الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (119) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (23)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (119) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (23)
الاثنين ٠٥ يونيو ٢٠٢٣ - ١٠:٣٥ ص
58

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (119) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (23)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى- عن إبراهيم --صلى الله عليه وسلم--: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد:

الفائدة الثانية:

أن الظلم وأعظمه الشرك؛ إذ هو الظلم الأكبر، فهو سبب الخوف في الدنيا، وفي القبر، وفي الآخرة، فأما في الدنيا: فحتى لو توفرت أسباب الأمن؛ فإن المشرك والظالم في خوفٍ بقدر ظلمه؛ لأن مَن لم يخف مِن الله أخافه الله من كلِّ شيء، قال الله -عز وجل-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 151).

فتأمل كيف ذكر الله -عز وجل- أن سبب الخوف والرعب الفظيع الذي ألقي في قلوبهم هو الشرك بالله، وختم الآية بما يدل على أن الظلم هو السبب!

فدَلَّ ذلك على: أن كلَّ ظالم له مِن الخوف بقدر ظلمه نصيب، والمشركون لما كانوا ظالمين أنفسهم الظلم الأكبر، كان لهم النصيب الأكبر من الخوف؛ فهو الرعب الذي هو أشد الخوف، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (الأنفال: 12)، والله -عز وجل- قد نَصَر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بالرعب، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (نُصِرْتُ ‌بِالرُّعْبِ ‌مَسِيرَةَ ‌شَهْرٍ) (متفق عليه).

ولقد أخبرني مَن أثق بهم عن أحد الظلمة الذي كان مشهورًا بظلم الناس وتعذيبهم، وإدخال الرعب عليهم في بيوتهم أنه أتى إليهم في الصحراء البعيدة، فنام عندهم، فلما استيقظ قال: "هذه أول ليلة أنام بغير منوم منذ ثلاث سنين!". نسال الله العافية.

هذا البلاء بسبب الظلم، أفظع وأشد مما يدخلونه في قلوب الناس من الخوف والرعب؛ رغم أن أسباب الأمن متوفرة، والحراسات عظيمة، ومع ذلك؛ فإن الشعور بالأمن إنما هو أمرٌ يقذفه الله -عز وجل- في القلب مع الإيمان، وأما مع الشرك فيكون الرعب والخوف من عند الله -عز وجل-؛ هو الذي يلقيه في القلوب، نعوذ بالله من ذلك.

وأما في القبر: فهو في أعظم فزعٍ مِن المَلَكَيْن اللذين يسألانه، وحين يقول: "لا أدري"؛ يضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابًا، وأيضًا هو في فزع من الأصم الأعمى الذي يضربه، ومن الرجل السيئ الوجه الذي يأتيه، فيقول: "أنا عملك السيئ! أبشر بما يسوؤك".

روى الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، ‌يُقَالُ ‌لِأَحَدِهِمَا: ‌الْمُنْكَرُ، ‌وَلِلْآخَرِ: ‌النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌فِي ‌جَنَازَةِ ‌رَجُلٍ ‌مِنَ ‌الْأَنْصَارِ، ‌فَانْتَهَيْنَا ‌إِلَى ‌الْقَبْرِ ‌وَلَمَّا ‌يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، (وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟) قَالَ هَنَّادٌ: قَالَ: (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ -زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ-: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عز وجل-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) (إبراهيم: 27)، الْآيَةُ ثُمَّ اتَّفَقَا- فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ) قَالَ: (وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ» قَالَ: (وَإِنَّ الْكَافِرَ) فَذَكَرَ مَوْتَهُ، قَالَ: (وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ) قَالَ: (فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا) قَالَ: (وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: (ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا) قَالَ: (فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَيَصِيرُ تُرَابًا) قَالَ: (ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ فهذا أعظم الرعب والخوف الذي يصيب الكافر والظالم في قبره.

وأما في الآخرة: فقد قال -عز وجل-: (‌وَيَوْمَ ‌يُنْفَخُ ‌فِي ‌الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل: 87)، ففزع يوم القيامة أعظم الفزع، والخوف فيه أعظم الخوف، وهذا للمشرك والكافر؛ خوف لا ينتهي ولا يتوقف! نعوذ بالله مِن ذلك، ونسأل الله العافية.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة