من أرضه ووطنه، الذي اشتاق إلي الولد طويلاً، قد رزق به (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أفضل مراحل عمر الأبناء (قَالَ يَا بُنَيَّ) تدل علي عظيم الحب وكذلك التماسك وعدم الانهيار، (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ليس أرسلك للجهاد مثلاً فتقتل، لا بل هو الذي يقتله ذبحًا (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)؛ لينال الولد أجر الاستسلام، (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ) في مودة وقربي وبر مماثل لـ(يَا بُنَيَّ)، ثم قال: (مَا تُؤْمَرُ) أدب مع الله بعدم تقديم رأي أو قول (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الاستعانة بربه علي ضعفه، ونسبة الفضل له علي التضحية، فالحول والقوة من الله.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) الإسلام الحقيقي هو الاستسلام لأمر الله والرضا والقيام به، فقد صار الأمر عندهما تعبدًا لله، (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) لم يكن باقيًا إلا سيلان الدم، وهذا شيء لا يعني في ميزان الله شيئًا بعد ما وضع إبراهيم في الميزان كل ما طُلب منه.

لقد تم الابتلاء، ووقع الامتحان، وظهرت النتيجة: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج:37)، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) باختيارهم للبلاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَشَدُّ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ)، فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون؛ (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) سلام من ربه؛ فسُجل في كتابه الباقي: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادنَا الْمُؤْمِنِينَ) شهادة بأعظم مقام العبودية (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) علاوة من جنس العمل.

4- أيام التشريق:

- شعائر: "رمي الجمار وضيافة الرحمن - صلاة العيد وتقديم الأضاحي".

- قال البغوي -رحمه الله-: "سميت بذلك؛ لأن لحم الأضاحي يُشرَّق فيها بمني، أي: يقدد ويبزر للشمس".

- مشاعر: "حب وولاء لإبراهيم -عليه السلام-": قيل: "إن إبليس كان يعترض إبراهيم -عليه السلام- عند العقبة الكبري ليدخل شبهة في حجه، فجعل يرميه بالحجارة".

- مشاعر ضيوف الرحمن: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه مسلم)، وقال: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

- من أسرار ذلك: أن الله -تعالى- دعا عباده إلى زيارته في بيته فأجابوه، فجاءوا بالهدايا فقبلها منهم واتخذ لهم منها ضيافة، والضيافة ثلاثة أيام، وسنة الملوك إطعام مَن بالدار ومَن على الأبواب، فكان الحجاج في داره، وغيرهم على بابه بالأضاحي.

- مظاهر عبودية مختلفة: "استسلام قلبي - رمي حجر بحجر - استلام حجر - طواف بحجر": (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36).

فاللهم أعنا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك في هذه الأيام.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي