الخميس، ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٢ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

إنا لله وإنا إليه راجعون

إنا لله وإنا إليه راجعون
الأربعاء ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٣ - ١٦:٤٨ م
122

إنا لله وإنا إليه راجعون

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فمِن أعظم ما يعين المسلم في سيره إلى ربه -سبحانه وتعالى- أن يعرف طبيعة الطريق وطبيعة الحياة الدنيا، وأنها دار بلاء وتعب ونصب، كما قال -سبحانه-: (‌لَقَدْ ‌خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ(البلد: 4)، فنعيم الدنيا منغص ناقص، ولو بلغ ما بلغ؛ فهو إلى زوال وأنت مسؤول عنه ومبتلى به، قال -سبحانه-: (‌كُلُّ ‌نَفْسٍ ‌ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(الأنبياء: 35).

فالدنيا دار فَقْد ونقص ومحنة، كما قال -تعالى-: (‌وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(البقرة: 155).

فهذا البلاء واقع ومتيقن حدوثه، وإن كان الله رحيم بعباده فلم يصبهم بكل البلاء، وإلا لأهلكهم، ولكن بشيء منه رحمة ولطفًا بهم، كما قال القاسمي -رحمه الله-: "وإنَّما قَلَّلَ لِيُؤْذَنَ أنَّ كُلَّ بِلاءٍ أصابَ الإنْسانَ، وإنْ جَلَّ، فَفَوْقَهُ ما يَقِلُّ إلَيْهِ، ولِيُخَفِّفَ عَلَيْهِمْ ويُرِيَهم أنَّ رَحْمَتَهُ مَعَهم في كُلِّ حالٍ لا تُزايِلُهم، وإنَّما أخْبَرَ بِهِ قَبْلَ الوُقُوعِ، لِيُوَطِّنُوا عَلَيْهِ نُفُوسَهم، ويَزْدادَ يَقِينُهم، عِنْدَ مُشاهَدَتِهِمْ لَهُ حَسْبَما أُخْبِرَ بِهِ، ولِيَعْلَمُوا أنَّهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ، لَهُ عاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ" (محاسن التأويل).

على أنه يصيبهم أيضًا بذنوبهم، ولا يجازيهم الرؤوف الرحيم إلا ببعضه رحمة ورأفة، كما قال -سبحانه وبحمده-: (وَمَا أَصَابَكُمْ ‌مِنْ ‌مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(الشورى: 30)، فلا بد من الصبر والتقوى، ويحصلان باليقين؛ لذلك ختم هذه الآيات بالبشرى للصابرين ولم يعينها ليظهر لهم الشكور الكريم عظيم ما بشروا به، كما قال -سبحانه-: (‌وَجَزَاهُمْ ‌بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا(الإنسان: 12).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق؛ جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة" (روضة المحبين).

ونفى عنهم كل حزن وخوف مما أصابهم في الدنيا، فقال -سبحانه-: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ‌وَلَا ‌أَنْتُمْ ‌تَحْزَنُونَ(الزخرف: 68)، وجمعهم بمَن فقدوا من صالحي بنيهم، كما قال -سبحانه-: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ ‌مِنْ ‌كُلِّ ‌بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(الرعد: 23-24)، بل وجمعهم بالصالحين مِن أحبتهم، كما في الحديث، قِيلَ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ ولَمَّا يَلْحَقْ بهِمْ؟ قالَ: (المَرْءُ مع مَن أحَبَّ(رواه البخاري).

وكذا كما في قوله -تعالى-: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . ‌هَلْ ‌ثُوِّبَ ‌الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(المطففين: 34-36).

وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "إن السور الذي بين الجنة والنار يُفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون كيف يعذّبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم" (تفسير الطبري).

ثم ذكر -سبحانه- صفات، بل في الحقيقة أسبابًا لتحصيل الصبر، الذي يقولون بلسان الحال والمقال عند نزول البلاء والمصائب عليهم: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ ‌مُصِيبَةٌ ‌قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(البقرة: 156).

(‌قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه؛ فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر" (تفسير السعدي).

قلتُ: وكذلك عدونا إلى الله راجع، وسيوفيه ويجازيه أشد العذاب، وإن تمتع قليلًا في هذه الحياة فهو مهزوم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون؛ قال الله -تعالى-: (‌لَا ‌يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) (آل عمران: 196)، وقال -تعالى- أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ ‌يُدْخِلُ ‌الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(محمد: 12).

فالغفلة عن الآخرة من أعظم أسباب الألم والأحزان في الدنيا، واليقين من أعظم ما يهون على العبد البلايا والمحن، كما في دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (‌اللَّهُمَّ ‌اقْسِمْ ‌لَنَا ‌مِنْ ‌خَشْيَتِكَ ‌مَا ‌يَحُولُ ‌بَيْنَنَا ‌وَبَيْنَ ‌مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

فالقرآن يربط على قلبك، والدعاء وكثرة الصلاة والقرب من الله، والإنابة والتوكل عليه، وتفويض الأمر له وشهود حكمته وعزته، وكذلك كمال علمه وعظيم رحمته؛ كل هذا مِن أعظم أسباب القوة والطمأنينة والسكينة، وهي جنة الدنيا والسبيل لجنة الآخرة، وهو النعيم المعجَّل للنعيم الذي لا ينفد في الجنة، والله قريب مجيب.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة