الجمعة، ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -2

عضد الدولة- الخليفة سليمان بن عبد الملك- بدر بن حسنويه بن الحسين- عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن أبي بكر الحفصي

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف -2
محمود قناوي
الجمعة ١٨ مارس ٢٠١٦ - ٠٩:٥٣ ص
1183

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف (2)

كتبه/ محمود قناوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

استكمالا لما كتبناه في الحلقة السابقة نكمل السيرة العطر لملوك الأمة الأبرار، الذين رفعوا راية الأمة، وحكموا بالعدل، ولم يخشوا في الله لومة لائم، والذين خلت من ذكرهم كثير من كتب التاريخ المعاصرة، نذكرهم في عجالة لنذكر الشباب بأن أجدادهم كانوا عظماء، لم تنجب الدنيا مثلهم فاتخذوهم قدوة وانشروا فضلهم ليتعلم الكل من عدلهم ويقتدوا بأخلاقهم.

فمِن هؤلاء العظماء:

1-عضد الدولة

ذلك الحاكم العادل، الذي ذهب شاب مسلم إليه ليشتكي له من ظلم القاضي، فقال الرجل لعضد الدولة: "أيها الملك إني ابن فلان التاجر، ورثت عن أبي خمسين ألف دينار، أودعت عشرة منها عند هذا القاضي، فوقعت في بعض أسفاري في أسر كفار الروم، وبقيت في الأسر أربع سنين حتى مرض ملك الروم وخلى الأسرى فتخلصت وأنا رخي البال استظهارا بالوديعة، فلما طلبتها من القاضي جحد وأنكر وأظهر أنه لا يعرفني، وكررت الطلب فقال لي: إنك رجل استولت السوداء على دماغك، وأطعموك شيئا وإني ما رأيتك إلا الآن !! دع عنك هذا الجنون وإلا حملتك إلى المارستان وأدخلتك في السلسلة!.

وبعد أن سمع عضد الدولة الشكوى بكى وقال: أنا ظلمتك عندما وليت مثل هذا القاضي ثم أعطى عضد الدولة للرجل المظلوم مائتي دينار، وقال له اذهب إلى أصبهان ولا تأتي إلى هنا حتى أرسل إليك، ولا تذكر هذا الأمر لأحد. فانصرف الرجل وصبر عضد الدولة على ذلك شهرا ثم طلب القاضي يوما عند الظهيرة بالخلوة وأكرمه وقال له: أيها القاضي إن لي سرا ما وجدت في جميع مملكتي محلا غيرك لما فيك من كمال العلم، ووفرة العقل والدين، وهو أن لي أولادا ذكورا وإناثا، أما الذكور فلست أهتم بأمرهم وأما الإناث فعندهن تعقد الأمور وأنا أخشى عليهن، فأردت أن تتخذ في دارك موضعا صالحا لوديعة لا يعلم بها أحد غير الله تدفعها لبناتي بعد موتي، ودفع إلى القاضي مائتي دينار وقال اصرفها إلى عمارة حجرة تتسع لمائتي وأربعين قمقمة، وإذا تم أخبرني حتى أبعث القماقم على يد بعض من يستحق القتل ثم أقتله. فقال القاضي سمعا وطاعة وقام من عنده فرحا يقول في نفسه ذهبت بألفي ألف دينار أتمتع بها أنا وأولادي وأحفادي بعد الملك، وإذا مات الملك من يطالب بالمال ولا حجة ولا شاهد، هذا وقد بعث عضد الدولة للفتى المظلوم وبعد أيام أخبر القاضي عضد الدولة أن الحجرة التي سوف يوضع فيها المال قد تمت. فقال عضد الدولة للفتى المظلوم اذهب الآن إلى القاضي وطالبه بالوديعة، وهدده برفع الشكوى إلى عضد الدولة، فذهب الفتى المظلوم إلى القاضي فقال له: أيها القاضي ساء حالي وطال ظلمك لأذهبن غدا إلى عضد الدولة، فقام القاضي وعانق الفتى وقال له: ابن أخي إن أباك كان صديقي وما حبست حقك إلا لمصلحتك، لأني سمعت أنك اتلفت مالا كثيرا فأخرت وديعتك إلى أن أعرف رشدك، والآن خذ حقك، ثم أخرج القاضي القمقمتين وسلمها للفتى ومضى إلى عضد الدولة. وأحضر عضد الدولة القاضي وقال له: "أيها القاضي إني أجريت عليك رزقك لتقطع طمعك في أموال الناس، ولولا أنك شيخ كبير لجعلتك عبرة للناس، وصح عندي أن جميع ما تتقلب فيه حرام، فختم على جميع أمواله وعزله ورد مال الفتى، وقال الحمد لله الذي وفقني لإزالة ظلم هذا الظالم(1).

2- الخليفة سليمان بن عبد الملك

مما يذكر من محاسنه: أن رجلا دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله والأذان، فقال سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الأذان؟ قال: قوله - جل جلاله-: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}. فقال سليمان: ما مظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية غلبني عليها عاملك فلان. فنزل سليمان عن سريره ورفع البساط ووضع خده على الأرض، وقال: والله لا رفعت خدي من الأرض حتى يكتب له برد ضيعته. فكتب الكتاب وهو واضع خده على الأرض، ولما سمع كلام ربه الذي خلقه وخوله في نعمه خشي من لعن الله وطرده، رحمه الله.

3- بدر بن حسنويه بن الحسين

هو أبو النجم الكردي، كان من خيار ملوك همدان، وكان رحمه الله في غاية الأمن والطيبة، بحيث إذا عيي جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه ولو بعد حين، لا ينقص منه شيئا، ولما عاثت أمراؤه في الأرض فسادا عمل لهم ضيافة حسنة، فقدمها إليهم ولم يأتهم بالخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز فلما طال ذلك سألوا عنه فقال لهم: إذا كنتم تهلكون الحرث والزرع فمن أين تؤتون بالخبز؟

ثم قال لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إلا أرقت دمه.

ومن مواقفه رحمه الله أنه اجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة من الحطب وهو يبكي، فقال له الملك بدر: ما لك تبكي؟

فقال الرجل: إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوى بهما، فأخذهما مني بعض الجند، فقال له أتعرفه؟ قال نعم. فوقف به في موضع ضيق حتى مر عليه ذلك الجندي الذي أخذ رغيفه، فقال الرجل: هذا هو.

فأمر الملك الجندي أن ينزل من على فرسه، وأن يحمل حزمة الحطب من الرجل حتى يبلغ بها المدينة فـأراد الجندي أن يفدي من ذلك بمال جزيل، فلم يقبل منه الملك إلا أن يحمل الحطب إلى المدينة.

وكان الملك بدر الدين رحمه الله كثير الصلاة والذكر وكان له ألف دابة مربوطة في سبيل الله.

4- عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن أبي بكر الحفصي

أبو فارس بن أبي العباس الهنتاتي الحفصي، ملك المغرب وصاحب تونس، كان لا ينام من الليل إلا قليلا بل حزر بقدر أربع ساعات لا تزيد قط، وربما نقصت وليس له شغل سوى النظر في مصالح ملكه، وكان يؤذن بنفسه ويؤم بالناس في الجماعة ويكثر من الذكر ويقرب أهل الخير، وأنه أبطل كثيرا من التركات والمفاسد بتونس كالعيالة، وهو مكان يباع فيه الخمر للفرنج يتحصل منه شيء كثير في السنة ولأكثر الجيش عليه رواتب وعوضهم عنه، وكذا المكوس بحيث لم يكن ببلاده كلها شيء منها، وأنه شكي إليه قلة القمح بالسوق فدعا تجاره فعرض عليهم قمحا من عنده وقال أريد بيعه بدينار ونصف، فاسترخصوه فأمر ببيعه بذلك السعر وأن لا يشتري من غيره بأزيد، فاحتاجوا لبيع ما عندهم كذلك فترك هو حينئذ البيع فبلغه أنهم زادوا قليلا فأمر ببيع ما عنده بدينار فقط، وتقدم إلى خازنه أنه إن وجد القمح في السوق لا يبيع شيئا وإلا باع بدينار فاضطربوا إلى أن مشى الحال، فكانت من أحسن الحيل في تمشية حال الناس، وإنه كان محافظا على عمارة الطرقات بحيث أمنت القوافل في أيامه بجميع بلاده وإنه حضر محاكمة مع منازع له في بستان إلى القاضي فحكم عليه فقبل الحكم وأنصف الغريم.

وكتب إليه ابن عرفة مرة: والله لا أعلم يوما يمر عليّ ولا ليلة إلا وأنا داع لكم بخير الدنيا والآخرة، فإنكم عماد الدين ونصرة المسلمين.

قال المقريزي: وكان خير ملوك زمانه صيانة وديانة وجودا وأفضالا وعزما وحزما وحسن سياسة وجميل طريقة، وأطال ترجمته جدا في عقوده وختمها بقوله ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة، ولقد فجع الإسلام وأهله بموته، والله يرحمه ويتجاوز عنه. نسأل الله القبول. وللحديث بقية بإذن الله.

****************************

المصادر

1- التاريخ الاسلامي فيما بعد الخلفاء الراشدين ص160

2- بغية الطلب في تاريخ حلب ص385

3- إعلام الناس بما وقع للبرامكةج1ص23

4-:البداية والنهاية ج11 ص 406 و سير اعلام النبلاء ج12

5- الضوء اللامع للسخاوي ج2ص335و

6- إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ لابن حجر العسقلاني

7 -اثار البلاد واخبار العباد للقزويني ص104 عند ذكر مدينة كاريان

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


 

 

تصنيفات المادة