الاثنين، ١٣ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف

السلطان محمود بن محمد الكجراتي- السلطان محمود بن سبكتكين- آق سنقر والي الموصل

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف
محمود قناوي
الجمعة ١١ مارس ٢٠١٦ - ١٤:٢٨ م
3533

نماذج من عدل الملوك في زمن السلف

كتبه/ محمود قناوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(1)

وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: "وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والاسلام. وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة".

وقد آمن ملوك السلف أن عاقبة الظلم وخيمة، وأن الظلم سبب لانهيار الأمم والأدلة على ذلك كثيرة، منها: ما ذكره ابن الأثير أن سيف الدين محمد بن الحسين الغوري ملك الغور كان عادلا حسن السيرة، فمن عدله، وخوفه عاقبة الظلم أنّه حاصر أهل هراة، فلما ملكها، أراد عسكره أن ينهبوها، فنزل على درب المدينة، وأحضر الأموال والثياب، فأعطى جميع عسكره منها، وقال هذا خيرٌ من أنْ تنهبوا أموال المسلمين، وتسخطوا الله تعالى، فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم.

وكتب التاريخ زاخرة بآلاف القصص التي تدل على اهتمام الملوك العظماء بالعدل ومظاهر ذلك كثيرة فمن مظاهر عدل الملوك أنهم كانوا يقيمون الحد على أقاربهم، والمقربين منهم بل كانوا يعاقبون الجناة والمذنبين من المقربين والكبراء بأكثر مما كانوا يعاملون به عامة الشعب، وإليك بعض من مواقفهم الناصعة:

 

1- السلطان محمود بن محمد الكجراتي:

كان من خيار السلاطين في الهند وقد فتح قلعة دوار كار، وكان بها صنم من أشهر أصنام المشركين بالهند، وكان الوثنيون يحجون إليه ويرون أن من العبادة تكلف المشاق في الوصول إليه، حتى أن من الهنود من كان ينبطح على وجهه ويمد يديه أمامه ويقف ثم يضع قدمه على منتهى يده وينبطح ويمد يده ويقف، وهكذا يظل على هذه السخافة حتى يصل إلى الصنم بعد عدة أشهر وقد كانت قلعة دوار كار قلعة شديدة التحصين فحاصرها السلطان محمود ثم فتحها ودمر ذلك الصنم الذي يعبد من دون الله، وقد كان السلطان محمود رجلا عادلا منقادا لأمر الله لا تأخذه في الله لومة لائم فمن عدله أنه بلغه أن أحد ملوكه، وهو الملك بهاء، قتل رجلا مسلما ظلما فطلبه السلطان، فلاذ الملك بهاء بالملك عماد وعضد الملك واستجار به فلم يجد له سبيلا للخلاص من عدل السلطان إلا أنهم وجدوا حيلة لينجوا بها بهاء من السلطان محمود وهي أنهم اتفقوا مع رجلين أن ينسبوا القتل لهما، وضمنا لهما دفع الملك الدية عنهما فذهب الرجلان وأقرا على أنفسهما وبعد الإقرار رفض أهل المقتول أخذ الدية، وأرادوا القصاص فقتلهما السلطان محمود وبعد أن قتلهما تبين له طبيعة الحال فجلس بنفسه للقضاء وأمر بالملكين أن يقتلا قصاصا ولم يمنعه كونهما من عظماء ملوكه أن لا يقتص منهما، أو أن يغير حكم الله كما يحدث من كثير غيره، فرحمة الله على السلطان محمود فقد كان حقا إماما عادلا أما الناس، اليوم فحدث عن الظلم والجور ولا حرج

يقولون إن العدل في الناس ظاهر ** ولم أر شيئا منه سرا ولا جهرا

ولكن رأيت الناس غالب أمرهم ** إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا  

ومن عدل ذلك السلطان أيضا أنه مع كونه ملك البلاد خمسة وخمسون سنة لم يطمع في بلاد المسلمين المجاورة له وإن كانت ضعيفة بل كان يقف مع الضعيف حتى يأخذ له حقه من القوي ومن ذلك أنه بلغه أن السلطان محمود شاه الخلجي قد هاجم مملكة إسلامية بجواره؛ لأن ملكها طفل لم يبلغ الحلم فقام السلطان محمود الكجراتي بالهجوم على مملكة محمود شاه، وأجبره على التراجع عن قصر الطفل فرجع الخلجي فأرسل له السلطان محمود رسالة قال فيها: "ليس من المروءة قصد طفل لم يبلغ الحلم وقد التزمت حفظ ملكه إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، وفيما يليك من بلاد الكفر ما يغنيك عنه ويرفع درجتك بالجهاد في سبيل الله"(2)

فائدة:

في هذه القصة نجد أن السلطان محمد الكنجراني قتل ملكين من أعظم ملوكه قصاصا، ولم يحاب أحدا في حكم الله عز وجل، وكيف يحابي أحدا والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(2) ويقول - صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد"(3). فحدود الله يجب أن تطبق على القوي والضعيف، والغني والفقير فكلهم عند الله سواسية

2-السلطان محمود بن سبكتكين:

قال ابن كثير عن محمود بن سبكتكين: "كان عادلا جيدا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك "محمود بن سبكتكين" يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامراته وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحدٌ عليه خوفا وهيبة للملك، فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل: ويحك متى جاءك فأتني وأعلمني ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلي ولو جاءك في الليل فأتني وأعلمني، ثم إن الملك تقدم إلى حاجبه وقال له: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلي ليلا أو نهارا، فذهب الرجل مسرورا داعيا للسلطان محمود بالخير، فما كانت إلا ليلة أو ليلتان، حتى هجم ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله فذهب الرجل باكيا إلى الملك، فقيل له: إن الملك نائم. فقال الرجل: قد تقدم إليكم ألا أُمنع منه ليلا ولا نهارا فنبهوا الملك. فخرج معه بنفسه وليس معه أحد حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد وعندها شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء إلى الغلام فاحتز رأس الغلام، وقال للرجل: ويحك الحقني بشربة ماء. فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة؟ قال الملك: ويحك إنه ابن أختي وإني كرهت أن أشاهده "حالة الذبح" فقال الرجل ولم طلبت الماء؟ فقال الملك: إني أقسمت على نفسي منذ أخبرتني ألا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أنصرك وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الأيام كلها حتى كان ما كان مما رأيت، فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله ولم يشعر به أحد.

4- آق سنقر والي الموصل

قال عنه ابن الأثير: كان مملوكا تركيا خيّرا، يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله، وكان خير الولاة، يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجدا. وفي عهده رحمه الله حاصر الصليبيون حلب وشددوا عليها الحصار، حتى أكل المسلمون الميتة والكلاب والقطط من شدة الجوع، فذهب بعض المسلمين من أهل حلب إلى الموصل واستصرخوا والي الموصل آق سنقر عبد الله البرسقي، وشكوا إليه ما حل بالمسلمين وطلبوا منه أن يغيثهم فقال لهم: كيف ذلك أنا كما ترون مطروح على فراشي مريضا لا أستطيع الحركة؟ ثم رفع سنقر يده إلى السماء وتذلل لله وخضع له بالدعاء وقال: "اللهم إني أشهدك على أنني إن عوفيت من مرضي هذا لأنصرنهم". وبعد ثلاثة أيام شفاه الله عز وجل من مرضه فخرج آق سنقر إلى الناس ودعاهم إلى الجهاد ونصرة إخوانهم في حلب، وبعد بضعة أيام خرج رحمه الله بجيش يقوده بنفسه لنجدة إخوانه في حلب والتقى مع الفرنجة وهزمهم فهربوا كالفئران من أمام ذلك البطل.

تواضع آق سنقر رحمه الله:

كان آق سنقر يصلي كل ليلة صلاة كثيرة وكان يتوضأ بنفسه، ولا يستعين بأحد من خدمه، وقد ذكر أحد خدمه أنه رآه مرة في بعض ليالي الشتاء وفي يده إناء من نحاس وقد قصد دجلة ليأخذ ماء ليتوضأ به من النهر، فلما رأيته قمت إليه لآخذ الإبريق من يده فمنعني وقال: يا مسكين ارجع إلى مكانك فإنه البرد. فاجتهدت به لآخذ الإبريق من يده فلم يفعل، ولم يزل حتى ردني إلى مكاني ثم توضأ، ووقف يصلي قيام الليل كعادته.

ذكر عدله رحمه الله:

قال القاضي أبو المحسن يوسف رافع بن تميم رحمه الله: " كان آق سنقر البرسقي ديّنا عادلا، قال: ومما يؤثر عنه أنه قال يوما لقاضي الموصل: أريد أن تساوي بين الرفيع والوضيع في مجلس الحكم، وألا يختص أولو الهيئات والمراتب بزيادة احترام في مجلس الحكم! فقال القاضي: وكيف بذلك؟ فقال الأمير آق سنقر: ما لهذا طريق إلا أن ترتاد خصما يخاصمني في قضية، ويدعوني إلى مجلس الحكم، وأحضر إليك وتلتزم معي ما تلتزمه مع خصمي، وسوف أرسل إليك خصما لا تشك أنه خصم لي ويدعي علي بدعوى فادعني حينئذ إلى مجلس الحكم لأحضر إليك، وجاء آق سنقر إلى زوجته وقال لها وكلي وكيلا يطالبني بصداقك فوكلت وكيلا، ومضى الوكيل إلى مجلس الحكم وقال خصومة مع قسيم الدولة آق سنقر، وأطلب حضوره إلى مجلس الحكم، فسير إليه القاضي ودعاه فأجاب وحضر إلى مجلس الحكم فلم يقم له القاضي، وساوى بينه وبين خصمه في ترك القيام والاحترام، وادعى عليه الوكيل وأثبت الوكالة واعترف البرسقي بالصداق فأمره القاضي فدفعه ثم أمر القاضي بعمل ختم مكتوب عليه "أجب داعي الله" وأمره إذا حضر خصم وختم له يمضي بالورقة المختومة إلى خصمه كائنا من كان، ولا يجسر أحد على التخلف عن مجلس الحكم.

حسن الخاتمة:

كان آق سنقر شديدا على الرافضة والإسماعيلية لعنهم الله، فرأى يوما في منامه أن عدة من كلاب ثاروا به، فقتل بعضها ونال منه الباقون، فقص رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بعدم الخروج إلى صلاة الجمعة في ذلك اليوم، فقال لهم: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبدا. وخرج إلى المسجد وهو صائم فثار عليه ما يزيد على عشرة أنفس من الإسماعيلية فقتل بيده ثلاثة منهم ثم قتل في المسجد رحمه الله. وللحديث بقية بإذن الله.

 

 

المصادر

1-التاريخ الاسلامي فيما بعد الخلفاء الراشدين ص160 بتصرف.

 

2- البداية والنهايةج12حوادث سنة 421.

 

3-آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني ص104 عند ذكر مدينة كاريان

4- بغية الطلب في تاريخ حلب ص385

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة