الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الملة الإبراهيمية (3) تعظيم الله تعالى لملة إبراهيم عليه السلام

الملة الإبراهيمية (3) تعظيم الله تعالى لملة إبراهيم عليه السلام
الاثنين ٢١ مارس ٢٠٢٢ - ٠٠:١١ ص
322

الملة الإبراهيمية (3) تعظيم الله تعالى لملة إبراهيم عليه السلام

كتبه/ محمد إسماعيل المقدم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن شـرف إبراهيم عليه السلام أن أضافه الله تعالى إلى دين الإسلام، ونسب الملة الحنيفية إلى اسمه الشريف فقال: "ملة إبراهيم"، وقد عظَّم الله سبحانه "ملة إبراهيم" بأساليب شتَّى: 

- فقد نصَّ على أن جميع الأنبياء من بعده افتخروا بانتمائهم إلى ملة إبراهيم ودعوا قومهم إليها، فقد قال تعالى: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ ‌سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيرها:

"يقول تبارك وتعالى ردًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء: فإنه جرَّد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يدعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ مِن كلِّ معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه".

وقال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي ‌بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (??) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ"، وقال تعالى: "‌وَمَا ‌كَانَ ‌اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ"، وقال تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ‌قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ".

ولهذا وأمثاله قال تعالى: "‌وَمَنْ ‌يَرْغَبُ ‌عَنْ ‌مِلَّةِ ‌إِبْرَاهِيمَ" أي: عـن طريقته ومنهجه، فيخالفها ويرغب عنهـا، "إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طـريـق مَـن اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد، مِن حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلًا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي؛ فأي سفه أعظم مِن هذا؟! أم أي ظلم أكبر من هذا؟!

وقال أبو العالية وقتادة: "نزلت هذه الآية في اليهود؛ فأحدثوا طريقا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أخذوه"، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: "‌مَا ‌كَانَ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ".

وقوله تعالى: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ ‌أَسْلَمْتُ ‌لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"، أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا، وقوله: "‌وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"، أي: وَصَّى بهذه الملة وهي الإسلام، ولحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا بها أبناءهم مِن بعدهم، أي: أحسِنوا في حال الحياة، والزَموا هذا؛ ليرزقكم الله الموت عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. 

وقد أجرى الله الكريم عادته بأن مَن قَصَد الخيرَ وُفِّق له ويُسِّر عليه، ومَن نوى صالحًا ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس"، وقد قال الله تعالى: "‌فَأَمَّا ‌مَنْ ‌أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى"، "أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَ?هَكَ وَإِلَ?هَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَ?هًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

يقول تعالى محتجًا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصَّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهـم: "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَ?هَكَ وَإِلَ?هَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ"، وهـذا مـن بـاب التغليب؛ لأن إسماعيل عمه.

"إِلَه وَاحِدًا" أي: نوحده بالألوهية، ولا نشرك به شيئًا غيره.

"وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" أي: مطيعون خاضعون، كما قال تعالى: "‌وَلَهُ ‌أَسْلَمَ ‌مَنْ ‌فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ".

والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: "‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌مِنْ ‌رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ".

والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها:

- قوله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلات دِينُنَا وَاحِدٌ"، وقوله تعالى: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ"، أي: مضت، "لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ" أي: إن السلف الماضين مِن آبائكم مِن الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم، "وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". 

وهذا يوسف عليه السلام يفخر بانتسابه إلى ملة إبراهيم، فقد قصَّ الله علينا في حواره عليه السلام مع صاحبي السجن: "‌قَالَ ‌لَا ‌يَأْتِيكُمَا ‌طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عـارف بتفسيره، ويخبرهمـا بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال: "‌لَا ‌يَأْتِيكُمَا ‌طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ" قال مجاهد: في نومكما، "إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا"، ثم قال: وهذا إنما هو مِن تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابًا ولا عقابًا في المعاد.

"وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ" يقـول: هـجـرت طـريـق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون حال مَن سلك طريق الهدى، طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين؛ فإنه يهدي قلبه، ويعلمه ما لم يعلمه، ويجعله إمامًا يُقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد.

"مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ"؛ هذا التوحيد، وهو: الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، "مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا" أي: أوحاه إلينا، وأمرنا بـه، " وَعَلَى النَّاسِ"؛ إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك، "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ" أي: لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيـل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أكرم الناس؟ قال: "أكرمهم أتقاهم"، قالوا: يا نبي الله، ليس عن هذا نسألك، قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" إلخ.

الجواب الأول: أكرم الناس يوسف من جهة الشرف بالأعمال الصالحة، والثاني: من جهة الشرف بالنسب الصالح.

وقد افتخر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بانتمائه لملة أبيه إبراهيم عليه السلام، "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ".

يقول تعالى أمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم -سيد المرسلين-: أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم؛ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.

و"دِينًا قِيَمًا" أي: قائمًا ثابتًا، " مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" كقوله: ""وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ ‌سَفِهَ نَفْسَهُ".

وأمر الله تعالى خليله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية، فـقـال: "‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ ‌حَنِيفًا"، فأما "الأمة" فهو: الإمام الذي يقتدَى به، والقانت هو: الخاشع المطيع، والحنيف هو: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد.

وقوله: "شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ" أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه، كما قال: "‌وَإِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى"، أي: قام بجميـع مـا أمـره الله تعالى به، "‌اجْتَبَاهُ" أي: اختاره واصطفاه وهداه إلى صراط مستقيم له، وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي.

وقوله: "وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً" أي: جمعنا له خير الدنيـا مـن جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة، "وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ".

وقال مجاهد في قوله: "وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً"، أي: لسان صدق، وقوله: "‌ثُمَّ ‌أَوْحَيْنَا ‌إِلَيْكَ ‌أَنِ ‌اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا" أي: مِـن كـمالـه وعظمته وصحة توحيده وطريقه، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء: "‌أَنِ ‌اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية