صعود الجولاني في
سوريا.. بين التفاؤل المفرط والحذر الواجب والتوظيف المريب
كتبه/ أحمد الشحات
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مدخل:
في تطور سريع وغير مسبوق لمجريات الأحداث في
سوريا، أسفرت عن هروب جنرالات وأفراد الجيش السوري أمام فصائل المقاومة المسلحة
تبعه هروب الرئيس السوري السابق بشار الأسد هو وأسرته إلى روسيا حيث أعطته حق
اللجوء السياسي إليها، وبذلك تكون انتهت حقبة حكم بشار الأسد من سوريا، وأصبحت
سوريا في قبضة الفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام "هتش"
وقائدها العام "أبو محمد الجولاني" الذي حصل على لقب "قائد
العمليات العسكرية" منذ أن بدأت ميليشياته تتحرك من إدلب إلى حماة ثم حمص
وصولاً إلى دمشق.
المشهد السوري الداخلي:
لا شك أن الشعب السوري عانى من الظلم الممنهج
والتعصب الطائفي من عائلة الأسد العلوية، ففي حين أن الأغلبية العظمى من الشعب
السوري من السنة إلا أن حافظ وبشار من الطائفة العلوية التي تنتسب إلى الإسلام
زورا، بينما حقيقتها الكفر الصريح، وهذا ما يفسر سلوك التعذيب والقهر الذي كان
يمارسه بشار وأبوه مع معارضيه، وما كانوا يطلبونه من السجناء من السجود لبشار
وغيرها من الانتهاكات والإجرام الذي لا يوجد له نظير فيما نعلم.
أما منذ عام 2011 ومنذ أن خرجت المظاهرات السورية
تطالب برحيل بشار أسوة بباقي مظاهرات الربيع العربي، فإن بشار بسبب إجرامه وخوفه
في نفس الوقت، واجه الثورة السلمية بالقوة المسلحة الغاشمة التي لم يكتفِ فيها
باستخدام الشبيحة وعصاباته الخاصة، بل استعمل القوة المسلحة في مواجهة المدنيين
العزل، مما أدى إلى دعشنة الثورة السورية، ومن ثم تحولت المظاهرات إلى مواجهة
مسلحة مع فصائل عديدة منها فصائل سورية وأخرى تسللت إلى سوريا عبر الحدود، وأصبحت
سوريا ساحة مفتوحة للمواجهات المسلحة من فصائل تتحرك على الأرض، وجيش بشار الذي دمر
سوريا بالطيران والبراميل المتفجرة، وغيرها من أسلحة الحروب التي لا تستخدم إلا
تجاه العدو.
ومن توابع ذلك أن بشار استعان بحلفائه
الإقليميين والدوليين، فاستنجد بإيران التي أمدته بقوات من الحرس الثوري الإيراني،
ثم أمرت أذرعها في لبنان بالتحرك، فأصبح لحزب الله شبه جيش يقاتل على أرض سوريا.
كما جاءت روسيا بقواتها لتنشئ قاعدة عسكرية لها
في سوريا، وبالتالي تواجدت الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك إسرائيل.
ومن الجهة الشمالية تواجدت تركيا كذلك، وكل هؤلاء
إما أن يكون لهم تواجد صريح ومعلن عن طريق قواتهم وقواعدهم، وإما أن يدعموا فصيلاً
مقاتلاً على الأرض، بحيث يتلقى منهم الدعم، ويقوم بدوره الوظيفي في تحقيق أهداف
الدولة صاحبة الدعم.
أما الفصائل المسلحة التي تقاتل على الأرض
فأصبحوا لا يحصون كثرة، وهم كذلك لا يجمعهم لواء واحد ولا قيادة مشتركة، مع اختلاف
كبير في المناهج والمنطلقات، أدى في كثير من الأحيان لنشوب قتال مرير بين هذه
الفصائل المسلحة بعضها البعض.
فإذا كان هذا هو وصف المشهد السوري خلال
الثلاثة عشر عاما الماضية، فكيف للسوريين ألا يفرحوا بسقوط بشار أو زوال نظامه؟
وبالتالي فالفرحة العارمة التي يشعر بها السوريون
عقب هروب بشار لها ما يبررها، خاصة إذا صاحب ذلك إخراج الأسرى والمعتقلين من
السجون، وتنسم الشعب نسيم الحرية بغض النظر عن ما ستؤول إليه سوريا في السنوات
القادمة أو ما ينتظرها من عقبات أو صعوبات.
المشهد الإقليمي والدولي:
ذكرنا أن المشهد السوري أصبح منذ عام 2011 شديد
التعقيد والصعوبة، بل صارت سوريا مسرحاً للصراع الدولي بين القوى المناوئة أو
المتنافسة، سواء أمريكا وإسرائيل من جانب، أو إيران وروسيا وحزب الله من جانب آخر،
بالإضافة إلى تركيا التي لها مصالح وأطماع في سوريا ولديها مخاوف وقلق من نظامها
الحاكم، باعتبارها دولة جارة ومتاخمة للشمال السوري.
ويبقى نظام الأسد كالهر المرتجف وسط هذه الأسود
المفترسة، فرغم أنه الذي أتى بهم لكي يحموا عرشه إلا أنه صار أسيراً لهم جميعا مع
تعارض وتضارب مصالحهم وتباين مواقفهم، وبالتالي فمن الثوابت السياسية والمنطقية
التي لا تقبل الجدل أن الحراك الفصائلي الذي حدث أمام بشار لا يمكن له أن يتم أو
يحصل إلا بموافقة واتفاق بين الأطراف المعنية والمتحكمة بالشأن السوري لأنها ليست
مجرد داعمة بصورة أو بأخرى، ولكنها صارت جزءًا من المشهد وممسكه بخيوطه الرئيسية.
وهنا نعود إلى التصريحات الرسمية للأطراف المعنية
لنعرف من المسئول عن الحراك ومن الذي رفع يده عن الصراع الحالي وتخلى عن بشار،
فإذا نظرنا إلى روسيا وهي اللاعب الدولي الأبرز في سوريا، سنجد تصريح الرئيس
الروسي بوتين أنه لا يستطيع أن يقدم الدعم لجيش يفر من مواقعه ويترك معداته،
وبالتالي اكتفت روسيا بالبقاء في قواعدها العسكرية ولم تقدم له الدعم المنتظر.
أما إيران فقد وعت أن المرحلة الآن لا تحتمل
المواجهة مع أمريكا وإسرائيل، وأن ثمة قرار تم اتخاذه بتصفية الأذرع الإيرانية في
المنطقة، وقد دمرت إسرائيل معظم قوة حزب الله أفرادا ومعدات، وها هي تزحف على
سوريا، ومن ثم رفعت يدها عن دعم بشار، وبالتالي فقد بشار أكبر قوة مقاتلة على
الأرض ممثلة في ميليشيات حزب الله، أما تركيا فقد هدد أردوغان بشار بعد تعنته في
المفاوضات خلال السنوات السابقة أنه إن لم يتعاون من أجل إنجاح المفاوضات، فإنه
سيدعم من يراه متعاونا من الداخل السوري، كما أن التصريحات التركية جاءت مرحبة
وداعمة لحراك الفصائل، وبالتالي فإما أن تكون داعما رئيسا أو معاونا أو مرحبا على
أقل تقدير.
أما تصريحات قادة أمريكا فلا يفهم منها سوى أنها
مرحبة وداعمة لتحرك الفصائل السورية وأن النظام السوري أوشك أن يفقد شرعية بقائه،
ومن هنا تعرف أن ثمة اتفاق أمريكي إسرائيلي روسي على إزالة نظام بشار عن طريق دعم
تحرك الفصائل المسلحة سواء بشكل مباشر أو من خلال وسيط آخر سواء كانت تركيا أو
غيرها، وقد تولت الولايات المتحدة الأمريكية تحذير أو طمأنة الأطراف الأخرى حتى لا
تتدخل.
وبالتالي وجد بشار نفسه وحيداً أمام اتفاق مبرم
بين أطراف دولية كبرى، لذا جبن عن مواجهة الفصائل رغم أن ما يمتلكه من سلاح ومعدات
يمكنه أن يبيد هذه الفصائل عن بكرة أبيها، خاصة وأن جيش بشار جيش كامل التشكيل
متطور التسليح، فضلاً عن امتلاكه لمقومات الجيش النظامي من طيران ومنصات صواريخ
ومنظومة دفاع جوي ودبابات وأنظمة تجسس بينما لا تملك الفصائل سوى السلاح الخفيف،
فكان قراره هو الهروب بنفسه وبأسرته، تاركا جيشه بدون قيادة ولا تعليمات، بل قل
بتعليمات تأمرهم بالانسحاب.
ومن ثم تحركت الفصائل المسلحة كأنها في نزهة
خلوية، لم تستهلك من الوقت سوى وقت الانتقال من مدينة إلى أخرى، فلم تكن ثم مواجهة
ولا حرب ولا قتال ولم تكن هناك خسائر في الجانبين لا في الأرواح ولا في المعدات
ولا في غيرها، وهذا أمر ينبغي ألا نغفل عنه حتى لا يتم توصيف الحدث بشكل غير
حقيقي. نعم ألقى الله في قلب بشار الرعب ففر هاربا لكننا نتكلم عن حدث مدار وموجه
بشكل دقيق وليس أنه تفاعل مفاجئ أو تلقائي.
فرحنا وفرح الجميع بزوال حكم هذا الطاغية، وفرحنا
أن الجيش السوري العظيم سيعود ملكا للشعب وللأمة العربية، سيفا في مواجهة العدو،
ودرعا حاميا للوطن، ولكن لم تكتمل الفرحة حيث فاجأتنا الأنباء الحزينة أن إسرائيل
قامت بتنفيذ أكبر ضربة جوية في تاريخ إسرائيل فشنت 350 طلعة جوية دمرت من خلالها
كل معدات الجيش السوري البرية والجوية والبحرية والمخابراتية، وإنا لله وإنا إليه
راجعون.
تحولت القطع العسكرية إلى حطام محترق في يومين أو
ثلاثة على الأكثر، وأصبحت سوريا دولة منزوعة السلاح إلا ما كان في يد الفصائل من
السلاح الخفيف الذي لا يصلح إلا لقتال الشوارع لا مواجهة الجيوش المحتلة، وإمعانا
في الأذى اجتاحت الدبابات الإسرائيلية الأراضي السورية واحتلت ما تبقى من الجولان
وجبل الشيخ، وأعلن نتنياهو انتهاء اتفاقية فض الاشتباك بينه وبين سوريا التي أبرمت
عام 1974، وأصبحت إسرائيل تعربد في سوريا دون رادع أو مقاوم.
العجيب أن الدول العربية وعلى رأسها مصر بادرت
باستهجان هذا العدوان الإسرائيلي وحذرت من تداعياته، ولكن الفصائل السورية التي
أسقطت بشار لم تحرك ساكنا ولم تصدر بيانا إلا من بعض التصريحات التي صدرت متأخرة!!
بل لم تتعرض لقضية احتلال سوريا من جانب القوات الأمريكية والإسرائيلية والروسية،
ولا نعرف كيف ستتعامل الفصائل مع هذا الواقع المربك خلال الأيام القادمة.
فلنترك المشهد السوري حتى الآن، فسرعان ما ستكشف
الأيام القادمة عن كثير من الألغاز وستجيب عن الأسئلة الحائرة التي تشغل بال
المحللين والمهتمين بالشأن السوري، وننتقل إلى الشخصية الأبرز في هذا الحراك وهو
"أبو محمد الجولاني" الذي سلطت وسائل الإعلام الأضواء عليه، وحاورته
وكالات الأنباء العالمية، وتصدر المشهد على أنه قائد هذا الحراك ومسئول العمليات
العسكرية على الأرض، خاصة بعد هروب بشار، ثم دخول الجولاني إلى المسجد الأموي في
حشد كبير من أتباعه وعسكره، مكبرين ومهللين بتحقق النصر وسقوط النظام.
فمن هو الجولاني وما منهجه وما هي أهم محطات
مسيرته؟
ولد أحمد حسين الشرع -المعروف بأبو محمد
الجولاني- في العاصمة السعودية الرياض عام 1982، ثم انتقل مع عائلته إلى سوريا
وعمره آنذاك 7 سنين، وفقا لمقابلة أجراها معه الصحفي الأميركي مارتن سميث في
فبراير 2021.
وتعود أصول عائلته إلى الجولان السوري المحتل،
وكان والده ذا توجه قومي عربي، وقد شارك في بعض الاحتجاجات ضد حكم البعث في سوريا
فسجن على إثر ذلك مرات عدة في سوريا والأردن، فلجأ إلى العراق.
كان الجولاني -وهو لا يزال طالبا في الجامعة-
يأتي من دمشق إلى حلب لحضور خطب الجمعة التي كان يلقيها محمود قول آغاسي (أبو
القعقاع) في "جامع العلاء بن الحضرمي" بالصاخور، وحين تعرض العراق للغزو
الأميركي في مارس 2003، نادى آغاسي بضرورة مقاومة هذا الغزو، فكان الجولاني ضمن
أوائل الملبّين لهذا النداء.
توجه الجولاني للقتال في العراق، وقد كان
يبلغ من العمر آنذاك 21 عام عندما انضم إلى تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد
الرافدين" تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، وفي عام 2005 اعتقلته القوات
الأمريكية في الموصل ليقضي خمس سنوات في سجن بوكا الشهير الذي تخرجت منه معظم رموز
الجماعات القتالية.
أفرج عن الجولاني عام 2010 وتم تعيينه قائداً أو
أميراً على الموصل من جانب تنظيم داعش تحت قيادة أبوبكر البغدادي، لكنه لم يكن
يرغب في الاستمرار في العراق، وعزم على العودة إلى سوريا.
في عام 2011 وبعد تحرك الأحداث في سوريا، سافر
الجولاني من العراق إلى سوريا مع مجموعة من المقاتلين كانوا النواة الأولى لتأسيس
جبهة النصرة فيما بعد، بعد تأسيس جبهة النصرة، أعلن البغدادي أن جبهة النصرة هي
فرع داعش في سوريا إلا أن الجولاني رفض هذه التبعية، وأعلن أنه تابع لتنظيم
القاعدة الأم وليس لتنظيم داعش، وكان هذا الخلاف كافيا لاندلاع مواجهات عنيفة
للغاية بين جبهة النصرة وتنظيم داعش على الأراضي السورية، خاصة أن بعض مقاتليه
فضلوا التبعية لداعش وليس لتنظيم القاعدة.
في عام 2016 أعلن الجولاني فك ارتباطه بتنظيم
القاعدة تماما، وأعلن تأسيس جبهة فتح الشام، وصارت له ممارسات عنيفة على الأرض
تجاه من لم يوافقوا على فض الارتباط، إلى أن انتهى بهم الحال إلى تأسيس كيان جديد
تحت اسم "حراس الدين"، ما أدى إلى أن الجولاني يحاربهم ويعتقل أفرادهم
وقادتهم ويسلب أسلحتهم وغنائمهم، وهكذا.
بعد انفصال الجولاني عن القاعدة خاض العديد من
الحروب والمعارك سواء مع الفصائل الأخرى ممن كان رفقاء الدرب بالأمس القريب أو
الجيش السوري، مما أدى إلى توسع نفوذ هيئة تحرير الشام على غيرها من الفصائل،
وأعلنت أمريكا تصنيفها للهيئة أنها منظمة إرهابية، وأعلنت مكافأة قدرها 10 مليون
دولار لمن يدلي بمعلومات عن الجولاني.
في أواخر عام 2017 غيرت الجبهة اسمها إلى
"هيئة تحرير الشام" بعد أن اندمجت معها بعض الجماعات المقاتلة الأخرى،
ومنذ ذلك التاريخ والقاعدة الأم اعتبرت الجولاني بمثابة العبد الآبق عن سيده، حيث
اعتبر الظواهري هذا الأمر بمثابة انتهاك للعهد، كما انتقد "المقدسي"
الجولاني واتهمه بتمييع المنهج الأصلي للقاعدة، ومنذ ذلك التوقيت أصبحت إدلب
المعقل الرئيسي لهيئة تحرير الشام دون غيرها من الفصائل.
أعلن الجولاني أن هدف الهيئة هو قتال قوات النظام
وإقامة حكم إسلامي في إدلب، وإخراج المجموعات القتالية التابعة لإيران، وقد نجح في
بسط نفوذه على مساحة كبيرة من إدلب.
في عام 2020 قامت الهيئة بتفكيك غرفة العمليات
العسكرية لفرع القاعدة في سوريا المسمى "حراس الدين" بعد إغلاق قواعدهم
العسكرية وقتل بعض قادتهم واحتجاز البعض الآخر منهم: أبو القسام الأردني، وأبو
محمد السوداني، وغيرهم.
عمل الجولاني على تأسيس حكومة تكنوقراط في
المناطق التي سيطر عليها، ليخلق نوعا من الاستقرار المجتمعي في تلك المناطق التي
تشبه نظام الحكم الذاتي، وسعى خلال تلك الفترة على رسم صورة الحاكم السياسي وليس
القائد العسكري حيث كان حريصا على التواصل مع وسائل الإعلام الإقليمية والدولية
خاصة الإعلام الغربي، مما يؤكد أنه كان يتخذ خطوات عملية جادة نحو الاعتراف الدولي
به، خاصة بعد تأسيس حكومة الإنقاذ الوطني، وتقديم نفسه في صورة شخص راغب في ممارسة
الحياة السياسية وليس القتال المسلح فقط.
من هنا حرص الجولاني على إبراز مساحات الخلاف
بينه وبين تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، ليس عبر بوابة المراجعات المنهجية أو
التراجعات الفكرية، ولكن من خلال الشكل والأداء وطريقة الظهور والتعامل الإعلامي
وغيرها من التغيرات في المساحة الشكلية الحركية التي تؤكد على قبول مفردات أخرى
غير القتال مع بقاء الأصول المنهجية والمنطلقات الفكرية دون تغيير أو مراجعة، ومع
بقاء الممارسات العنيفة على الأرض كما هي، حتى أدت في بعض الأحيان إلى خروج
مظاهرات شعبية ضد الجولاني تطالب بإسقاطه أو رحيله.
ومن أظهر نقاط الخلاف مع تنظيم القاعدة التي كان
يؤكد عليها الجولاني كثيراً أنه حركة جهادية محلية تهدف إلى التحرر من نظام الأسد
وتحكيم الشريعة داخل سوريا، وليس له أي علاقة بتحقيق أهداف أخرى في أي بلد آخر،
إضافة إلى اعتماد بعض السلوكيات المغايرة للتنظيمات المسلحة التقليدية، منها أنه
أوقف قضية التعدي على عمل المنظمات الإنسانية والسماح لها بالعمل، كما أنه أظهر
قدرة على عقد تفاهمات ومواءمات دولية، منها أنه أوقف الهجمات على قاعدة
"حميميم" الروسية ومنع شن الهجمات عليها.
كذلك من المشاهدات الملموسة في أثناء إدارة إدلب
أنه قدم الجوانب المجتمعية المعيشية على الأمور الشرعية، مثل: تأسيس المرافق
والأبنية وسد الاحتياجات الاقتصادية وتأسيس حكومة تكنوقراط، مع محاولة إقامة
علاقات جيدة مع السكان المحليين بهدف تدعيم بقاء الهيئة في المحافظة، كما حرص على
تقليل وجود المقاتلين الأجانب بين صفوف الهيئة حتى يكون مقاتلي الهيئة أكثر قبولا
لدى الشعب السوري، حتى أنه بدأ يصف داعش بأنهم مجموعات مزعزعة لاستقرار البلاد.
العلاقة بين تركيا وهيئة تحرير الشام:
تقع مدينة إدلب التي يسيطر عليها الجولاني في قلب
الشمال السوري، وقدر الله أن يكون لهذه المدينة أهمية استراتيجية كبرى لأنها تقع
على مقربة من طريق حلب دمشق الدولي، وتجاور مدينة اللاذقية معقل الطائفة العلوية،
كما أنها تحاذي تركيا التي تدعم الفصائل المسلحة في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية
الكردية (قسد)، وقد أحكم الجولاني قبضته على مساحة كبيرة من إدلب وعين لها حكومة
تكنوقراط تحت اسم حكومة الإنقاذ، وقد وضعت حكومة الإنقاذ يدها على النفط في هذه
المنطقة وتبلغ عائداتها منه حوالي مليون دولار شهريا، تتمكن من خلالها من تسيير
الأعمال الحكومية في إدلب.
وقد نجحت حكومة الإنقاذ في التواصل مع تركيا،
وتوصلت عبر مفاوضات ومباحثات إلى أن تدير الهيئة حماية نقاط المراقبة الحدودية بين
تركيا وسوريا، كما سمحت الهيئة للدوريات التركية بدخول الأراضي التي تسيطر عليها
الهيئة، من أجل حماية نقاط المراقبة التركية، وهذه الأوجه من التعاون فتحت الطريق
أمام تركيا للتعرف على الجولاني عن قرب، وإقامة علاقات متبادلة معه.
ومع الوقت قامت الهيئة بحماية الأراضي التركية من
الهجمات التي كانت تقوم بها بعض الفصائل المسلحة في الشمال، حتى أن الهيئة قامت
باعتقال عدد من المسلحين المطلوبين لدى تركيا وسلمتهم للسلطات التركية، كما أن
تركيا تمكنت بمساعدة الهيئة من القيام بالعمليات اللوجيستية والعسكرية المطلوبة في
ظل تنسيق كامل مع رجال الهيئة.
من هنا نشأت العلاقات المصلحية بين الجولاني
وتركيا، فالجولاني يسعى لكسب غطاء سياسي من دولة إقليمية كبرى، وفي المقابل ترغب
تركيا في إقامة تفاهمات وعلاقات مع جماعة مسلحة ذات قيادة قوية مسيطرة يمكنها
التفاوض معها وتكون لديها القدرة على السيطرة على الأرض، وقد قدم لها الجولاني هذه
التوليفة الفريدة.
هذا النجاح الذي أحرزه الجولاني مع تركيا فتح
شهيته إلى تقديم نفسه أمام الغرب على أنه رجل دولة متفاهم، يدرك موازين القوى،
وحدود اللعبة، وقادر وراغب في الانخراط في عملية سياسية موسعة، وقد نجح الجولاني
في ذلك إلى حد بعيد، حتى وصف جيمس جيفري المبعوث الأمريكي السابق في سوريا الهيئة
بقوله: "أنها الخيار الأقل سوءا من بين الخيارات المختلفة بشأن إدلب".
وعليه فقد أصبحت إدلب أشبه بدويلة صغرى تحكمها
حكومة مؤلفة من حقائب وزارية مختلفة، مع خضوع الجانب العسكري والأمني والمالي فيها
لإدارة الهيئة بشكل مباشر، ومع الوقت تحول انشغال الهيئة الأكبر بإدلب فقط مع قلة
تواجد واهتمام في باقي المحافظات التي للهيئة فيها وجود مثل حلب وحماة ودرعا
ودمشق، مع العلم أن قوة الجولاني كاملة لا تتجاوز 15 ألف مقاتل على أقصى
التقديرات، ومن ثم انخرط معظم المقاتلين في القيام بالمهام العسكرية والأمنية في
إدلب، دون القيام بالمواجهات التقليدية مع قوات النظام كما هو حال باقي الفصائل.
ولا يبعد أن يكون الجولاني منبهراً بالنموذج
الطالباني باعتباره يحكي قصة وصول فصيل مسلح إلى سدة الحكم، وقد تهللت الهيئة فرحا
بوصول طالبان إلى الحكم، وأقاموا احتفالات ونظموا مسيرات حاشدة فرحا بذلك، بل
أصدروا بيان تأييد ومباركة، وقد لفت البيان نظر المجتمع الدولي إلى جرائم النظام
السوري وحلفائه في سوريا، كما صرح أحد زعماء الهيئة أن ما يجري في أفغانستان شبيه
بما يجري في سوريا، ومن ذلك الوقت قررت الهيئة التوسع إلى مواقع خارج إدلب.
كما عقد أحد منظري الهيئة محاضرة بعنوان:
"الجهاد والمقاومة في العالم الإسلامي: طالبان نموذجاً" وقد عقد فيها
مقارنة بين حركة طالبان وهيئة تحرير الشام، وبين أن بينهما نقاط اتفاق وتشابه
كثيرة، وذكر من أوجه الشبه: الرغبة في التواصل مع الدول الغربية، والقدرة على
تأسيس مجتمع مدني تحت مظلة الشريعة، مرتبطاً بالسياق المحلي فقط، ولا يتعارض مع
متطلبات السياقات الإقليمية والدولية.
الأحداث السورية بين التفاؤل والحذر والتوظيف:
وقعت الأحداث السورية بسرعة خاطفة أربكت
المراقبين، ومن ثم انطلقت ردود الأفعال تغلب جانب الفرح والابتهاج بزوال حكم بشار
دون النظر في مستقبل سوريا المجهول حتى الآن، ومع إغفال لتاريخ الجولاني الذي ما
زال فيما يبدو مقتنعا به غير متراجع عنه، مع العلم أنه لا مجال هنا لعقد مقارنة
بين بشار والجولاني، فلسنا بصدد اختيار يحتم علينا أن نختار أحدهما، لكننا أمام
واقع جديد لا يوجد فيه بشار بحمد الله، وفي نفس الوقت يتصدره الجولاني، ونريد أن
نعرف الموقف الصحيح مما يجرى في تلك البقعة.
وذلك من خلال الخلاصات التالية:
(1) من الغفلة أن نظن أن بشار سقط نتيجة مواجهة
عسكرية مع فصائل المعارضة، وإلا فبشار مستمر في الحكم بعد الثورة في 2011 لمدة 13
عام ولم يسقط خلال تلك الفترة رغم المعارك الطاحنة التي دارت بينه وبين الفصائل
المقاتلة مع تنوعها واختلافها، خاصة وأن التفاهمات الدولية انتهت إلى بقاء بشار في
الحكم رغم أنف الشعب السوري والفصائل المسلحة، بل كان بشار بالأمس القريب في
الجامعة العربية مندوباً عن سوريا.
(2) من الواضح أن تفاهمات دولية جديدة قد تكونت
واستقرت على الإطاحة ببشار، وهذه التفاهمات تتماشي مع رغبة إسرائيل بقطع الأذرع
الإيرانية في المنطقة، ورغبة تركيا في التخلص من بشار، وإنهاء ملف اللاجئين
السوريين الذين يقدر عددهم في تركيا وعلى حدودها بحوالي 4 مليون لاجئ سوري، كان
النظام السوري يعارض رجوعهم إلى سوريا مرة أخرى.
(3) نفرح لسقوط بشار لكننا نحزن على تدمير الجيش
السوري على يد القوات الصهيونية، وعلى احتلالها أجزاء أخرى من سوريا الحبيبة، وهذا
أمر يغفل عنه المبالغون في التفاؤل، رغم أنه عظيم الخطر ويزيد من وهن الأمة وضعفها
أمام عدوها.
(4) نفرح بما يظهره الجولاني من اعتدال ظاهري،
ولكن هل هو اعتدال حقيقي أم لمآرب سياسية؟ وهل ثبت أنه تراجع عن أفكاره القاعدية
الداعشية أم لا؟ وهل سلوك قواته على الأرض يُفهم منه أنه اعتدال أم لا؟ وهل سلوكه
مع الفصائل المقاتلة الأخرى يشهد لهذا الاعتدال أم لا؟
(5) نفرح لتحرر سوريا من قبضة الأسد، ولكن نقلق
من وقوعها في يد الفصائل المسلحة المتناحرة التي غلب على بعضها الاستهانة بسفك
الدماء والمسارعة في التكفير، فهل ستتراجع الفصائل عن فكرها وتراجع منهجها بعد
رحيل الأسد أم تبقى على ما اعتادته وألفته من حمل السلاح المواجهات بالعنف؟
(6) نفرح بفتح السجون السورية وخروج المعتقلين
منها، لكننا نخشى من استمرار النهج المتطرف على يد الفصائل المسلحة الحالية، خاصة
مع وجود أصوات من الداخل السوري تطالب الجولاني بفتح سجونه وإخراج قادة الفصائل
وأعضائهم منها.
(7) نفرح لاستقبال الشعب للمقاتلين بالأحضان،
ونخشى من فشل الفصائل في إدارة الدولة فيفشل النموذج سريعا، وينقلب الناس على من
حملوهم على الأعناق بالأمس القريب.
(8) نفرح بانعتاق سوريا من التبعية الروسية
الإيرانية، لكننا نخشى من التبعية القادمة، هل ستكون لأمريكا، أم لتركيا، خاصة مع
السكوت المريب على الاجتياح الإسرائيلي للبلاد وتدميرها لكامل معدات الجيش، فضلاً
عن تصريح الجولاني الذي صرح فيه بإمكانية بقاء القوات الأمريكية في البلاد.
(9) نفرح لدخول المسجد الأموي، ولكن نحزن على
الغيبوبة التي يعيش فيها أتباع هذه الفصائل، من أنهم غدا سيدخلون المسجد الأقصى
محررين له، فإذ بالقوات الإسرائيلية تأتي لهم على مشارف دمشق فلم يحركوا ساكنا،
فإلى متى تظل المتاجرة بالمشاعر ودغدغة العواطف هي ديدن تلك الفصائل وسبيلها؟ فضلا
عن الانحراف البين بالمطالبة بتحرير المسجد النبوي والمسجد الحرام!!
(10) نفرح لفرحة الشعب السوري ونتعجب من السلوك
المنحرف للجماعات الصدامية والإخوانية خارج سوريا ممن تمدح النموذج السوري من أجل
الرغبة في استنساخه في مصر على وجه التحديد، فقد انتعشت تلك التيارات المنفلتة
محاولة نفخ الروح في الطرح الثوري مرة أخرى، متناسين أن الجيش السوري قد انهار
بالكلية وأن إسرائيل تعربد في الأراضي السورية كما تحب، وأن البلاد محتلة من عدة
دول كبرى، وأن 15 مليون سوري يعيشون في الملاجئ خارج بلادهم، وأن العملة السورية
في أدنى مستوياتها، وأن آلاف من المقاتلين الأجانب مازالوا مسلحين في أنحاء سوريا،
فأي نموذج يريدون محاكاته؟ وهل بقى عندهم مسكة من العقل أو ضابط من الشرع يردعهم
عن مثل هذه المغامرات التي تعصف بأمن الأوطان وتهدم دعائم البلاد؟
نسأل الله أن يهيئ لبلادنا وبلاد المسلمين كل خير
وأن يصرف عنا وعنهم كل مكروه وشر.
موقع أنا السلفي