الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

كيف تُبنى الأمم؟ (4) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-

مشهد النسوة اللاتي راودنه عن نفسه- مشهد اجتماعه مع إخوته- رسالة خاصة لكل مَن ولي أمر الحكم والقضاء

كيف تُبنى الأمم؟ (4) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-
وائل عبد القادر
الخميس ٢٨ مايو ٢٠٢٠ - ١٠:٥٩ ص
679

كيف تُبنى الأمم؟ (4) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تكلمنا في المقال السابق عن أخلاق يوسف -عليه السلام- العظيمة التي تظهر لنا بجلاء أسباب النهضة والتنمية؛ تلك الأسباب التي نحن أحوج ما نكون إليه، وما أيسرها علينا، وقد ظهرت تلك الأخلاق العظيمة في أكثر من مشهد في قصة يوسف -عليه السلام-؛ تكلمنا عن أحدها في المقال السابق.

المشهد الثاني: مشهد النسوة اللاتي راودنه عن نفسه (وعلى رأسهن: امرأة العزيز):

كيف أراد -عليه السلام- أن يستخلص براءته أولًا حتى يخرج مِن السجن عزيز النفس كريم الجناب، فلا يقال خرج لأنه صاحب الفضل، فهو مَن عبّر الرؤيا، لا بل خرج؛ لأنه البريء المطهَّر مِن الفاحشة، ولكن كيف يثبت براءته وقد طلبه الملك؟

إنها الأخلاق السامية التي ضرب بها أعظم القدوة في آداب الخصومة، وكيفية استخلاص الحق بلا أدنى تجريح أو تشهير أو طعن، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) (يوسف:50).

إذًا فالأمر عند الملك، فليسأل هو عن النسوة، وليتحر ويحقق في الموضوع بنفسه، لتظهر له الحقيقة بلا تجريح لأحدٍ، ولا طعن، ولا تشويه!

وتأمل كيف أنه لم يقل: اللائي راودن يوسف عن نفسه، بل قال: (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، وحسنًا فعل الملك فبدأ التحقيق بنفسه ليصل إلى حقيقة الأمر، وطرح السؤال: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِه) (يوسف:51)؟!

وكانت الإجابة قاطعة -وكما يقولون: الإقرار سيد الأدلة-: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (يوسف:51)، ولم تجد امرأة العزيز مِن بدٍّ؛ إلا أن تتنازل عن كبريائها القديم، وغطرستها المعهودة، فأفاقت من غفلتها ورجعت إلى ربها، وأقرت هي الأخرى بالحقيقة: (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) (يوسف:51-52).

استخلص يوسف -عليه السلام- براءته بأدب جم وبخلق عظيم، بعيدًا عن شهوة الانتصار المعهودة عند أغلب البشر، ولا استخدام للعنف والصدام الذي ينتهجه البعض الآخر في استخلاص الحقوق.

المشهد الثالث: مشهد اجتماعه مع إخوته:

وهو ما حكاه القرآن في نهاية القصة حين تحققت رؤيا يوسف -عليه السلام-، وجمعه الله -تعالى- بأبويه وإخوته، وكان الحوار الرقيق الشفيق الذى استنقى به ما في الصدور، وطهر ما في القلوب حين قال لهم حاكيًا ما لحق به في سني عمره حتى صار ملكًا على خزائن الأرض: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم) (يوسف:100)، فلم يجرح يوسف -كعادته الكريمة-، ولم يقل: "أخرجني من الجُب"، بل قال: (مِنَ السِّجْنِ) رغم أنه أُلقي أولًا في الجُب، وهو أول بليّته، ولولا لطف الله -تعالى- به لهلك بداخله؛ لذلك قال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)، ومِن معاني اللطف أيضًا: ما أجراه الله -تعالى- عليه مِن تقدير الأمور، وتصريف الأحوال التي في ظاهرها شر أو سوء، وهي عين صلاحه، والسبيل إلى سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا بها تحمل في طياتها الخير كل الخير له ولأهله "كما يمتحن أولياءَه بما يكرهونه لينيلهم ما يحبون".

ثم هو يبرئ إخوته من الكيد أو المكر به، فإنما هو الشيطان الذي نزغ بيني وبين إخوتي؛ ليضع بذلك أهم ركائز (المصالحة) المنشودة، وهي التخلي عن الجفاء، وترك المعاتبة عند الصفاء، وقد بيّن أن المصالحة تبدأ من داخل الأسرة الواحدة، وخاصة مع اختلاف المشارب والتوجهات، فإصلاح ذات البين يبدأ من هاهنا؛ مِن الأسرة التي هي اللبنة الأولى في المجتمع، فحينما تنصلح الأُسر ينصلح بمجموعها المجتمع بأسره، فليتنازل كل منا عن بعض ما له مِن الحق حتى تصفو النفوس وتتوافق الأفئدة على القاسم المشترك بين الجميع، بشرط صدق النية، وسلامة الصدور، ونقاء النفوس، وعدم التنازل عن الثوابت.

ثانيًا: رسالة خاصة لكل مَن ولي أمر الحكم والقضاء:

ويظهر ذلك جليًّا في تحطيمه ما كانوا عليه مِن تساهل في الحكم والقضاء، حتى استساغوا أن تحمل نفس وزر نفس أخرى حين قالوا له: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:78)، وبيّن لهم أن مِن أعظم أسباب الظلم: الانحراف في الحكم، فقال: (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) (يوسف:79).

فأقر بذلك أهم مبادئ العدل والقسط، وهو مبدأ: (شخصية العقوبة)، وأنها لا تلحق إلا مرتكب الجريمة دون غيره، فهي لا تقبل الإنابة، ولا الصلح؛ ليرسل بذلك أوضح رسالة للقضاة والحكام: (ألا تأخذوا إلا مَن وجدتم متاعكم عنده)، ولكن بقيدٍ وشرطٍ، وهو: "ألا تضعوا بأيديكم متاعكم في رحالهم".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة