الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

الكبائر (23) الغيبة (موعظة الأسبوع)

الكبائر (23) الغيبة (موعظة الأسبوع)
الخميس ٢٧ يوليو ٢٠٢٣ - ١٠:١٩ ص
92

 

الكبائر (23) الغيبة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الغيبة من الكبائر الخطيرة، والمنكرات المفسدة، والأخلاقيات القبيحة؛ لما لها من أثر عظيم في الإفساد بين الناس، وقد جاء الدليل على كونها من الكبائر: قال -تعالى-: (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).

- الإشارة إلى أن الغيبة من أكثر الذنوب انتشارًا بين الناس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ ‌مَا ‌الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم).

- تفسيرات العلماء لمعنى الغيبة من خلال حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال ابن التين -رحمه الله-: "الغِيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب" (فتح الباري لابن حجر).  

وعرَّفها الجوهري بقوله: "أنْ يتكلَّم خلف إنسانٍ مستور بما يَغُمُّه لو سمعه، فإن كان صدقًا سُمِّيَ غِيبَةً، وإن كان كذبًا سمِّي بُهتانًا" (الصحاح في اللغة)، وقال المناوي -رحمه الله-: "هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظٍ، أو إشارةٍ، أو محاكاةٍ" (فيض القدير)

- الفرق بين الغِيبة والنَّمِيمَة: الغيبةُ: ذكر الإنسان بما يكره لما فيها من مفسدة الأعراض. والنَّمِيمَة: أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرَّض لأذاه؛ لما فيها من مفسدة إلقاء البغضاء بين الناس. وسيأتي التفصيل في حديث منفرد عن النميمة.

(1) ذم الغِيبة والنهي عنها:

- الغيبة من الذنوب التي نَفَّر القرآن منها بما تستقذره نفوس الناس جميعًا: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).

قال الشوكاني -رحمه الله-: "فهذا نهي قرآني عن الغِيبة، مع إيراد مثل لذلك، يزيده شدَّةً وتغليظًا، ويوقع في النفوس من الكراهة والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره، فإنَّ أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلةً وطبعًا، ولو كان كافرًا أو عدوًّا مكافحًا؛ فكيف إذا كان أخًا في النسب، أو في الدين؟! فإنَّ الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار؛ فكيف إذا كان ميِّتًا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرًا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس، وبهذا يعرف ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغِيبة، بعد النهي الصريح عن ذلك" (الفتح الرباني).

- وعَظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأن الأعراض، والتي تنتهكها الغيبة وتعتدى عليها: فعن أبي بكرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم النحر بمنى: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، ‌كَحُرْمَةِ ‌يَوْمِكُمْ ‌هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّ ‌مِنْ ‌أَرْبَى ‌الرِّبَا ‌الِاسْتِطَالَةَ ‌فِي ‌عِرْضِ ‌الْمُسْلِمِ ‌بِغَيْرِ ‌حَقٍّ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

- وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من المفهوم الخاطئ عند كثيرٍ من الناس لمعنى الغيبة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ ‌مَا ‌الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم)(1).

- وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يتساهل فيه أكثر الناس من الغيبة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: ‌حَسْبُكَ ‌مِنْ ‌صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ). قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

قال النووي -رحمه الله-: "هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ؛ فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات؛ فما بالك بغيبة أقوى منها؟!" (فيض القدير).

(2) عقوبة المغتاب في الدنيا والآخرة:

- يتتبع الله عورة المغتاب ويفضحه ولو في جوف بيته: عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ‌مَعْشَرَ ‌مَنْ ‌آمَنَ ‌بِلِسَانِهِ، ‌وَلَمْ ‌يَدْخُلِ ‌الْإِيمَانُ ‌قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

- المغتاب يعطي حسناته لمَن اغتابه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا ‌الْمُفْلِسُ؟)، قَالُوا: ‌الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ ‌الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).

قال الغزالي: "الغِيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومَثَل مَن يغتاب كمَن ينصب منجنيقًا، فهو يرمي به حسناته شرقًا وغربًا، ويمينًا، وشمالًا!". وقال ابن المبارك: "لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنَّهما أحق بحسناتي" (شرح صحيح البخاري لابن بطال)، وعن الحسن البصري أنَّ رجلًا قال له: "إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أُحكمك في حسناتي" (الأذكار النووية).

- المغتابون في الآخرة يعذَّبون بتعذيب أنفسهم: عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

خاتمة: كفارة الغيبة:

- الغيبة من الكبائر، وكفارتها التوبة والندم، والاعتذار لمَن حدثت في حقه الغيبة إن كانت الغيبة قد بلغت الرجل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ومَن ظلم إنسانًا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبِل الله توبته، لكن إن عرف المظلومُ مكَّنه مِن أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد، أصحهما: أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل: بل يحسن إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته، كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بَيَّن العلماء مفهوم الحديث، وأنه مشتمل على كلِّ ما يستعمل في عيب أخيه الغائب: (قال الغزالي: اعلم أن الذكر باللسان إنما حُرِّم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه: كالقول والإشارة، والإيماء والغمز، والهمز، والكتابة، والحركة، وكل ما يفهم المقصود؛ فهو داخل في الغيبة وهو حرام" (إحياء علوم الدين).

ما لا يُعد من الغيبة: قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنَّ الغِيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أبواب:

الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما مما له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان كذا.

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد المعاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه.

الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا.

الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم.

الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، وأخذ المكس، وغيره.

السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب الأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيره؛ جاز تعريفه بذلك.

وجمعها الأمير الصنعاني في بيتين:

الـذَّمُّ لـيس بغـِـيـبةٍ فـي سِـتَّـةٍ                        مـُتَـظَـلِّمٍ ومُـعَرِّفٍ ومُــحَــذِّرِ

ولمُظْهِرٍ فِسْقًا ومُسْتَفْتٍ ومَنْ                        طَلَبَ الإعانة في إزالة مُنْكَرِ

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة